وقد سمي سفر القضاة، لأنه بعد وفاة يشوع، تولى أمور بني إسرائيل شيوخهم وسموا قضاة لأنهم كانوا يفصلون المنازعات بينهم، ويلجأون إليهم لتخليصهم من أيدي أهل البلاد: من الفلسطينيين.. وقد أوردت التوراة ذكرهم عشرات المرات.
وكان عدد هؤلاء القضاة أربعة عشر، من أشهرهم شمشون الجبار، وصموئيل المدفون في "النبي صموئيل" إحدى القرى العربية في شمال بيت المقدس..
وسفر القضاة، في مجمله، يسجل مخازي بني إسرائيل، وانحرافهم عن جادة الحق، وعكوفهم على عبادة الأوثان واستنجادهم في كل مرة بالقضاة ليخلصوهم من الفلسطينيين.
وعبارة "يخلصونهم من الفلسطينيين" وردت عدة مرات في سفر القضاة على لسان بني إسرائيل حين يفزعون إلى قضاتهم يطلبون منهم أن يحاربوا عنهم ويدفعوا عنهم هجمات الفلسطينيين.
ولا بد لنا من وقفة قصيرة أمام سفر القضاة لنرى الهزائم التي حلت ببني إسرائيل في عهد القضاة، والمعارك البطولية التي خاضها الفلسطينيون دفاعا عن أرضهم.
وأول ما يطالعنا الإصحاح الأول من سفر القضاة،أن بني إسرائيل قد صعدوا،بأمر الرب، ليحاربوا الكنعانيين فضربوا منهم عشرة آلاف رجل، وأمسكوا بمليكهم "ادوني" وأخذوه إلى أورشليم ومات هناك. ثم حارب بنو إسرائيل "أورشليم وأخذوها وضربوها بحد السيف وأشعلوا المدينة بالنار.. وحاربوا الكنعانيين سكان الجبل والجنوب والسهل، وساروا على الكنعانيين الساكنين في حبرون.. ومن هناك على سكان دبير.. ثم ضربوا الكنعانيين سكان صفاة... وأخذوا غزة وتخومها وأشقلون وتخومها وعقرون وتخومها".
والذي يقرأ سفر يشوع والمواقع الحربية التي خاضها بنو إسرائيل تحت قيادته يرى أن هذه البلاد قد تم احتلالها وتدميرها في عهد يشوع وأنها قد أصبحت حجرا على حجر. وكذلك فإن سفر القضاة يكذب سفر يشوع في جانب آخر له أهميته بالنسبة لأهل البلاد، "سكان الأرض" حسب تعبير التوراة.
فها نحن نقرأ في سفر القضاة أن "بني القيني" وهم أصهار موسى، عرب مدين، صعدوا من مدينة النخل "وسكنوا مع بنى إسرائيل". وأن بني إسرائيل لم يطردوا "سكان الوادي لأن لهم مركبات حديد" وأنهم لم يقدروا عليهم.. وأن بني إسرائيل لم تكن لديهم هذه الأسلحة المتقدمة المتطورة: مركبات الحديد.
وما هو أبلغ من ذلك، بالنسبة إلى بيت المقدس، يقول الإصحاح الأول أن بني إسرائيل "لم يطردوا اليبوسيين سكان أورشليم وسكن اليبوسيون مع بني بنيامين في أورشليم إلى هذا اليوم". ولنذكر دائما أن عبارة "هذا اليوم" كلما وردت في التوراة فإنها تعني ألف عام بعد الحدث.. لأن التوراة كتبت بعد ألف عام من هذه الأحداث.. كما سنرى في فصل لاحق.
ثم تأتي بعد ذلك عبارة عامة تفيد أن أهل البلاد قد بقوا فيها وعاشوا في مدنهم وقراهم وأرضهم.. فتقول العبارة "ولم يطرد بنو إسرائيل أهل بيت شان (بيسان) وقراها، ولا أهل تعنك وقراها، ولا سكان دور وقراها، ولا سكان بلعام وقراها، ولا سكان مجدو وقراها، ولا سكان جازر ولا سكان قطرون، ولا سكان نهلول، ولا سكان عكو ولا سكان صيدون وأحلب واكزيب وحلبة وافيق ورحوب ولا سكان بيت شمس ولا سكان بيت عثاة. وسكن الكنعانيون في وسط هذه البلاد.. وكان لما تشدد إسرائيل أنه وضع الكنعانيين تحت الجزية ولم يطردهم طردا" وعلى ذلك فإن أقصى ما استطاع بنو إسرائيل أن يحققوه في البلاد أنهم فرضوا الجزية على أهلها، وهؤلاء لم يغادروها وامتدت إقامتهم على هذا الحال قرونا وقرونا..
وهذه المواقع كلها هي أسماء مدن وقرى في فلسطين وما حولها من بلاد الشام.. وبصددها كلها تعترف التوراة أن الكنعانيين "الفلسطينيين" كانوا يسكنون فيها.. ويتساءل المرء بعد ذلك وهل بقيت بقعة من أرض كنعان، لم تكن مسكونة من قبل الفلسطينيين.
وبعد هذا التعميم، يأتي سفر القضاة ليعطي صورة الجانب الآخر.. الجانب الإسرائيلي. وهنا يقول الإصحاح الثالث في سفر القضاة "فسكن بنو إسرائيل في وسط الكنعانيين والحثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين" وهؤلاء الأقوام هم الذين قال سفر يشوع أن بني إسرائيل قد أبادوهم إلى آخر نسمة وبحد السيف. وها نحن نراهم يبعثون أحياء في سفر القضاة، ويسكن بنو إسرائيل في وسطهم.
وتأتي التوراة بعد ذلك لتسرد سيرة القضاة واحدا بعد واحد، ثم تفصل حرب الخلاص التي قام بها هذا القاضي أو ذاك ليخلص بني إسرائيل من سيطرة أهل البلاد.
وتبدأ التوراة بسيرة القاضي الأول ابن قناز فتعترف أن ملك آرام النهرين قد استولى على بني إسرائيل، وأخضعهم وأذلهم ثماني سنين.. وأن بني إسرائيل قد صرخوا إلى الرب فأقام لهم من يحارب لهم ويخلصهم – وهو ابن قناز – "واستراحت الأرض أربعين سنة، ومات ابن قناز".
وتأتي سيرة القاضي الثاني ابن جيرا وتعترف التوراة بأن ملك مؤآب ومعه بنو عمون والعمالقة، "ضربوا بني إسرائيل وامتلكوا مدينة النخل" وأخضعوهم لثماني عشرة سنة.. فصرخ بنو إسرائيل إلى الرب فأقام لهم ابن جيرا مخلصا لهم فحارب لهم وضرب الموآبيين "ولم ينجُ أحد، وذُل الموآبيون تحت يد إسرائيل واستراحت الأرض ثمانين سنة".. ونسبت إليه التوراة أسطورة تافهة تزعم أنه ضرب من الموآبيين عشرة آلاف رجل ولم ينجُ أحد.
وجاء بعده القاضي الثالث، كما تقول التوراة، بن عناة، "فضرب من الفلسطينيين ست مائة رجل بمنساس البقر وهو أيضا خلص إسرائيل" ولم تذكر التوراة تفاصيل الحرب.
وتفاجئنا التوراة بعد ذلك بقاضية امرأة هي النبية دبورة، وهنا يسرد الإصحاح الرابع أن "بابين ملك كنعان ورئيس جيشه سيسرا" استطاعا أن يخضعا بني إسرائيل، "وصرخ بنو إسرائيل إلى الرب، لأن ملك كنعان ضايق بني إسرائيل بشدة مدة عشرين سنة، وكان له تسع مائة مركبة من حديد".. وفي قصة طويلة فقد انتهى الأمر بأن "يد بني إسرائيل أخذت تتزايد وتقوى على ملك كنعان حتى قوضوا ملك كنعان" وقد أورد الإصحاح الخامس ترنيمة دبورة وهي تتغنى بالخلاص الذي حققته لبني إسرائيل.. الخلاص من سيطرة الكنعانيين!! وانتهى الإصحاح بالقول "واستراحت الأرض أربعين سنة" قالت التوراة هذه العبارة وكأنها تتنفس الصعداء.
ويسجل لنا الإصحاح السادس أن "مديان قد اشتدت يده على بني إسرائيل فأخضعوهم على مدى سبع سنين. وأن بني إسرائيل قد بنوا لأنفسهم الكهوف التي في الجبال والمغاير والحصون" حتى ينجوا بجلودهم..
ويتجلى من كلام التوراة أن بني إسرائيل قد منوا بواحدة من أكبر الهزائم التي لحقت بهم في حروبهم مع أهل البلاد.. ففي عبارة حزينة تصرخ بالألم والشكوى يقول الإصحاح المذكور "وإذا زرع إسرائيل كان يصعد المديانيون والعمالقة وبنو المشرق يصعدون عليهم ويتلفون غلة الأرض.. إلى غزة، ولا يتركون لإسرائيل قوت الحياة ولا غنما ولا بقرا ولا حميرا لأنهم كانوا يصعدون بمواشيهم وخيامهم ويجيئون كالجراد في الكثرة وليس لجمالهم عدد. ودخلوا الأرض لكي يخربوها.. فذل إسرائيل جدا من قبل المديانيين" وأين هذه الوقائع مما كتبه سفر يشوع عن الأمم التي أبيدت، والمدن التي أحرقت، والمواشي التي نهبت، على يد بني إسرائيل، ها نحن نرى بني إسرائيل في سفر القضاة وقد ذلوا وهلكوا هم ومواشيهم وزروعهم.
وكالعادة تقول التوراة، وصرخ بنو إسرائيل فأقام لهم جدعون قاضيا وقائدا فكان هو القاضي الخامس "وكان المديانيون والعمالقة وكل بني المشرق كالجراد من الكثرة.. وجمالهم لا عدد لها كالرمل الذي على شاطئ البحر في الكثرة".
وفي قصة طويلة، مليئة بالخزعبلات والخرافات تقول التوراة أن جدعون انتصر على المديانيين وأهلك منهم "مائة وعشرين ألف رجل مخترطي السيف وقتلوا ملوكهم"، ثم تذكر التوراة بعد ذلك بفخر واعتزاز أنه "زنى كل إسرائيل هناك (!!) وذل مديان أمام بني إسرائيل ولم يعودوا يرفعون رؤوسهم واستراحت الأرض أربعين سنة في أيام جدعون". ولم تجد التوراة ما تفاخر به في ختام هذه الحرب إلا أن تقول أن بني إسرائيل كلهم قد زنوا هناك!!
وبعد جدعون تولى ابنه أبيمالك منصب القضاء، فكان هذا القاضي كما وردت سيرته في التوراة، من كبار المجرمين، فقد بدأ حياته القضائية بأن "استأجر رجالا بطالين طائشين فسعوا وراءه. ثم جاء إلى بيت أبيه وقتل إخوته سبعين رجلا على حجر واحد"، ولم يبق من إخوته إلا الأصغر فقد كان مختبئا.. واجتمع بنو إسرائيل كما يقول الإصحاح التاسع من سفر القضاة فذهبوا وجعلوا أبيمالك ملكا.. وترأس أبيمالك على إسرائيل ثلاث سنين.. وحدثت فتنة في البلاد بين أنصار أبيمالك وخصومه، وانتهى الأمر بقتل هذا القاضي، قاتل الأخوة السبعين.. وذلك كله هو كلام التوراة..
وبعد هذا القاضي المجرم قام لإسرائيل قاض آخر هو ابن دودو وقضى لإسرائيل ثلاثا وعشرين سنة، ولم تذكر التوراة له خبرا.. وجاء بعده الجلعاوي وقضى لإسرائيل اثنين وعشرين سنة، ولم تذكر له التوراة خبرا إلا أنه "كان له ثلاثون ولدا يركبون على ثلاثين جحشا ولهم ثلاثون مدينة".
وفي هذه الحقبة الزمنية تطلع التوراة على القارئ بسيرة قاض آخر اسمه يفتاح، فقد اختاره بنو إسرائيل، كعادتهم، ليخلصهم من أعدائهم الفلسطينيين ذلك أن بني عمون، كما تقول التوراة قد تغلبوا على بني إسرائيل "فحطموا ورضضوا بني إسرائيل ثماني عشرة سنة" كما يقول الإصحاح العاشر، وتضيف التوراة "أن بني عمون عبروا الأردن ليحاربوا بني إسرائيل".
ثم تقول التوراة أن يفتاح نذر للرب إذا نصره على بني عمون "أن يذبح أول من يخرج من بيته للقائه حين يعود بالسلامة" قربانا للرب.
وعاد يفتاح إلى بيته "وإذا بابنته خارجة للقائه بدفوف ورقص" فرحا بانتصاره، وكانت وحيدته فمزق ثيابه وذكر لها نذره للرب وقالت له أوف بنذرك ولكنها استأذنت والدها فذهبت لشهرين هي وصاحباتها إلى الجبال لتبكي عذرتها ثم عادت.
وهكذا وفْى يفتاح بنذره وأحرق ابنته قربانا للرب. ولم يكن غريبا على هذا القاضي أن يقوم بهذا العمل الوحشي، لأنه "ابن امرأة زانية" كما تقول التوراة في صدر الإصحاح الحادي عشر من سفر القضاة..
وبعد يفتاح قضى لإسرائيل ثلاثة لم يكن لهم شأن ولم تذكر التوراة لهم خبرا إلا الثالث وهو عبدون الفرعتوني فقد كان له "أربعون ابنا وثلاثون حفيدا يركبون على سبعين جحشا، وقضى لإسرائيل ثماني سنين" وهذا هو ما يورده الإصحاح الثاني عشر.
وفي عهد هؤلاء القضاة المغمورين، استولى الفلسطينيون على بني إسرائيل وجعلوهم تحت سلطانهم، وتقول التوراة في بداية الإصحاح الثالث عشر أن "بني إسرائيل عادوا يعملون الشر في عيني الرب فدفعهم الرب ليد الفلسطينيين أربعين سنة".. ووراء هذا الكلام الموجز الذي تذكره التوراة باستحياء يبدو واضحا أن انتصارات إسرائيل التي هللت لها التوراة في سفر يشوع لم تكن إلا مجرد أكاذيب وأباطيل.
ثم تتعالى التوراة، بعد أن فرغت من مسيرة القضاة السابقين، فتبرز للقارئ قصة أشقى الأشقياء في حياة بني إسرائيل، وهي قصة شمشون الجبار التي جعلت منها الدعاية الصهيونية قصصا بطولية، وأفلاما سينمائية، وأناشيد عالمية كأنما الإنسانية في تاريخها الطويل لم تلد بطلا عملاقا إلا شمشون الجبار.. ولو أننا قرأنا التوراة بصبر وإمعان لوضح لنا أن شمشون الجبار لم يكن إلا قاطع طريق وانتهى..
وشمشون الجبار كما تقول التوراة، هو ابن امرأة عاقر، جاءها ملاك الرب وبشرها بمولده وطلب إليها أن "لا تعلو موسى رأسه لأن الصبي يكون نذرا للرب من البطن وهو يخلص بني إسرائيل من الفلسطينيين.. وولدت المرأة ابنا ودعت اسمه شمشون وكبر الصبي وباركه الرب".
وتقول التوراة بعد ذلك أن "شمشون رأى امرأة من بنات الفلسطينيين وطلب من أبيه وأمه أن يأخذاها له امرأة.. وقال له أبوه وأمه أليس في بنات أخوتك وفي كل شعبي امرأة حتى أنك ذاهب لتأخذ امرأة من الفلسطينيين (غير المختونين)".