كان من أعجب العجيب، وأغرب الغريب، في خطاب بيجن رئيس وزراء العدو الذي أذاعه على الشعب المصري في الحادي عشر من شهر نوفمبر 1977 .. أن يتحدث عن الحق والعدل والقيم الإنسانية العظيمة ..و إلى الشعب المصري بالذات…
ولو كان ذلك الخطاب موجها لغير الشعب المصري لكان الأمر مقبولا بعض الشيء وخاصة لدى الذين لا يعرفون تاريخ اليهود ولا مفهومهم للحق والعدل والقيم الإنسانية العظيمة التي تبجح رئيس وزراء العدو بالإشادة بها..
ولكن تاريخ اليهود في مصر يمثل صفحة سوداء في السيرة الإنسانية منذ أقدم العصور، لا يشبهها تاريخ أي شعب في العالم على الإطلاق.. والتوراة حافلة بالمنكرات والمخازي التي اقترفها العبرانيون على الشعب المصري، وبقدر ما هي حافلة بالمكارم التي أغدقتها مصر عليهم منذ أن وطئوا أرضها ونعموا بخيراتها.
وقصة اليهود في مصر، تمثل منذ البداية أبشع مؤامرة في تاريخ السلوك الإنساني… وكان الجيل الأول من أبناء إسرائيل-يعقوب-هم أبطال هذه المؤامرة .. ومنذ ذلك الجيل تحدرت إلى أجيال بني إسرائيل، طبائع الغدر والاستغلال، وهي ما تزال ماثلة أمامنا في جيل مناحم بيجن وأمثاله من قادة إسرائيل، السابقين والمعاصرين.
وقد سجلت التوراة تفاصيل تلك المؤامرة القذرة التي قام بها بنو إسرائيل الأوائل.. وهم أبناء يعقوب الأحد عشر، حين تآمروا مجتمعين على أخيهم يوسف، الإبن الثاني عشر.. ونحن لا نرجع في تفاصيلها إلى القرآن الكريم.. وإنما نقتبس ما جاء في التوراة عن ظروفها وملابساتها ودوافعها.. وربما كانت تلك المؤامرة أول مأساة إنسانية مسجلة يستبيح فيها الأخ دم أخيه ثم يستغل إسم أخيه.
يقول الإصحاح السابع والثلاثون من سفر التكوين أن إسرائيل-يعقوب- أحب ولده يوسف أكثر من سائر بنيه" لأنه ابن شيخوخته.. فلما رأى إخوته أن أباهم أحبه أكثر من جميع إخوته أبغضوه ولم يستطيعوا أن يكلموه بسلام" وهكذا كانت بداية القطيعة والبغضاء بين يوسف وإخوته.
وتروي التوراة بعد ذلك أن يوسف بدأ يحلم أحلاما ويقصها على إخوته "فازدادوا بغضا له" وتوالت أحلامه بعد ذلك وازدادوا غضباً عليه , وحسداً له , كلما كان يقص عليهم أحلامه وكانوا يحسبون أنه سيكون خيراً منهم وأكبر شأنا، فقد كان ذلك هو تفسيرهم لأحلام أخيهم.
ثم تروي التوراة أن إسرائيل-يعقوب-أرسل ولده يوسف إلى منطقة دوثان حيث كان أبناؤه يرعون غنم أبيهم… "فلما أبصروه من بعيد قبل أن يقترب إليهم احتالوا له ليميتوه" هكذا أراد الإخوة الأحد عشر قتل أخيهم غيلة وغدرا.
ولكن أحد إخوته واسمه "روبين" قال "اطرحوه في هذه البئر التي في البرية".
وتقول التوراة أن قافلة إسماعيليين كانت مقبلة من جلعاد-الأردن- "وجمالهم حاملة وذاهبين لينزلوا بها إلى مصر، فقال يهوذا لإخوته-كأنه يهودي أكثر منهم، ينظر إلى المؤامرة من زاوية المنفعة"- ما الفائدة أن نقتل أخانا ونخفي دمه، تعالوا نبيعه للإسماعيلين"، وباعه أخوته للإسماعليين بعشرين من الفضة فأتو بيوسف إلى مصر.. وكأن إخوة يوسف أخذوا قميصه وذبحوا تيسا من المعزى وغمسوا القميص في الدم وأحضروه إلى أبيهم وقالوا له "وحش رديء أكله، افترس يوسف افتراسا".. فمزق أبوه-ثيابه "وناح على ابنه أياما كثيرة"..
تلك هي المؤامرة، ولعلها أول تراجيديا إنسانية مدونة، يتآمر فيها الأخوة على أخيهم، فكروا بادئ ذي بدء بقتله لأنه يحلم أحلاما كانت تغيظهم وتخيفهم .
ثم تكشف القصة عن الخلق اليهودي في نزعته إلى المنفعة المادية والاستغلال.. وتتحول المؤامرة من قتل أخيهم إلى بيعه، وتتكامل القصة بعد ذلك بإخفاء الجريمة على أبيهم، بعد أن غمسوا قميص أخيهم بدم تيس من الماشية التي كانوا يرعونها لأبيهم.
وتمضي القصة فيما بعد، ليبدأ تاريخ بني إسرائيل مع مصر، وتتكشف أخلاق بني إسرائيل على حقيقتها بكل ما فيها من مكر وخداع وكذب وتضليل، ونكران للجميل، وجحود للمعروف. كل ذلك بنص التوراة نفسها، بعباراتها وكلماتها.. وكان مقدرا أن يكون يوسف هو بطل القصة، ليأتي بعده بطل آخر، في سياق قصة أخرى، وسيكون موسى هو البطل الثاني.
وقصة يوسف في مصر معروفة عند العامة، ناهيك عن المثقفين، ولا داعي للدخول في تفاصيلها.
وبكلمة موجزة، يمكننا تلخيص سرد التوراة للتفاصيل، أن يوسف أصبح ذا شأن كبير في مصر، بعد أن سجن وامتحن في حصانته وعفته.. وقال له الفرعون "أنت تكون على بيتي وعلى فمك يقبل جميع شعبي إلا أن الكرسي أكون فيه أعظم منك" وبهذا أصبح يوسف هو الرجل الثاني في الأرض لا يعلو عليه إلا الفرعون.
وتوكيدا لذلك فإن الفرعون قال ليوسف، فيما تروي التوراة، "جعلتك على كل أرض مصر، وخلع فرعون خاتمه من يده وجعله في يد يوسف والبسه ثياب بوص ووضع طوق ذهب في عنقه وأركبه في مركبته الثانية ونادوا أمامه اركعوا.." وأصبحت مصر تركع ليوسف كما تركع للفرعون.. وأضاف الفرعون قائلا ليوسف "بدونك لا يرفع إنسان يده ولا رجله في كل أرض مصر" وأصبح هذا الإسرائيلي، يوسف بن يعقوب (إسرائيل)، هو حاكم بأمره على كل أرض مصر.
ولم يكتف الفرعون بذلك، ولكنه أراد أن يجعل هذا الإسرائيلي اللقيط-الذي التقطه بعض السيارة من البئر-مصريا أرستقراطيا من الأسرة المالكة، فأعطاه أبنة كاهن مصر زوجة له.
وكان أمراً خطيرا في حياة مصر أن تُعطي أبنة الكاهن الأكبر إلى إنسان أجنبي ليس معروف الأب والأم تم بيعه وشراؤه بالأمس في سوق العبيد.
وقد بلغ من شأن يوسف في مصر أنه خرج في جولة تفقدية لوطنه وشعبه كما يتلطف كل ملك مع رعاياه، وتقول لنا التوراة أن يوسف خرج في جولة كبرى "واجتاز في كل أرض مصر"، وليس بعد هذا الإكرام إكرام، ولا بعد هذا التفخيم والتعظيم من تفخيم وتعظيم.
وطابت الأيام ليوسف في مصر وولد له ولدان من زوجته إبنة كاهن مصر الأكبر وبلغ من سروره ونعمائه أن أسمي ابنه الاكبر"منسي الله قد أنساه كل تعبه وكل بيت أبيه".. وسنرى فيما بعد إذا كانت مصر قد أصبحت جزءا من حياته، أو أن بيت أبيه هو البداية والنهاية بعد أن تآمروا عليه وأرادوا قتله..
وحدثت مجاعة في كل الأرض كما تقول التوراة، فأرسل يعقوب أبناءه إلى مصر ليشتروا قمحا.. ولما وصلوا مصر استقبلهم يوسف وملأ أوعيتهم قمحا من غير ثمن، وحينما عادوا إلى فلسطين سردوا على أبيهم يعقوب ما كان بينهم وبين أخيهم يوسف، وما بلغه من عز وسلطان.. ثم عادوا مرة أخرى إلى مصر ليشتروا قمحا.
وبعد استطرادات في الأحداث كما ترويها التوراة، تم التعارف بين يوسف وإخوته وحمَّلهم رسالة إلى أبيه "قولوا لأبي يعقوب قد جعلني الله مسيراً لكل مصر، أنزل إليَّ لتسكن في أرض جاشان-المنطقة الشرقية بمصر-ولتكون قريباً مني أنت وبنوك وبنو بنيك وغنمك وبقرك وتجدون أبي بكل مجدي في مصر.. وتستعجلون وتنزلون بأبي إلى هنا".
وعلم فرعون بما كان بين يوسف وإخوته فقال لهم خذوا أباكم وبيتكم وتعالوا إليَّ فأعطيكم خيرات أرض مصر وتأكلوا دسم الأرض خذوا من أرض مصر عجلات لأولادكم ونسائكم واحملوا أباكم وتعالوا ولا تحزن عيونكم على أثاثكم لأن خيرات جميع أرض مصر لكم" وهكذا زودهم الفرعون بالعربات ليسهل ذهابهم و إيابهم، وناشدهم أن لا يأسفوا على ترك أثاثهم، فإن دسم مصر وخيراتها ستكون لهم وبين أيديهم. وليس في التاريخ كرم أعظم من هذا الكرم.. وسنرى إذا كان بنو إسرائيل سيقابلون هذا الكرم بالعرفان والوفاء.
وعاد أبناء يعقوب إلى أرض كنعان، بعد أن أغدق يوسف عليهم الزاد والملابس والهدايا بأمر فرعون وأوصاهم أن "لا يتغاضبوا" كما تقول التوراة، فقد أدرك أن سيماهم في وجوههم وأنهم قوم أشرار لا يؤِّمن بعضهم على بعض.
وسُرَّ يعقوب بالذهاب إلى مصر فارتحل هو وأولاده ونساؤه على العربات المصرية وكانت هذه أرفع مظاهر التقدم والترف والحضارة…. وجاءوا إلى مصر وكان "جميع بيت يعقوب الذين جاءوا إلى مصر سبعين نسمة"، رجالاً ونساءً وبنين وبناتٍ، وعلم الفرعون بمقدم يعقوب وأهل بيته، فاستدعى إليه يوسف وقال له :"أرض مصر قدامك في أفضل الأرض أسكِن أباك وإخوتك، ليسكنوا في أرض جاشان"… واستقبل الفرعون يعقوب وأكرم مثواه ومن كان يحظى، في ذلك الزمن، أن يدخل على الفرعون ويحظى بشرف المثول بين يديه.
وتقول التوراة أن يوسف "أسكن أباه وإخوته وأعطاهم ملكا في أرض مصر في أفضل الأرض في أرض رعمسيس كما أمر فرعون", وبهذا أصبح بنو إسرائيل الأوائل أصحاب أملاك في أجود الأراضي في مصر، "فقد تملكوا فيها وأثمروا وكثروا جداً"… وعاش يعقوب في مصر سبع عشرة سنة وهي عمر طويل كان يكفي أن يجعل منه مصريا وفيا لمصر، لولا أن الوفاء ليس من طبائع هؤلاء القوم.
وشاخ يعقوب ولما أدركته المنية أوصى إبنه يوسف أن لا يدفنه في مصر بل مع آبائه في مقبرتهم.. وحل الأجل ومات يعقوب "وأمر يوسف عبيده الأطباء أن يحنطوا أباه فحنط الأطباء إسرائيل.. وبكى عليه المصريون سبعين يوما" وهكذا مات يعقوب في ظلال عز مصر وخيرها وكرمها… يحنطه الأطباء . وهم من عبيد يوسف وحنطوه كما يحنطون الفراعنة حكام مصر والعظام.
ولولا وصية يعقوب الآنفة الذكر لدفن يعقوب في مقابر الملوك أو في جوف هرم لا يقل ضخامة عن أهرامات مصر الشهيرة، ولو تم ذلك، لاتخذ منه بنو إسرائيل المبكى الثاني لهم يبكون جدهم الأعلى الذي خلع عليهم لقب بني إسرائيل. ولكن الله سلم وما تم ما كان يمكن أن يتم.. بل إنه لو تم لصدر وعد بلفور بشأن مصر لا فلسطين!
وفي موكب جنائزي فخيم.ينُقل يعقوب من أرض مصر إلى أرض كنعان كما تروي التوراة "ومعه عبيد فرعون شيوخ بيته، وجميع شيوخ أرض مصر"..وسار في الموكب "فرسان ومركبات.. فكان الجيش كثيرا جدا.. فأتوا إلى بيدر أطاد الذي في عبر الأردن وناحوا هناك نوحا عظيما وشديدا جدا وصنع لأبيه مناحة سبعة أيام" وهكذا جعل المصريون من جنازة يعقوب أكبر جنازة في التاريخ القديم والحديث، فقط قطعت سيناء والأردن إلى فلسطين في موكب عظيم يقوده جيش مصر وأعيانها، بما ليس له مثيل في تاريخ الموتى من عظماء البشر.
وعاد يوسف بعد دفن أبيه إلى مصر، معززا مكرما إلى أن حل أجله هو كذلك … فاستحلف بني إسرائيل أن ينقلوا عظامه من مصر. كما تقول التوراة بصراحة ومن غير اعتذار.