ادارة مملكة ميرون
ترحب بكم وتتمنى لكم قضاء اوقات مفيدة
وتفتح لكم قلبها وابوابها
فاهلا بكم في رحاب مملكتنا
ايها الزائر الكريم لو احببت النضمام لمملكتنا؟
التسجيل من هنا
وان كنت متصفحا فاهلا بك في رحاب منتدانا
ادارة مملكة ميرون
انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل
ممـلكـــة ميـــرون
ادارة مملكة ميرون
ترحب بكم وتتمنى لكم قضاء اوقات مفيدة
وتفتح لكم قلبها وابوابها
فاهلا بكم في رحاب مملكتنا
ايها الزائر الكريم لو احببت النضمام لمملكتنا؟
التسجيل من هنا
وان كنت متصفحا فاهلا بك في رحاب منتدانا
ادارة مملكة ميرون
ممـلكـــة ميـــرون
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
على رأس الأكاذيب المتفشية في خطاب بيجن رئيس وزراء العدو الذي تحدث فيه إلى الشعب المصري، تقع العين على أكذوبة كبرى تكمن في كلمة صغرى.. هذه الكلمة الصغرى هي قوله (... بلدنا)، وذلك في سياق حديثه مرحبا بزيارة الرئيس السادات إلى بيت المقدس ليلقي خطابه الموعود في الكنيست الإسرائيلي عن مبادرته المعروفة. "وبلدنا" التي يرددها السفاح الإرهابي بيجن، يعني بها بيت المقدس، وقد أراد بيجن أن يستغل زيارة الرئيس المصري، وقد اشرأبت إليها أعناق الأقمار الصناعية وأجهزة الإعلام العالمية، فرأى فيها فرصة سانحة ليقول للعالم أجمع أن بيت المقدس هي بلد إسرائيل وعاصمتها الخالدة، شأنها في ذلك شأن أية عاصمة لأي دولة في العالم.. وقد سبق لقادة اليهود الدينيين والسياسيين والعسكريين أن وقفوا أمام حائط المبكى، في السابع من حزيران 1967، غداة الاحتلال الإسرائيلي لبيت المقدس، ليعلنوا عهدهم الشهير: "الآن عدنا إلى أورشليم ولن نخرج منها بعد اليوم".. وحديث الصهيونية عن "أورشليم" قديم قدم الصهيونية، وقد أطلقوا حولها شعارات متعددة: "إسرائيل من غير أورشليم جثة من غير رأس" و"إسرائيل من غير أورشليم جسد من غير روح" و"أورشليم يهودية كما أن باريس فرنسية ولندن بريطانية" وما إلى ذلك من الشعارات والعبارات. وفي أعقاب الاحتلال الإسرائيلي لبيت المقدس، مباشرة بعد حرب الأيام الستة، أصدرت إسرائيل قانونا أعلنت فيه أن أورشليم هي عاصمة إسرائيل ورسمت لها حدودا تمتد من بيت لحم جنوبا إلى رام الله شمالا، بحيث أصبحت "أورشليم الكبرى" تقارب مساحة ثلث المنطقة الغربية. وفي تلك الأيام الحزينة السوداء، تولت وزارة الأشغال الإسرائيلية إزالة "حي المغاربة" المجاور لحائط المبكى، بما فيه من مدارس ومساجد ومنشآت إسلامية. فلم تبق جدارا قائما، ولا حجرا على حجر، وأصبح المكان ساحة مكشوفة، مفتوحة يؤمها المعتدون اليهود من كافة أرجاء البلاد، وبذلك زال من عالم الوجود أقدس حي في الديار القدسية تعاقب على بنائه وإقامة مؤسساته ملوك المسلمين وأمراؤهم منذ عهد عمر بن الخطاب إلى أخريات الحكم العثماني. وتابعت إسرائيل الإجراءات المتعددة لتهويد المدينة المقدسة وإزالة الطابع الإسلامي من معالمها والعمل على تشريد أهلها منها، وتهجير اليهود إليها.. وتابعت إلى جانب ذلك بعثات التنقيب اليهودية بحثا عن أنقاض هيكل سليمان، فيما يزعمون – حول الحرم الشريف. وكما يفعل المستضعفون والمنهزمون، فقد تقدمت الدول العربية والإسلامية إلى مجلس الأمن مطالبة بإنقاذ المدينة المقدسة من العدوان الإسرائيلي، فأصدر هذا المجلس الهزيل ما يزيد على خمسة قرارات تدين إسرائيل وتطالبها بالكف عن العبث بالمدينة المقهورة. ولم تستجب إسرائيل لقرارات مجلس الأمن، بل راحت تستمر في إجراءاتها العدوانية يوما بعد يوم، غير مبالية بالمنظمة الدولية، ولا بمؤتمرات الدول الإسلامية المتتابعة وقراراتها الحافلة بالعبارات الورمانة، والكلمات المنفوخة!! وتوالت الأحداث، إلى أن صدرت اتفاقيات كامب ديفد، فإذا بنا نقرأ فيها، رسالة موقعة من رئيس وزراء العدو بيجن، موجهة إلى الرئيس الأمريكي كارتر.. يقول فيها الرئيس اليهودي "إن أورشليم هي عاصمة إسرائيل وأنها جزء لا يتجزأ من إسرائيل، وأنها لن تعود مجزأة كما كانت".. وقد تم إبلاغ هذه الرسالة اليهودية إلى الرئيس أنور السادات بصورة رسمية عن طريق الرئيس كارتر..!! وانطلق بيجن من مصيف كامب ديفد، إلى الجاليات اليهودية في أمريكا وكندا وأوروبا، يخطب فيها، في جو مليء بالحماسة والحبور، معلنا أن أورشليم هي عاصمة إسرائيل الخالدة.. وأنها كانت كذلك منذ ثلاثة آلاف سنة، وأنها ستظل كذلك إلى الأبد. وراحت الصهيونية بأجهزتها الإعلامية الضخمة تطلق حملة كبرى تردد فيها الدعوى الصهيونية حول "أورشليم اليهودية" وبلغت تلك الحملة من الضخامة والدويّ، بحيث أصبح الإنسان العادي في العالم يؤمن بصحة هذه الدعوى وأن مطلب العرب بحقهم حتى في "القدس الشرقية"، حتى بهذه، لا مجال لتحقيقه بل والإصغاء إليه.. فإن القدس – القديمة والجديدة – داخل الأسوار وخارجها – هي يهودية وإنها عاصمة إسرائيل التاريخية، ولا يمكن الوقوف في وجه التاريخ.. ذلك ما استطاعت إسرائيل أن تعبئِّه في كل أرجاء العالم.. وجاءت ذروة الطغيان الإسرائيلي بصدد القدس، في الاجتماع الثاني لكامب ديفد، فقد وقف رئيس وزراء العدو بيجن في تلك الليلة أمام الأقمار الصناعية، وهو يخطب في هلوسة دينية بالغة حد العنف والصلف، وهو يردد واحدا من مزامير داود كأنه حاخام ينشد في كنيس يهودي، ويعلن بأعلى صوته أن القدس هي عاصمة إسرائيل الخالدة وأنها ستظل كذلك إلى الأبد. وأحسب أن العالم كله قد شهد مسرحية تلك الليلة فقد خلا الجو لرئيس وزراء العدو وكأن البيت الأبيض هو بيته، فراح يرسل تلك المداعبات التي سمعها العالم تلك الليلة ويصفق له الجمهور اليهودي المسيحي الذي اسمه الكونجرس الأمريكي!! وكان أقرب السامعين إلى بيجن هو الرئيس محمد أنور السادات وقد رأيته يطبق أجفانه ويفتحها، ومد التاريخ الإنساني أذنيه ليسمع ما إذا كان الرئيس السادات سينهض من مقعده ليرد على بيجن بأن القدس عربية وستكون كذلك إلى الأبد.. ولكن لحكمة أرادها الله، سيكشفها المستقبل إن شاء الله، فإن الرئيس السادات لم ينهض من مقعده ولم ينبس ببنت شفة. ولم تتوان أجهزة الإعلام الصهيونية العالمية عن استغلال تلك الأمسية الرهيبة. وبلغ من دويّ هذه الحملة الإعلامية، وتراخي الإعلام العربي والإسلامي، أن الكلام عن عروبة "القدس القديمة"، حتى هذه.. صار أشبه بأنين خافت منبعث من جثة هامدة، أو من واد سحيق عميق، أقرب إلى الغمغمة منه إلى الكلام المبين.. وطغى هذا الطوفان الصهيوني الإعلامي، حتى على أجهزة الإعلام العربية في القاهرة عندما بدأت تتحدث عن القدس العربية الإسلامية في تخبط وجهالة، متسائلة عن حدودها وتاريخها.. ومن هنا فقد أصبح الواجب القومي يلح علينا أن يكون هذا الفصل الأخير من كتابنا مكرسا وقاصرا على عروبة القدس لنكذب مقولات الصهيونية وكلام رئيس وزراء العدو، ولنعيد إلى العرب والمسلمين إيمانهم وتعلقهم بالمدينة المقدسة، أولى القبلتين وثالث الحرمين، وموطن الإسراء والمعراج. بل إن كل شبر وحجر في بيت المقدس، وما فيها من معابد ومقابر ومدارس ورباطات وزوايا وتكايا، كلها تصيح في سمع الزمان، مؤكدة عروبة بيت المقدس.. ما وسعت أحجارها وأسوارها ومآذنها، أن تصيح، وأن تتكلم.. وقبل أن ندخل محراب التاريخ نستعرض أحداث بيت المقدس في عمرها الطويل الذي يربو على ستة آلاف عام لا بد أن نعترف بادئ ذي بدء، أمانة للحق والتاريخ.. أن الدعوى الصهيونية لا تخلو من حبة صغيرة من حبات التاريخ.. وأن هذه الحبة قد أصبحت قبة، على طريق الدعاية الصهيونية وأسلوبها في التهويل والتضخيم. والظاهرة البارزة في تاريخ اليهود، كما نقرأ في التوراة، أن أبرع براعات اليهود ومهاراتهم أنهم يجعلون من الحبة قبة، حين يكون ذلك في صالحهم، كما أنهم على العكس قادرون أن يجعلوا من القبة حبة، حينما يكون ذلك في غير صالحهم.. أي حينما تكون القبة لغيرهم..
والحبَّة التاريخية الصغيرة بشأن بيت المقدس بالنسبة إلى اليهود،وجعلوها قُبَّة، تتلخص في واقعة تاريخية لا مجال لإنكارها، ولا نخشى أن نعترف بها وهي أن "أورشليم" كما يتنغم بها اليهود قد اتخذها داود ملكهم الأول عاصمة له، بعد الغزوة اليهودية المعروفة التي شرحنا أمورها في الفصول السابقة. وأنها استمرت عاصمة لليهود في عهد ولده سليمان الملك الثاني. تلك هي الحبة الصغيرة.. "أورشليم" عاصمة اليهود في عهد داود وسليمان لمدة سبعين عاما.. انقسمت بعدها الدولة اليهودية إلى "مملكتين" يهوذا في الجنوب وعاصمتها أورشليم، والسامرة في الشمال وعاصمتها شكيم.. (نابلس).. وإنه لصحيح، كما قال بيجن، أن القدس كانت عاصمة لليهود قبل ثلاثة آلاف سنة.. فالواقعة صحيحة والتاريخ صحيح، ولكن التاريخ الصحيح كذلك أن أورشليم لم تستمر عاصمة لليهود بعد ذلك!! ولكن بيجن لم يقل للعالم ما هو تاريخ هذه المدينة قبل ثلاثة آلاف سنة سابقة، أي قبل ستة آلاف سنة من اليوم الذي وجه فيه خطابه إلى الشعب المصري، بل إنه لم يقل شيئا عن سيرة المدينة الخالدة حتى في عهد داود وسليمان من بعده. ويروي لنا التاريخ اليهودي نفسه كيف أصبحت أورشليم عاصمة لليهود بعد أن تم لهم الاستيلاء على عدد من المدن الفلسطينية ومنها حبرون، مدينة الخليل، ورام الله وما جاورها.. يقول التاريخ أن داود كان مقيما في حبرون الخليل، ثم عزم على مهاجمة أورشليم، ولكن كانت المدينة محصنة بالأسوار والقلاع التي بناها حولها أصحابها اليبوسيون وهم فخذ من أفخاذ القبائل الكنعانية العربية التي نزحت من الجزيرة العربية منذ زمن طويل. ولذلك فقد استعصت المدينة على داود وقاوم أهلها مقاومة باسلة وخاضوا معركتهم مع داود في الشوارع وحول الأسوار. فحاصرها داود طويلا حتى علم بنفق كان اليبوسيون قد حفروه ليصلوا منه إلى عين ماء في وادي قدرون في أسفل أورشليم، فتسلل داود من هذا النفق مع رجاله واستطاعت القوات اليهودية أن تصل إلى داخل المدينة.. ويضيف التاريخ إلى ذلك أن داود قد انتقل من حبرون – الخليل – إلى "ساليم" _ أورشليم – لينصب ملكا على اليهود.. والتاريخ يؤكد لنا أن ساليم هذا هو أحد آلهة الكنعانيين، وألحقت بها لفظة أور ومعناها مدينة في اللغة الآشورية القديمة. وتقول التوراة بشأن عاصمة داود.. "كان داود ابن ثلاثين سنة حين ملك – ملك أربعين سنة. في حبرون ملك سبع سنين وستة أشهر. وفي أورشليم ملك ثلاثا وثلاثين سنة على جميع إسرائيل ويهوذا" (الدولة اليهودية الموحدة).. وتضيف التوراة [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] أنه ما أن وصل داود إلى "أورشليم إلى اليبوسيين سكان الأرض حتى كلموه قائلين لا تدخل إلى هنا". وكان ذلك بداية المقاومة.. والحرب أولها الكلام، وهذا هو كلام التوراة وليس كلامنا، اقتبسناه من التوراة باللفظ لا بالمعنى. وانتقل الأمر من الكلام إلى الحرب، وتقول التوراة في نفس الإصحاح "وسمع الفلسطينيون أنهم (اليهود) قد رسموا داود ملكا على إسرائيل فصعد الفلسطينيون ليفتشوا على داود (ليقاتلوه).. ولما سمع داود نزل إلى الحصن وجاء الفلسطينيون وانتشروا في وادي الرفائيين" وجرت المعركة ضارية بينهم. وتقول التوراة "أن داود ضرب الفلسطينيين" وحسب عادة اليهود فقد حارب الرب عنهم "واقتحم الرب أعدائي أمامي كاقتحام المياه"، كما تروي التوراة على لسان داود وهو يصف المعركة عل حين أنه كان مختبئا في الحصن!! ولكن الفلسطينيين ثابروا على القتال بعناد وبسالة وتقول التوراة عنهم "ثم عاد الفلسطينيون فصعدوا أيضا وانتشروا في وادي الرفائيين" وتولى الرب تنظيم خطة الحرب، فقال لداود كما تروي التوراة.. "لا تصعد إليهم بل در من ورائهم واهجم عليهم مقابل الأشجار.. وهناك سيخرج الرب أمامك لضرب محلة الفلسطينيين..". فقام داود كما أمر الرب وضرب الفلسطينيين من جبع إلى مدخل جازر، أي من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. وهكذا انتصر داود على الفلسطينيين وضربهم في أورشليم وفي كل الأرض، كل ذلك على يد الرب، فهو الذي حارب عن اليهود وأدار لهم المعركة تخطيطا وتنفيذا كما تقول التوراة بالكلام الواضح البين. وحينما هدأت الحالة – ولو إلى حين – مع الفلسطينيين، أقام داود في حصن داود وسماه "مدينة داود" وبنى داود مستديرا من القلعة متداخلا.. "وأخذ داود سراري ونساء من أورشليم بعد مجيئه من حبرون فولد أيضا لداود بنون وبنات.." كل ذلك كما ترويه التوراة في نفس الإصحاح. ولكن التوراة فيما بعد تكشف عن سر له أهميته ودلالته، إذ يبدو أن الفلسطينيين لم يتوقفوا عن القتال واستعادوا أورشليم. فنحن نقرأ في صدر الإصحاح الثامن من سفر صموئيل الثاني، ما تقوله التوراة فيما يلي "وبعد ذلك ضرب داود الفلسطينيين وذلَّلهم وأخذ داود زمام القصبة من يد الفلسطينيين، وضرب المؤابيين وصاروا عبيدا لداود يقدمون له هدايا". والقصبة تفيد "مركز المدينة". ومعنى ذلك أن الفلسطينيين كانوا قد استردوا القدس بأكملها، أما المؤآبيين الوارد ذكرهم، فيبدو أنهم دخلوا المعركة طرفا . ثانيا ضد داود.. وأن أورشليم عاصمة داود قد انتزعوها من يد الفلسطينيين.. وهذه أول نكسة في تاريخ "العاصمة الخالدة".. ولكن رئيس وزراء العدو يتجاوز عن هذه الوقائع التاريخية ويكتفي بعبارة "الثلاثة آلاف سنة" ويقفز عن أية حقبة لا تناسب دعواه !! ولا يمكن أن نمر بالمؤآبيين هؤلاء، الذين ذكرتهم التوراة مرورا سريعا فلا بد من وقفة قصيرة.. فهؤلاء كانت لهم في ذلك العهد مملكة (في شرق الأردن حاليا) وكانت الكرك عاصمتها.. وكان لهم ملك اسمه عجلون وأبطالهم الشجعان خاضوا معارك باسلة ضد اليهود، فأخضعهم الملك في عصر قضاتهم، وضرب عليهم الجزية وجاء بعده بطل آخر من ملوكهم وأنزل باليهود ضربات قاصمة كما دل على ذلك الحجر التاريخي الشهير الذي عثر عليه في بقعة تبعد ستين كيلوا مترا من عمان عام 1868م. والحجر موجود الآن في متحف اللوفر في باريس وخطه مكتوب باللغة المؤآبية.. وليت بيجن يزور باريس ويطلع على هذا الحجر ليرى ما فعله المؤآبيين في أسلافه اليهود إذا صحت نسبته إليهم.. وكائنا ما كان الأمر فهؤلاء هم المؤآبيون الذين تزعم التوراة أن داود ضربهم.. وفي التوراة حكاية أخرى عن إذلال عبيد (جيش) داود على يد ملك حانون إذ يقول الإصحاح العاشر من نفس السفر بعد نزاع بين داود وملوك المنطقة التي حوله "فأخذ حانون عبيد داود وحلق أنصاف لحاهم وقص ثيابهم من الوسط إلى استاههم (!!) ثم أطلقهم.. ولما أخبروا داود أرسل للقائهم لأن الرجال كانوا خجلين جدا وقال الملك داود أقيموا في أريحا حتى تنبت لحاكم ثم ارجعوا".. ومثل هذا الحدث في زمانه يعتبر قمة الذل والمهانة والاحتقار لداود وعاصمته أورشليم – العاصمة الخالدة لبيجن.. فإن قص اللحى وقطع الملابس حتى الأدبار من التقاليد التي تفوق القتل في ذلك الزمان.. مهانة واحتقارا.. وفي هذا السفر تسرد التوراة تفاصيل أبشع جريمة زنا مدونة في التاريخ البشري، وهي ارتكاب داود الفاحشة مع زوجة أحد جنوده المقاتلين في الميدان دفاعا عن الملك والوطن، وهي قصة أوريا الحثي وقد ذكرناها بالتفصيل في فصل سابق ولا حاجة بنا إلى تكرارها سوى أن نقول أن أورشليم، العاصمة اليهودية الخالدة لم تشهد في تاريخها الطويل أبشع ولا أشنع من تلك الحادثة النكراء.. وفي الإصحاح الثالث عشر من سفر صموئيل الثاني تقع عيوننا على حدث مشين آخر، تهتز له العاصمة الخالدة مرة أخرى وهو اعتداء أمنون بن داود على عفة أخته لأبيه تامار الجميلة، وكذلك فقد سردناها في فصل سابق، ونحن نمر بهذه الإشارة العابرة ليرى القارئ أن العاصمة الخالدة قد خلدت عاراً وشناراً!!
إسرائيل" يحرضهم على العصيان "وكانت الفتنة شديدة وكان الشعب لا يزال يتزايد مع ابشالوم" كما تقول التوراة.
وتضيف التوراة أنه "أتى مخبر إلى داود قائلا: إن قلوب رجال إسرائيل صارت وراء ابشالوم. فقال داود لجميع عبيده – جنوده – الذين معه في أورشليم قوموا بنا نهرب لأنه ليس لنا نجاة من وجه ابشالوم.. أسرعوا للذهاب لئلا يبادر ويدركنا وينزل بنا الشر ويضرب المدينة بحد السيف". وكان أبشالوم في ذلك الوقت مقيما في حبرون – الخليل.
وتعترف التوراة بعد ذلك بهرب الملك داود من العاصمة الخالدة فتقول: "فخرج الملك وجميع بيته وراءه وترك الملك عشر نساء سراري لحفظ البيت وخرج الملك وكل الشعب في أثره، ومعهم جميع الجلادين والسعاة. وكانت جميع الأرض تبكي بصوت عظيم"، وقد مثل هذا الموكب الملكي الحزين أسوأ يوم في تاريخ العاصمة الخالدة وهي تشهد الملك على رأس شعبه هاربا من عاصمة ملكه ومن بيته، ومن وجه ولده أبشالوم.
وتمضي التوراة في تفصيل ذلك اليوم المشين لتقول: "وعبر الملك في وادي قدرون" – وهو الوادي الواقع أسفل بيت المقدس، ولا يزال في مكانه حتى اليوم وبهذا الاسم واتجه هذا الجمع نحو طريق البرية – كما تقول التوراة.
ومن وادي قدرون "صعد داود في مصعد جبل الزيتون"، كما تقول التوراة، ولا يزال هذا الجبل يحمل هذا الاسم إلى يومنا هذا.. وتكاد التوراة أن تبكي وهي تقول: "كان داود يصعد باكيا ورأسه مغطى ويمشي حافيا وجميع الشعب الذين معه غطوا كل واحد رأسه وكانوا يصعدون ويبكون".
وفي الطريق، "إذا برجل خارج من هناك وهو من عشيرة بيت شاول – الملك السابق – يرشق بالحجارة داود وجميع عبيد الملك وجميع الشعب ويسبه ويقول له اخرج اخرج يا رجل الدماء.. لقد دفع الرب المملكة ليد أبشالوم ابنك وها أنت واقع بشرك لأنك رجل دماء". وبذلك سجلت التوراة منتهى الإذلال لداود وأدانته بأنه رجل دماء، وأن المملكة أصبحت بيد ابنه ابشالوم، وأن أورشليم هي عاصمته.
وتسجل التوراة بعد ذلك أن "أبشالوم وجميع الشعب رجال إسرائيل أتوا إلى أورشليم. وهتفوا ليحيى الملك ليحيى الملك.. ونصبوا الخيمة لأبشالوم على السطح – سطح بيت الملك – ودخل أبشالوم إلى سراري أبيه أمام جميع إسرائيل"، وقارئ التوراة يفهم من كلمة دخل على سراري أبيه أي أنه ضاجعهم لأن هذا التعبير يتكرر بهذا المعنى في عدة مواضع من التوراة، وهذا أبشع عدوان من الولد على والده، .. يعتدي على عفاف زوجاته.. وفي بيت والده، وفي العاصمة الخالدة، ولكن يبدو أن هذا التقليد في ذلك الزمان يعبر عن هزيمة الخصم!!
ولا تذكر التوراة شيئا تفصيليا عن فعلة أبشالوم في الخيمة مع سراري والده، لأن التوراة لم تدخل إلى الخيمة، بل بقيت تنظر من بعيد.. ولكنها اكتفت بالتشهير، بأن هذا المنكر قد جرى على السطح مبالغة في إلحاق الإهانة بالملك داود.
ولا نقف عند التفاصيل التي جاءت بعد ذلك، فقد جرت المواجهة في النهاية بين جيش أبشالوم وجيش والده داود في "وعر أفرايم" كما تذكر التوراة.
ويقول الإصحاح الثامن عشر من سفر صموئيل الثاني تلخيصا للمعركة "فانكسر هناك شعب إسرائيل – يعني جيش أبشالوم – أمام عبيد داود – وكانت هناك مقتلة عظيمة في ذلك اليوم وقُتِل عشرون ألفا، وكان القتال منتشرا على وجه كل الأرض.. وأخذ يؤآب رئيس جيش داود ثلاثة سهام بيده ونشبها في قلب أبشالوم، وقام حاملو السلاح وضربوا أبشالوم وقتلوه وأخذوا أبشالوم وطرحوه في الوعر.. وعلم داود بموت ابنه وكان يبكي ويقول يا ابني أبشالوم ليتني مت عوضا عنك".. وهذه كلها هي التفاصيل التي سروتها التوراة!!
وتقول التوراة أن الشعب تسلل في ذلك اليوم للدخول إلى المدينة – أورشليم – كما يتسلل القوم الخجلون عندما يهربون من القتال.
وتنقلنا التوراة بعد ذلك إلى فتنة أخرى على داود شبيهة بالفتنة التي قام بها أبشالوم. وتقول التوراة في الإصحاح العشرين من سفر صموئيل الثاني أنه "اتفق هناك رجل لئيم اسمه شبع بن بكري رجل بنيامين من أسباط إسرائيل – فضرب بالبوق" وأعلن الثورة على داود، "وقال ليس لنا قسم في داود ولا لنا نصيب في ابن يسى، كل رجل إلى خيمته يا إسرائيل فصعد كل رجال إسرائيل من وراء داود – شقوا عصا الطاعة – إلى وراء شبع بن بكري. وأما رجال يهوذا فلازموا ملكهم داود وجاء داود إلى بيته في أورشليم.. وقال داود لأبيشاي رئيس جيشه: الآن يسيء إلينا شبع بن بكري أكثر من أبشالوم فخذ أنت عبيد سيدك واتبعه لئلا يجد لنفسه مدنا حصينة ينفلت من أعيننا".
وتنتهي هذه الفتنة كما تقول التوراة بأن قتل شبع بن بكري وقطعوا رأسه وانتهت الفتنة بعد أن عاشت أورشليم أياما قلقة بالغة الفوضى والاضطراب.
وما أن انتهت هذه الفتنة حتى واجهت أورشليم والملك داود حربا طاحنة مع الفلسطينيين. ويقول الإصحاح الحادي والعشرون "وكانت أيضا حرب بين الفلسطينيين وإسرائيل وانحدر داود وعبيده معه وحاربوا الفلسطينيين فاعيا داود".. وهجم أحد الفلسطينيين على داود ليقتله "ووزن رمحه ثلاث مائة شاقل نحاس فأنجده أبيشاي من جيش داود فضرب الفلسطيني وقتله".
ووقعت حرب أخرى بين داود والفلسطينيين وتقول التوراة بشأنها "ثم بعد ذلك كانت أيضا حرب في جوب وحرب أخرى في جت" وهذان الموقعان يقعان في قضاء غزة وبئر السبع، وهما غير بعيدين عن أورشليم.. ومعنى ذلك أن هذه المعارك كانت عند مداخل أورشليم، حسب التعبير العسكري الحديث.
وفي سفر الملوك الأول كما تروي التوراة في الإصحاح الأول منه تشهد أورشليم ملكها داود وقد تقدمت به السنون، "يدثرونه بالثياب فلم يدفأ وراح عبيده يفتشون له على فتاة عذراء لتكون له حاضنة، وتضطجع في حضنه ليدفأ، وفتشوا على فتاة جميلة في جميع تخوم إسرائيل.. ووجدوا ابيشج الشونمية فجاءوا بها إلى الملك وكانت الفتاة جميلة جدا فكانت حاضنة للملك ولكن الملك لم يعرفها"، أي لم يدخل بها.
وقبل وفاة داود، استولى ابنه أدونيا على الملك وأصبحت أورشليم عاصمة اثنين: الملك الشيخ والملك الفتى.. وقد انضم إلى الملك الفتى رئيس الجيش والكاهن وتقول التوراة في هذا الصدد في الإصحاح الأول من سفر الملوك الأول "أن أدونيا (وهو ابن إحدى الزوجات المئات لداود) ترفع قائلا :" أنا أملُك". أي أنه يريد أن يكون ملكا.. وقد أعد لنفسه جميع التقاليد الملوكية في العاصمة أورشليم.. وشهدت شوارعها الملك أدونيا على "عربات ذات عجلات وفرسانا وخمسين رجلا يجرون أمامه.. وذبح أدونيا غنما وبقرا ودعا جميع أخوته بني الملك وجميع رجال يهوذا عبيد الملك"، ليشتركوا في هذا الاحتفال الملكي الكبير.. إلى آخر كلام التوراة..
وتقول التوراة بعد أن وضعت موائد الطعام والشراب أن الجموع هتفت "ليحيَ الملك أدونيا".
ولكن الملك أدونيا لم يدم طويلا على العرش وقام من ينافسه وهو سليمان بن داود.. وفي قصة طويلة تستغرق الإصحاح بكامله تسعى والدة سليمان "بثشبع" وهي زوجة أوريا الحثي – صاحب القصة الشهيرة – وتظفر في النهاية بإقناع داود بأن ينصب سليمان ملكا. وتتحدث التوراة أن داود كان يؤثرها على غيرها من النساء والسراري فاستجاب لطلبها "وأركبوا سليمان على البغلة وضربوا البوق ومسحوا سليمان ملكا وهتفوا: ليحيى الملك سليمان".
ولكن العاصمة أورشليم باتت مشغولة بقصة حب عنيفة مثيرة بين أدونيا ابن داود وحاضنة أبيه الشابة الجميلة أبيشج الشونمية التي جاءت لتحتضن داود وتمنحه الدفء.. وأصبحت القصة الغرامية سمر الناس في العاصمة، ليلهم ونهارهم، وأراد أدونيا أن يظفر بحاضنة أبيه داود بعد أن فشل بالظفر بالملك.
فذهب أدونيا إلى بثشبع والدة سليمان وقال لها: "أنت تعلمين أن الملك كان لي وقد جعل جميع إسرائيل وجوههم نحوي لأكون ملكا فصار الملُك لأخي سليمان.. والآن قولي لسليمان أن يعطيني أبيشج الشونمية امرأة..".
وما كان من سليمان حين سمع هذا الكلام من أمه إلا أن قال.. "اليوم يقتل أدونيا" فأرسل له سليمان من "يبطش به فمات" ولم يكن ذلك عقابا له على غرامه بزوجة أبيه، ولكن لأنه نافسه في الملك، فبعد أن بطش سليمان بأخيه أدونيا بطش كذلك بأعوانه وأنصاره الذين ساندوه في اعتلائه العرش.
ويبدو أن العاصمة أورشليم كانت بيت دعارة كبير، فنحن نقرأ في الإصحاح الثالث من سفر الملوك الأول أنه ".. أتت امرأتان زانيتان إلى الملك سليمان ووقفتا بين يديه تحتكمان إليه".
وخلاصتها كما ترويها التوراة نقلا عن الزانيتين أنهما كانتا ساكنتين في بيت واحد، فمات ابن واحدة، لأنها اضطجعت عليه وقامت وسط الليل وأخذت ابن المرأة الأخرى وأضجعته في حضنها إلى آخر الحكاية وهي معروفة لدى كافة الناس.. والحكم فيها معروف كذلك..
ولكن الغريب في هذه الحكاية أن تكون الواقعة مع زانيتين اثنتين لا مع واحدة، تسكنان في بيت واحد.. مما يدل أن الدعارة قد بلغت ذلك المدى من الانتشار في العاصمة أورشليم..
وتلخيصا لما تقدم، واستنادا إلى رواية التوراة نفسها، يمكننا أن نوجز حال أورشليم في عهد داود بالأمور الآتية:
أولا: إن أورشليم لم تكن عاصمة مستقرة لداود، فقد نازعه ابنه أبشالوم وجعل منها عاصمة له بعد أن هرب منها والده داود هو وجيشه، وقد طارده أحد اليهود يرشقه بالحجارة ويسبه قائلا "اخرج أنت رجل دماء" وبذلك أصبحت أورشليم عاصمة لاثنين: الوالد والولد..
ثانيا: إن أورشليم كانت العاصمة التي شهدت أسوأ رذيلة في التاريخ، حينما خطف داود امرأة أحد جنوده.. واتخذها زوجة له، يوم كان زوجها المسكين يقاتل تحت إمرة مليكه.
ثالثا: إن أورشليم قد شهدت ملكا آخر غير داود، طلع من عامة الناس ونافس داود على الملك مما اضطره إلى قتله والتخلص منه.
وما أن مات هذا الابن الطموح حتى نهض ابن آخر "أدونيا"، فاستولى على العاصمة وحكم في حياة أبيه داود وانتهى الأمر بأن قتل الملك الطامع فيما بعد وأرسل إليه سليمان من بطش به فمات.
خامسا: وفي عهد سليمان كانت أورشليم، والدولة كلها تابعة لمصر، يحكمها الفرعون ولم يكن سليمان إلا عاملا من عمال مصر يحكم أورشليم تحت السيادة المصرية.
سادسا: إن أورشليم لم تكن يهودية بل كانت خليطا من الأقوام من أهلها، الذين بقوا ساكنين فيها بعد الغزوة اليهودية وأن اليهود قد "اختلطوا بهؤلاء الأقوام وذابوا فيهم".
تلك هي سيرة العاصمة اليهودية الخالدة في عهد سليمان وداود لمدة سبعين عاما، جاء بعدها عهد الانشطار في الدولة اليهودية فانقسمت إلى دولتين: يهوذا في الجنوب وعاصمتها أورشليم، وإسرائيل في الشمال وعاصمتها شكيم – قرب نابلس – وسنحصر حديثنا الآن عن أورشليم باعتبارها عاصمة يهوذا، لنرى إلى أي مدى تستقيم تبجحات رئيس وزراء العدو بيجن أمام حقائق التاريخ.. فماذا يقول التاريخ.. بل ماذا تقول التوراة..
إذا رجعنا إلى التوراة نجد أن تاريخ هاتين المملكتين وارد في أربعة أسفار: الملوك الأول – الملوك الثاني – أخبار الأيام الأولى – أخبار الأيام الثاني.
وسنجد في هذه الأسفار الأربعة قصة ملوك إسرائيل وقصة أورشليم العاصمة الخالدة في عهد ملوكها أولئك.. وسنتابع المسيرة حسب تسلسل الأحداث الزمني.
ونحن نرى بادئ ذي بدء أن ملوك إسرائيل قد بلغ عددهم عشرين ملكا ذكرت أسماؤهم في الأسفار الأربعة، وأسماء أمهاتهم وتفاصيل حياتهم الخاصة، وعبادتهم للأوثان وما إلى ذلك، ومضت الأسفار الأربعة تردد من حين الحديث عن أورشليم وما حل بها.
ونقرأ أول ما نقرأ في سيرة ملكها رحبعام – بعد سليمان – أن فرعون مصر شيشق قد هاجم مملكة يهوذا واستولى على مدنها الحصينة ثم اقتحم أورشليم واستولى على جميع ما وجد في خزائن الهيكل والقصر الملكي وكان بين غنائم الهيكل 500 ترس من ذهب، ويعترف الإصحاح الرابع عشر من سفر الملوك الأول "أنه في السنة الخامسة للملك رحبعام صعد شيشق ملك مصر إلى أورشليم وأخذ خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك وأخذ كل شيء وأخذ جميع أتراس الذهب التي عملها سليمان". هذا ما تقوله التوراة نفسها ولا بد أن الوقائع كانت أكثر مما تقول. ولكن هذا الاعتراف يثبت سقوط السيادة اليهودية على أورشليم وعودة السيادة المصرية إليها كما شرحنا ذلك في الفصل السابق.
والسيادة المصرية هذه لم تتجل في سيرة مملكة يهوذا وعاصمتها أورشليم فحسب، ولكنها تبرز في مسيرة مملكة إسرائيل أيضا فإن الإصحاح السادس عشر من سفر الملوك الأول يروي لنا أن سليمان طلب قتل يربعام فقام يربعام "وهرب إلى مصر إلى شيشق ملك مصر وكان في مصر إلى وفاة سليمان". ويربعام هذا أصبح فيما بعد ملكا على إسرائيل وقد هرب من وجه أبيه سليمان لأنه نهض للاستيلاء على الحكم وهرب من وجه أبيه لأنه لم يجد له ملجأ إلا في مصر التي كانت لإسرائيل بمثابة الدولة الأم.
وفي سيرة الملك اليهودي الثالث آسا (913-873 ق.م) تبرز لنا صورة أخرى من التبعية هذه المرة لا لمصر ولكن لدمشق.. ذلك أنه في خضم الحرب التي قامت بين مملكة الشمال ومملكة الجنوب استعان هذا اليهودي بملك آرام الدمشقي في محاربة أعدائه في الشمال وقدم له الهدايا من الذهب والفضة الموجودة في خزائن الهيكل في أورشليم والقصر الملكي-وبهذا أصبحت أورشليم تحت حماية السوريين بعد المصريين. ولو شئنا أن نستخدم التعابير الحديثة ليصح القول بأن أورشليم بعد أن فقدت رصيدها من الذهب والفضة على يد المصريين قد أصبحت تحت النفوذ الاقتصادي الشامي.
وفي عهد الملك اليهودي الخامس يهورام (849-842ق0م) تعرضت الملكة اليهودية لهجوم كاسح قام به الفلسطينيون والعرب فدخلوا أورشليم العاصمة واستولوا على أموال الملك اليهودي التي عثروا عليها في قصره وسبوا بنيه ونساءه وتروي التوراة أنباء ذلك الهجوم الكبير بكل صراحة فتقول "وأهاج الرب روح الفلسطينيين والعرب الذين بجانب الكوشيين فصعدوا إلى يهوذا ففتحوها وسلبوا كل الأموال الموجودة في بيت الملك مع بنيه ونسائه أيضا ولم يبق له إلا أصغر بنيه (أخبار الأيام الثاني الإصحاح21)
وفي أيام الملك اليهودي الثامن يوآش بن أخزيا (827-800ق.م) تعرضت أورشليم لاحتلال آرامي هلك فيه كل قادة اليهود واستبيحت أموالهم وأرسلت غنيمة إلى دمشق.. ويقول الإصحاح الرابع والعشرون من سفر أخبار الأيام الثاني عن هذه المعركة كلاما واضحا جاء فيه " وفي مدار السنة صعد على الملك اليهودي آرام وأتوا إلى يهوذا وأورشليم وأهلكوا كل رؤساء الشعب وجميع غنيمتهم أرسلوها إلى ملك دمشق" ويظهر أنهم عفوا عن أخذ الملك اليهودي معهم أسيرا فتقول التوراة تفسيرا لذلك أن "جيش آرام تركوا الملك اليهودي لأنه كان مصابا بأمراض كثيرة"… ولذلك فإنه لا يستحق الأسر..
وجاء عهد الملك اليهودي التاسع أمصيا بن يوآش (800-783 ق.م) وتعرضت أورشليم لأشد هجوم في تاريخها الطويل فلم يكن هذه المرة على يد المصريين أو السوريين ولكنه جاء على يد الإسرائيليين ويسوق الإصحاح الخامس والعشرون من سفر أخبار الأيام الثاني، حديثا يتعثر بالخجل والحياء حيث يقول " صعد يوآش ملك إسرائيل فتراءيا مواجهة هو وأمصيا ملك يهوذا فانهزم يهوذا أمام إسرائيل وأمسكه يوآش ملك إسرائيل – أي أسره - في بيت شمس وجاء به إلى أورشليم وهدم سور أورشليم من باب أفرايم إلى باب الزاوية أربع مائة ذراع وأخذ كل الذهب والفضة وكل الآنية الموجودة في بيت الله" وكان مشهدا مثيرا أن ملك أورشليم قد دخل عاصمته أسيرا وتهدمت الأسوار أمام عينية واستبيحت أورشليم بكل ما فيها من آنية وذهب وفضة.
ثم شهدت أورشليم في أيام الملك اليهودي الثاني عشر "آحاز بن يوثام" (735-715 ق.م.) حربا مزدوجة مع ملكين: ملك آرام رصين، وملك إسرائيل "فقح" فحاصراه في أورشليم مما اضطره لأن يطلب النجدة من ملك الآشوريين في العراق "تغلاث فلاصر" واضطر الملك اليهودي أن يدفع ثمن هذه النجدة كل ما كان في خزائن الهيكل والبيت الملكي من ذخائر وأموال وانتهى الحصار عن أورشليم بعد أن نضبت خزائنها فقد كان الهيكل عند اليهود أشبه بخزائن الدولة وعقب ذلك استطاع ملك آشور أن يفتح دمشق ويزحف على السامرة عاصمة إسرائيل فذهب الملك اليهودي صاحب أورشليم العاصمة الخالدة إلى دمشق مع غيره من ملوك المنطقة لتقديم فروض الولاء والطاعة لتغلاث فلاصر وهكذا خضعت أورشليم إلى العراقيين بعد أن خضعت للمصريين والسوريين ويضيف الإصحاح الثامن والعشرون من سفر أخبار الأيام الثاني إلى ذلك قوله "أن الأدوميين أتوا أيضا وضربوا يهوذا وسبوا سبيا واقتحم الفلسطينيون مدن السواحل وجنوبي يهوذا وأخذوا بيت شمس وأيلون وجديروت وسوكو وقراها وتمنة وقراها وحمرو وقراها وسكنوا هناك" ومعنى ذلك أن أرض يهوذا كلها قد خرجت من تحت السيادة اليهودية وأصبحت تحت يد الأدوميين وسكنوا فيها وبهذا ضاعت الدولة بأسرها من العاصمة أورشليم حتى كل مدنها وقراها.
وفي عهد حزقيا بن آحاز الملك اليهودي الثالث عشر (715-687 ق.م.) وقعت المملكتان اليهوديتان يهوذا وإسرائيل تحت السيطرة الآشورية فقد تمكن الآشوريون عام 732 ق.م. بقيادة سرجون الثاني من تدمير مملكة إسرائيل وحمل سكانها إلى الأسر واضطر الملك حزقيا، وعاصمته أورشليم إلى الخضوع للفاتح الجديد.
وفي عهد سنحاريب بن سرجون (705-681 ق.م.) استولى الآشوريون على بلاد الشام فارتعد حزقيا من الفاتح الجديد وبعث إله يقول: "قد أخطأت ارجع عني، ومهما جعلت علي حملته، فوضع ملك آشور على حزقيا ملك يهوذا ثلاث مائة وزنة من الفضة وثلاثين وزنة من الذهب، فدفع حزقيا جميع الفئات الموجودة في بيت الرب وفي خزائن بيت الملك وفي ذلك الزمان قشرحزقيا الذهب عن أبواب هيكل الرب والدعائم التي كان قد غشاها حزقيا ملك يهوذا ودفعه إلى ملك آشور". وهذا هو كلام الإصحاح الثامن عشر من سفر الملوك الثاني من التوراة.. توراة اليهود.. توراة بيجن.
ويشير قاموس الكتاب المقدس، أن الجزية التي أرسلها الملك اليهودي إلى ملك آشور، إضافة إلى ذلك، تضمنت بناته ومعهن نساء القصر.. ويبدو أن هذه عند اليهود أرخص من الذهب والفضة بل والنحاس.. وامتد خضوع مملكة يهوذا للآشوريين من الوالد إلى الولد، فقد كان الملك اليهودي الرابع عشر منسي بن حزقيا (687-642 ق.م.) تابعا للآشوريين، فقد قبضوا عليه (وأسروه وقيدوه بسلاسل وذهبوا به إلى بابل) كما يروي الإصحاح الثالث والثلاثون من سفر أخبار الأيام الثاني. وشهدت أورشليم العاصمة ملكها مكبلا بالأصفاد يقوده الآشوريون إلى خارج البلاد لتبقى العاصمة بلا ملك، والملك بلا مملكة.
وفي أيام الملك اليهودي السابع عشر يهو آحاز بن يوشيا (609ق.م) وقعت مملكة يهوذا تحت سلطة مصر فما أن استقر الملك اليهودي على العرش مدة ثلاثة أشهر حتى عزله نخاو (فرعون مصر)، وقبض عليه في أورشليم وأرسله إلى مصر أسيرا ومات فيها [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] وقد نسى بيجن في خطابه إلى الشعب المصري أن يذكر هذه الواقعة.
وجاء الدور على الملك اليهودي الثامن عشر (يهويا قيم بن يوشيا) (609-598ق.م) وهو أخو الملك السالف الذكر، وكان قد نصبه على الملك مكان أخيه فرعون مصر "نخار" وكان اسمه الأصلي " الياقيم" ولكن فرعون مصر غيره وأسماه " يهويا قيم" وهو الاسم الذي اعتمدته التوراة، وكان ذلك ذروة الإذلال لمملكة يهوذا أن تربع على الحكم في العاصمة أورشليم ملك يهودي بأمر فرعون مصر، ويحمل الاسم الذي اختاره له ملك مصر!!
وفي عهد هذا الملك اليهودي اقتحم "نبوخذ نصر" وجيشه أورشليم وقيدوا الملك بسلاسل من نحاس وعين الكلدانيون مكانه ابنه يهوياكين، ولم يطل ملكه فقد حاصر نبوخذ نصر أورشليم مرة ثانية وأخذ الملك مع عائلته ورؤساء اليهود وخزائن بيت الرب إلى بابل.
وهكذا سقطت أورشليم على يد "نبوخذ نصر" وبلغ عدد الأسرى الذين سبوا إلى بابل ما بين ثمانية آلاف وعشرة آلاف من سراة اليهود.. وكان عدد الذين شملهم السبي ما بين ثلاثين وأربعين ألفا.
وكان الملك اليهودي العشرون "صدقيا يوشيا" (597- 586 ق0م) هو خاتمة مملكة يهوذا بل وخاتمة اورشليم كعاصمة لليهود، وكان اسمه الحقيقي "متينيا" ولكن "بنوخذ نصر" منحه الاسم الجديد ونصبه ملكا على يهوذا عوضاً عن ابن أخيه الملك اليهودي السالف الذكر وتمرد الملك اليهودي على سيده الكلداني العراقي فجهز عليه نبوخذ نصر حملة عسكرية واقتحم أورشليم وهرب الملك اليهودي من عاصمته إلى شرق الأردن، ولكن أدركه الكلدانيون في سهل أريحا وقبضوا عليه وأخذوه أسيرا وربطوه بسلاسل من نحاس وسيق إلى بابل ومات فيها.
وتقول آخر صفحة في تاريخ مملكة يهوذا أن نبوخذ نصر أحرق الهيكل وأخذ الآلاف من السكان أسرى إلى بابل، وضربت أورشليم وجعلت أكواما من الأنقاض وأصبحت خرابا يبابا.
وهكذا تتلخص سيرة أورشليم بعد انشطار الدولة اليهودية إلى اثنين : يهوذا,وإسرائيل، وفي النهاية نرى العاصمة اليهودية الخالدة وقد سقطت فريسة الاحتلال أو الإذلال مرة على يد المصريين وثانية على يد السوريين، وثالثة على يد العراقيين، وكان ملوكها يجرون إلى العواصم العربية مكبلين بالسلاسل يموتون في الأسر.
ويتجلى في النهاية أن أورشليم قد زالت من الوجود على يد نبوخذ نصر، وأصبحت أكواما من الأنقاض، وهوى الهيكل تحت الأنقاض.. وبزوال العاصمة زال الوجود اليهودي في فلسطين بأكملها وفي العاصمة اليهودية بالذات.
وفي تلك الحقبة التاريخية نهضت دولة ذات شأن في فارس وتمكن ملكها كورش من الاستيلاء على بابل في عام 539 ق.م تم له بعد ذلك فتح بلاد الشام، وكان يهود السبي قد ساعدوه على ذلك فالتمسوا منه أن يأذن لهم بالعودة إلى أورشليم فوافقهم، وقد استطاعت زوجته "أستير اليهودية" أن تحمل ملك الفرس على تلبية هذا الطلب، فعاد قسم من اليهود لا يزيد على خمسين ألفا وبقي القسم الآخر من الأغنياء في العراق.
وكان اليهود العائدون بقيادة شقيق أستير "زربابل" وأخذوا يعملون على إعادة بناء المدينة وإقامة حصونها وتشييد أسوارها، ووضع زربابل الأسس لبناء هيكل جديد، وحمل الهيكل اسمه.. وتم بناؤه في سنة 516ق.م.
وتشير التوراة إلى تلك الفترة في الإصحاح الأول لسفر عزرا، ويكاد القارئ أن يرى شبها بين ما فعله ملك فارس في القرن السادس قبل الميلاد وما فعله ملك بريطانيا بعد ذلك بخمسة وعشرين قرنا حين صدر وعد بلفور بإنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين وتشجيع الهجرة اليهودية.
وتبرز هذه المقارنة العجيبة حين نقرأ في صدر الإصحاح الأول من سفر عزرا أنه "في السنة الأول لكورش ملك فارس أطلق نداء في كل مملكته وبالكتابة أيضا بأن الرب أوصاني أن أبني له بيتا في أورشليم التي في يهوذا.. من منكم يصعد إلى أورشليم فيبني بيت الرب.. وكل من بقي في أحد الأماكن حيث هو متغرب فلينجده أهل مكانه بفضة وبذهب وأمتعة وبهائم مع التبرع لبيت الرب الذي في أورشليم .
وهكذا هاجر من هاجر من اليهود، كما أمر كورش، والذين بقوا "أعانوا بآنية فضة وبذهب وأمتعة وبهائم وتحف فضلا عن كل ما تبرعوا به" كما تقول التوراة.
وهذا هو الذي حدث من أوائل العشرينات في فلسطين في أوائل عهد الانتداب البريطاني فقد بدأت الهجرة اليهودية تحت حماية بريطانيا وافتتحت التبرعات اليهودية في كل أنحاء العالم لبناء الوطن القومي اليهودي..
وكما كان هدف بريطانيا هو حماية المصالح البريطانية فقد كان هدف فارس في ذلك الوقت أن يزرعوا اليهود في فلسطين في هذا الموقع الاستراتيجي الهام، ليكونوا عونا لملك فارس في تحقيق أهدافه بالسيطرة على بلاد الشام وغزو الأراضي المصرية.
ولذلك فإن ما فعله فارس يمثل وعد بلفور الأول عن طريق إنشاء الوطن القومي اليهودي وتشجيع الهجرة اليهودية. وصيغة وعد بلفور الحديثة ليست بعيدة عن الصيغة التي اعتمدها ملك فارس كما وردت في التوراة.
وكما قاوم الشعب الفلسطيني وعد بلفور والهجرة اليهودية في عهد الانتداب البريطاني فإنهم قاوموا كذلك عودة يهود السبي إلى أورشليم
ملك فارس فقد أنزلوا الرعب في قلوب اليهود ويعترف الإصحاح من سفر الثالث من سفر عزرا قائلا عن اليهود "بأنه كان عليهم رعب من شعوب الأراضي" وأن اليهود "أعطوا فضة للنحاتين والنجارين ومأكلا ومشربا وزيتا للصيدونيين والصوريين ليأتوا بخشب أرز من لبنان إلى بحر يافا حسب أذن كورش ملك فارس لهم" وتقول التوراة بعد ذلك "وكان شعب الأرض يرخون أيدي شعب يهوذا ويذعرونهم عن البناء" وفي ملك أحشويرش أحد ملوك الفرس عند ابتداء ملكه كتب شعوب الأرض شكوى على سكان يهوذا وأورشليم، تماما كما قدم الشعب الفلسطيني شكاوى إلى بريطانيا. في أوائل عهد الانتداب البريطاني.
والطريف أن التوراة قد سجلت نص تلك الشكوى التي كتبتها شعوب الأرض يومئذ باللغة الآرامية ويقول نصها ما يلي "عبيدك القوم الذين في عبر النهر إلى آخره ..ليعلم الملك أن اليهود الذين صعدوا من عندك إلينا قد أتوا إلى أورشليم ويبنون المدينة العاصية الرديئة وقد أكملوا أسوارها ورمموا أسسها ليكون الآن معلوما لدى الملك أنه إذا بنيت هذه المدينة وأكملت أسوارها لا يؤدون جزية ولا خراجا ولا خفارة فأخيرا تضر الملوك والبلاد وقد عملوا عصيانا في وسطها منذ الأيام القديمة لذلك أخربت هذه المدينة".
وانتهت الرسالة بإنذار، كما كان الشعب الفلسطيني ينذر بريطانيا ,ويحذرها فقالوا في نهاية شكواهم ونحن نعلم الملك أنه إذا بنيت هذه المدينة وأكملت أسوارها لن يكون لك عند ذلك نصيب في عبر النهر , وهذا انذار بالعصيان والثورة .
وكان الجواب الطريف على هذه الرسالة الطريفة قول الملك في جوابه الموجه إلى ولاته في فلسطين "سلام إلى آخره.. الرسالة التي أرسلتموها إلينا قد قرئت بوضوح أمامي وقد وجد أن هذه المدينة منذ الأيام القديمة تقوم –يعني تثور-على الملوك وقد جرى فيها تمرد وعصيان.. فالآن أخرجوا أمرا بتوقيف أولئك الرجال فلا تبنى هذه المدينة حتى يصدر منى أمر فاحذروا من أن تقصروا من عمل ذلك".
وتقول التوراة بعد ذلك أن ولاة الملك "لما قرئت الرسالة ذهبوا بسرعة إلى أورشليم إلى اليهود وأوقفوهم بذراع وقوة، حينئذ توقف عمل بيت الله الذي في أورشليم وكان متوقفا إلى السنة الثانية من ملك داريوس" (ملك فارسي آخر).
ثم تمضي التوراة بعد ذلك في وقائعها وينتهي الأمر بأن كورش زوج استير اليهودية كان قد أمر ببناء الهيكل وقد صدر من داريوس الأمر " بأن كل إنسان يغير هذا الكلام تسحب خشبة من بيته ويعلق مصلوبا عليها ويجعل بيته مزبلة من أجل هذا.. أنا داريوس قد أمرت فليفعل هذا" تماما مثل تهديدات بريطانيا للشعب الفلسطيني أثناء الانتداب!!
وفي سفر عزرا كذلك تهديد رهيب لمن يخالف حين يقول وكل من لا يعمل يشريعة الملك فليقض عليه عاجلا إما بالموت أو بالنفي أو بغرامة المال أو بالحبس.
وما أغرب الشبه بين الماضي السحيق والماضي القريب، فقد فعلت بريطانيا كما فعلت فارس فقد كانت بريطانيا تستجيب بعض الشيء لمطالب العرب ثم لا تلبث تحت ضغط الصهيونية أن تتراجع فتعود إلى تأييد اليهود.. وكذلك فعلت فارس تحت ضغط أستير الجميلة الفاتنة التي استطاعت أن تستصدر أمراً جديداً بالعودة إلى بناء الهيكل.. والأغرب من ذلك كله أن تكون نصوص التوراة كأنها نسخة طبق الأصل عن السياسة البريطانية وأن تكون العقوبات التي فرضها داريوس بالنفي والغرامة هي التي فرضتها بريطانيا على الفلسطينيين عبر ثلاثين عاما من الانتداب البريطاني.
وكاتب هذا الفصل هو واحد من آلاف الفلسطينيين الذين تعرضوا للاعتقال والنفي في عهد الحكم البريطاني البغيض!!
ورغما عن كل هذه التهديدات تقول التوراة أن سكان جنوب الشام وأواسطه الذين كان يقطنه الفينيقيون والآراميون والسامريون والعرب والفلسطينيون وسكان شرق الأردن من مؤآبيين وعمونيين وغيرهم قاموا بمقاومة رجوع اليهود إلى البلاد تماما كما فعل أحفادهم من الشعب الفلسطيني بعد ذلك بقرون.
ولكن المهم في ذلك أن أورشليم ومعها فلسطين لم تكن تحت السيادة اليهودية ولكنها كانت خاضعة للحكم الفارسي ما يربو على مائتي عام (538-332 ق.م) وقد زاد ذلك على الوجود اليهودي في فلسطين في عهد الدولة الموحدة-عهد سليمان وداود- وكذلك في عهد المملكتين المنقسمتين معا.. وهذه واقعة جديرة بالانتباه.
ومن الفرس انتقلت أورشليم إلى الحكم اليوناني فقد استولى الاسكندر الأكبر على أورشليم عام 332ق.م وتجلت خيانة اليهود وانكارهم لجميل الفرس، فقد استقبلوا الفاتح اليوناني الكبير خارج المدينة عند جبل سكوبس وهو المعروف بهذا الاسم إلى اليوم.
ويقول المؤرخ اليهودي يوسيفوس في وصف ذلك "لما سمع اليهود بمجيء الإسكندر خافوا ولما علم الكاهن الأكبر جمع اليهود وخرجوا يستقبلون الإسكندر لما قرب من المدينة وعظيم الكهنة قدامهم والكاهن الأكبر: لقى الإسكندر بالإكرام والإجلال ومضى معه حتى أدخله إلى القدس ولما دخل الفاتح الهيكل قال الكاهن الأكبر طلبت من جميع الكهنة أن يسموا كل مولود ذكر يولد لهم في هذه السنة إسكندر وأن يدعوا لك كلما دخلوا الهيكل" وهذا جانب من أخلاق اليهود التي جبلوا عليها في كل عصور التاريخ وأمام جميع الحكام.
وبعد وفاة الإسكندر انتقلت أورشليم إلى حكم البطالسة في مصر وبعدها انتقلت إلى حكم السلوقيين في سوريا. وهكذا تتداولها الأيدي كما يتداول الفلاحون الأرض المشاع.
وفي 323 ق.م زحف بطليموس الأول على فلسطين وحاصر القدس ودخلها وسبى عددا من أهلها وأرسلهم إلى مصر.. وهكذا كان سبى اليهود مرة إلى بابل وأخرى إلى مصر.. وأورشليم العاصمة الخالدة تتقاذفها أقدام الفاتحتين والغزاة.
وحصيلة هذه الحقيقة أن أورشليم وقعت تحت الحكم اليوناني قرابة مائتين وسبعين عاما (332-63 ق.م) ولكن السيادة اليونانية على أورشليم قد انتقلت فيما بعد إلى الرومان ففي عام (63ق.م) هاجم القائد الروماني بومبي المدينة وهدم أسوارها وحصونها.. ومنذ ذلك الوقت نصب الرومان على أورشليم واليا من قبلهم.
لكن أورشليم عادت إلى الفرس مرة ثانية عام 40 ق.م. ف غير أن الرومان تمكنوا بعد عامين من طرد الفرس واستعادة البلاد وعينوا هيرودوس واليا عليها، وكان هذا الحاكم من الأدوميين وهو من أصل عربي.
وهيرودوس هذا ولد في عسقلان من أعمال فلسطين-وكانت أمه عربية من أسرة كبيرة معروفة من الأنباط وقد بلغ من دهائه وسعة حيلته أنه جدد بناء الهيكل اليهودي وكان أعظم شأنا من هيكل سليمان ومنع دخوله على غير اليهود، وهو الهيكل الذي كان يدخله السيد المسيح للتبشير والوعظ.
وبعد ذلك قام اليهود بأعمال الشغب والفتنة في أورشليم فقام الإمبراطور الروماني فسبسيان وابنه طيطوس بإخماد ثورة الشعب فحاصر أورشليم من جهاتها الثلاث ودخل الرومان إلى أورشليم في عام 70م وأعمل الفاتحون النهب والسرقة والقتل في المدينة وأحرقوا المعبد الذي أقامه هيرودوس حتى لم يبق منه حجر على حجر، وسبى الألوف من اليهود هذه المرة إلى روما وأرسل آخرون منهم إلى مصر ليعملوا في مناجمها، وأعلن الإمبراطور فسبسيان أن إقليم يهوذا هو ملكه الخاص. وطلب إلى موظفيه تقسيمه إلى قطع صغيرة وبيعه-وهكذا تم-وهو إقليم يهوذا الذي يردده بيجن باستمرار في هذه الأيام لمناسبة التسوية السلمية المطروحة في الوقت الحاضر..(1978)
ولمناسبة الانتصار على اليهود بنى القائد الروماني قوس نصر في روما لا يزال قائما إلى الآن ونصب عليه الشمعدان ذي الرؤوس السبعة المشهورة عند اليهود وقد انتزعه من الهيكل.
و تخليدا لهذا النصر كذلك فقد انتشرت عبارة هب. هب.. هورا التي تردد عند النصر في ملاعب كرة القدم في هذه الأيام وهي اختصار لعبارة (هيروسيليما أست برديتا)
(Herosilyma Est perdita) وترجمتها (الآن سقطت أورشليم).
وتلخيصا لهذه السيرة الطويلة لتاريخ أورشليم، يقول مؤلف قاموس الكتاب المقدس أن المدينة حوصرت 17 مرة ما بين أيام يشوع اليهودي إلى طيطوس الروماني وأنه هدمت مرتين وقلبت أسوارها مرتين..
غير أن الإمبراطور الروماني هدريان أضاف إلى ذلك أنه دمرها عن بكرة أبيها ولكنه ترك في أورشليم من المنشآت التي خلدت اسمه، بأكثر مما خلف اليهود.. فقد أنشأ القصر الملكي ومكانه اليوم ما يعرف بالقلعة. وأنشأ فيها حدائق عامة وكذلك فإنه أحاط حصن أورشليم بسور عظيم وبنى عليه ثلاثة أبراج.. كان اسم أحدها فصايل على اسم أحد أولاده.. وهو اسم عربي مبين.
وأنشأ هيرودس قبل ذلك مسرحا عظيما ومدرجا وميدانا لسباق الخيل وعددا من التماثيل والحمامات. وفي آخر سنة من سني حكم هيرودوس-هذا الحاكم العربي-ولد السيد المسيح عليه السلام.
وما أن أفل القرن الأول قبل الميلاد حتى ولد أعظم يهودي في التاريخ، هو عيسى بن مريم السيد المسيح عليه السلام.. ولد في بيت لحم من أعمال فلسطين، وهي على بعد بضعة أميال جنوبي بيت المقدس، فلم يكن لليهود يومئذ دولة في فلسطين، ولم تكن أورشليم عاصمة لليهود ذلك أن الرومان كانوا قد احتلوا فلسطين قبل مولد السيد المسيح بستين عاما، وأصبحت ولاية رومانية تابعة للإمبراطورية الرومانية، وكان على عرش روما يومئذ أوغسطوس قيصر 27ق.م-14ب.م، ولكن رئيس وزراء العدو يتجاهل هذه الحقبة كلها ولا يشير إليها من قريب أو من بعيد، وكل ما يهتم به أن يردد على الناس الأكذوبة الكبرى أن "أورشليم هي عاصمة إسرائيل منذ ثلاثة آلاف عام وأنها ستبقى كذلك إلى الأبد". وقد شطب الحقبة الرومانية من التاريخ!!
ولسنا بصدد الكلام عن نشأة السيد المسيح ودعوته فذلك كله له مراجعه، والكثير منه يؤلف جزءا من الثقافة الشعبية لدى المسيحيين والمسلمين على السواء.. سوى أن نقول أن السيد المسيح قد اتخذ من أورشليم عاصمة لدعوته الجديدة التي أصبحت فيما بعد عقيدة دينية كبرى للغالبية العظمى من البشر.
ومن يقرأ الأناجيل التي هي المرجع الأكبر لحياة السيد المسيح ودعوته، يجد نفسه في أورشليم وقد أصبحت منبرا لهذا النبي العظيم يدعو الناس جميعا وخاصة يهود فلسطين أن يعودوا إلى عبادة الله ويجتنبوا الرذائل والموبقات والمعاصي التي غرق فيها المجتمع اليهودي كله.
وقد شن بولس الرسول وهو من أكبر حواري السيد المسيح حملة كبرى على اليهود وتناولهم بأقسى العبارات فقال عنهم "لقد ضلوا كلهم فرذلوا وليس أحد منهم يحمل الصلاح.. حناجرهم قبور مفتحة وقد غشوا بألسنتهم، وسم الضلال تحت شفاههم، وأفواههم مملوءة لعنة ومرارة وأرجلهم سارعة إلى سفك الدماء، وفي مسالكهم خصم ومشقة ولم يعرفوا سبيل السلام في كلام الإنجيل !! ما يدل على أن بني إسرائيل ليسوا قوم سلام وليست مخافة الله أمام أعينهم وليلاحظ القارئ العربي ورود كلمة السلام منذ ذلك العهد البعيد!! فضلا عن أن الصفات التي سردها الإنجيل لا تزال هي هي أخلاق إسرائيل المعاصرة!!
وكان السيد المسيح أقسى من ذلك في حواره مع اليهود في شوارع أورشليم وفي ساحاتها بل وفي الهيكل نفسه فقد صاح في وجوههم قائلا :" انتم تشهدون على أنفسكم أنكم قتلة الأنبياء. .. أيها الحيات أولاد الأفاعي"[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]. ونشب بينه وبين كهنة اليهود حوار ساخن، فقد دخل السيد المسيح إلى الهيكل مرة ليرى فيه الكهنة يتعاملون بالربا ويبيعون الحمام حتى أصبح سوقا للطيور وبورصة للربا.. فثار السيد المسيح لهذا المشهد الرهيب فطرد الباعة وألقى بضائعهم على الأرض و بعثر موائدهم في أرجاء الهيكل.
ويكفينا هذا القدر من ثورة المسيح على بني قومه وتنديده بهم فإن بقية السيرة مفصلة في الأناجيل، فقد سردت الأحداث والوقائع التي جرت بينه وبينهم في أورشليم التي غدت عاصمة للثائر العظيم يعلن منها الثورة على اليهود من غير هوادة ولا مواربة.
والمهم في هذه الحقبة التي شهدت أورشليم تحت حكم الرومان، وفلسطين كلها ولاية رومانية، أن اليهود قد بدأوا بالشغب في البلاد وإشاعة القلاقل والاضطرابات مما حمل القوات الرومانية على استئصال شأفة الفتنة ، وشنوا حلمة تأديبية على اليهود وساعدهم في ذلك اليونان والسوريون من أهل البلاد، وتقدم طيطوس أحد قادة الرومان البارزين ومعه الفرق العربية والسورية (الآرامية) وعسكر في تل الفول على بعد بضعة كيلو مترات شمال القدس، واقتحم الرومان أورشليم من الشمال من باب الساهرة المعروف بهذا الاسم إلى يومنا هذا، وكان ذلك في شهر أغسطس عام 70م، وأصبح بيت المقدس أكواما من الأنقاض وأحرق الهيكل الذي بناه هيرودوس وسوي بالأرض، وهرب اليهود من أورشليم لاجئين إلى الأقطار المجاورة..
وجاء عهد القيصر الروماني الشهير هدريان فأتم تطهير أورشليم من اليهود وحرم عليهم العودة إليها والسكن فيها، بل والدنو منها.. وأباح للمسيحيين أن يقيموا فيها بشرط أن لا يكونوا من أصل يهودي وأعطى المدينة اسما جديدا (إيلياكابيتولينا) اشتقاقا من اسم أسرة القيصر المدعوة إيليا.. وبقي اسمها هذا إلى أن فتحها العرب المسلمون، ومن هنا نرى في المراجع الإسلامية اسم إيلياء عند ذكر (بيت المقدس).
ويقول الأستاذ الدباغ في كتابه بلادنا فلسطين ص 660 "ولم تعد لليهود قائمة، فإنهم تشتتوا في أقطار العالم المعروف في أوروبا وآسيا وأفريقيا"، "وانتهت صلة اليهود بفلسطين ولم يعد لها وجود طوال السنوات الألف والثلاثمائة التي تلت"[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط].
واقتبس الأستاذ الدباغ نقلا عن "كلرمون كانو" وهو مؤرخ مرموق أنه "لما دخل المسلمون أرض اليهودية لم يجدوا يهوذا لأن حروب الرومان لم تترك حجرا على حجر من اليهودية السياسية والوثنية بل أمعنوا في القضاء عليها وذروا رمادها في الرياح ففقدت فلسطين جميع التقاليد اليهودية"[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط].
وهكذا يبدو واضحا أنه في حكم الرومان لفلسطين وبلاد الشام لم تكن أورشليم عاصمة لإسرائيل، فقد كانت إحدى الحواضر العربية الواقعة تحت سيادة الرومان وواضح كذلك أنه لم يكن في أورشليم يهود إطلاقا حتى تكون عاصمة لهم.. إذ كيف يمكننا أن نتصور عاصمة يهودية من غير يهود..
ومن المهم أن لا ننسى أن الرومان قد حكموا بيت المقدس وبلاد الشام مدة طويلة بلغت 458 عاما وتلك هي عملية حسابية بسيطة يعرفها الطلاب في روضة الأطفال إذا كان يجهلها رئيس وزراء العدو بيجن، ذلك أن حكم الرومان لفلسطين قد بدأ عام 63 ق.م. وامتد إلى عام 395 م وبذلك نصلإلى الرقم الذي أسلفناه 458 عاما..
وعلى هذا، فإن أورشليم يصح أن تعتبر عاصمة رومانية للرومان لا لليهود إذا كانت السيادة السياسية هي التي تقرر وضع العاصمة لأي بلد في العالم.
ولا يفوتنا في هذا المجال أن نذكر بأن حكم الرومان في فلسطين "ديار الشام" لم يكن ينفي الوجود العربي في هذه الديار، فقد كان سكان بلاد الشام قبل عصر الإمبراطورية الرومانية يقرب من 5-6 ملايين نسمة. بينهم ما يقرب من مليون في فلسطين، وفي القرن الأول للميلاد كان سكان يافا والجليل والقدس وغور أريحا وبلاد نابلس وعمان خليطا من المصريين والعرب والفينيقيين[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط].
وعلى خلاف اليهود الذين لم يتركوا أثرا يذكر في فلسطين فقد بنى الرومان في فلسطين عديدا من القرى والمدن لا تزال أسماؤها تدل عليها حتى الآن.
ومن هذه المدن والقرى الفلسطينية "ايليا كابيتولينا" (القدس) و "نيابوليس" (نابلس)، وفصايلس" (خربة فصايل) و"يامينا" (يبنا) و "طيباريه" (طبريا) و"اليثروبوليس" (بيت جبرين) و"ديو سبوليس" (اللد)، و"صفوريس" (صفورية) و "قصيرية" (قيسارية) و"عمواس" (القبيبة) –وغيرها كثيرة.
وفي قرى صفد نرى أن قرى دفنا وعكبرة والجش وميرون وتليل هي أسماء رومانية بالأصل تحرفت إلى ما هي عليه الآن.
وكان الجواب الطريف على هذه الرسالة الطريفة قول الملك في جوابه الموجه إلى ولاته في فلسطين "سلام إلى آخره.. الرسالة التي أرسلتموها إلينا قد قرئت بوضوح أمامي وقد وجد أن هذه المدينة منذ الأيام القديمة تقوم –يعني تثور-على الملوك وقد جرى فيها تمرد وعصيان.. فالآن أخرجوا أمرا بتوقيف أولئك الرجال فلا تبنى هذه المدينة حتى يصدر منى أمر فاحذروا من أن تقصروا من عمل ذلك".
وتقول التوراة بعد ذلك أن ولاة الملك "لما قرئت الرسالة ذهبوا بسرعة إلى أورشليم إلى اليهود وأوقفوهم بذراع وقوة، حينئذ توقف عمل بيت الله الذي في أورشليم وكان متوقفا إلى السنة الثانية من ملك داريوس" (ملك فارسي آخر).
ثم تمضي التوراة بعد ذلك في وقائعها وينتهي الأمر بأن كورش زوج استير اليهودية كان قد أمر ببناء الهيكل وقد صدر من داريوس الأمر " بأن كل إنسان يغير هذا الكلام تسحب خشبة من بيته ويعلق مصلوبا عليها ويجعل بيته مزبلة من أجل هذا.. أنا داريوس قد أمرت فليفعل هذا" تماما مثل تهديدات بريطانيا للشعب الفلسطيني أثناء الانتداب!!
وفي سفر عزرا كذلك تهديد رهيب لمن يخالف حين يقول وكل من لا يعمل يشريعة الملك فليقض عليه عاجلا إما بالموت أو بالنفي أو بغرامة المال أو بالحبس.
وما أغرب الشبه بين الماضي السحيق والماضي القريب، فقد فعلت بريطانيا كما فعلت فارس فقد كانت بريطانيا تستجيب بعض الشيء لمطالب العرب ثم لا تلبث تحت ضغط الصهيونية أن تتراجع فتعود إلى تأييد اليهود.. وكذلك فعلت فارس تحت ضغط أستير الجميلة الفاتنة التي استطاعت أن تستصدر أمراً جديداً بالعودة إلى بناء الهيكل.. والأغرب من ذلك كله أن تكون نصوص التوراة كأنها نسخة طبق الأصل عن السياسة البريطانية وأن تكون العقوبات التي فرضها داريوس بالنفي والغرامة هي التي فرضتها بريطانيا على الفلسطينيين عبر ثلاثين عاما من الانتداب البريطاني.
وكاتب هذا الفصل هو واحد من آلاف الفلسطينيين الذين تعرضوا للاعتقال والنفي في عهد الحكم البريطاني البغيض!!
ورغما عن كل هذه التهديدات تقول التوراة أن سكان جنوب الشام وأواسطه الذين كان يقطنه الفينيقيون والآراميون والسامريون والعرب والفلسطينيون وسكان شرق الأردن من مؤآبيين وعمونيين وغيرهم قاموا بمقاومة رجوع اليهود إلى البلاد تماما كما فعل أحفادهم من الشعب الفلسطيني بعد ذلك بقرون.
ولكن المهم في ذلك أن أورشليم ومعها فلسطين لم تكن تحت السيادة اليهودية ولكنها كانت خاضعة للحكم الفارسي ما يربو على مائتي عام (538-332 ق.م) وقد زاد ذلك على الوجود اليهودي في فلسطين في عهد الدولة الموحدة-عهد سليمان وداود- وكذلك في عهد المملكتين المنقسمتين معا.. وهذه واقعة جديرة بالانتباه.
ومن الفرس انتقلت أورشليم إلى الحكم اليوناني فقد استولى الاسكندر الأكبر على أورشليم عام 332ق.م وتجلت خيانة اليهود وانكارهم لجميل الفرس، فقد استقبلوا الفاتح اليوناني الكبير خارج المدينة عند جبل سكوبس وهو المعروف بهذا الاسم إلى اليوم.
ويقول المؤرخ اليهودي يوسيفوس في وصف ذلك "لما سمع اليهود بمجيء الإسكندر خافوا ولما علم الكاهن الأكبر جمع اليهود وخرجوا يستقبلون الإسكندر لما قرب من المدينة وعظيم الكهنة
الكهنة قدامهم والكاهن الأكبر: لقى الإسكندر بالإكرام والإجلال ومضى معه حتى أدخله إلى القدس ولما دخل الفاتح الهيكل قال الكاهن الأكبر طلبت من جميع الكهنة أن يسموا كل مولود ذكر يولد لهم في هذه السنة إسكندر وأن يدعوا لك كلما دخلوا الهيكل" وهذا جانب من أخلاق اليهود التي جبلوا عليها في كل عصور التاريخ وأمام جميع الحكام.
وبعد وفاة الإسكندر انتقلت أورشليم إلى حكم البطالسة في مصر وبعدها انتقلت إلى حكم السلوقيين في سوريا. وهكذا تتداولها الأيدي كما يتداول الفلاحون الأرض المشاع.
وفي 323 ق.م زحف بطليموس الأول على فلسطين وحاصر القدس ودخلها وسبى عددا من أهلها وأرسلهم إلى مصر.. وهكذا كان سبى اليهود مرة إلى بابل وأخرى إلى مصر.. وأورشليم العاصمة الخالدة تتقاذفها أقدام الفاتحتين والغزاة.
وحصيلة هذه الحقيقة أن أورشليم وقعت تحت الحكم اليوناني قرابة مائتين وسبعين عاما (332-63 ق.م) ولكن السيادة اليونانية على أورشليم قد انتقلت فيما بعد إلى الرومان ففي عام (63ق.م) هاجم القائد الروماني بومبي المدينة وهدم أسوارها وحصونها.. ومنذ ذلك الوقت نصب الرومان على أورشليم واليا من قبلهم.
لكن أورشليم عادت إلى الفرس مرة ثانية عام 40 ق.م. ف غير أن الرومان تمكنوا بعد عامين من طرد الفرس واستعادة البلاد وعينوا هيرودوس واليا عليها، وكان هذا الحاكم من الأدوميين وهو من أصل عربي.
وهيرودوس هذا ولد في عسقلان من أعمال فلسطين-وكانت أمه عربية من أسرة كبيرة معروفة من الأنباط وقد بلغ من دهائه وسعة حيلته أنه جدد بناء الهيكل اليهودي وكان أعظم شأنا من هيكل سليمان ومنع دخوله على غير اليهود، وهو الهيكل الذي كان يدخله السيد المسيح للتبشير والوعظ.
وبعد ذلك قام اليهود بأعمال الشغب والفتنة في أورشليم فقام الإمبراطور الروماني فسبسيان وابنه طيطوس بإخماد ثورة الشعب فحاصر أورشليم من جهاتها الثلاث ودخل الرومان إلى أورشليم في عام 70م وأعمل الفاتحون النهب والسرقة والقتل في المدينة وأحرقوا المعبد الذي أقامه هيرودوس حتى لم يبق منه حجر على حجر، وسبى الألوف من اليهود هذه المرة إلى روما وأرسل آخرون منهم إلى مصر ليعملوا في مناجمها، وأعلن الإمبراطور فسبسيان أن إقليم يهوذا هو ملكه الخاص. وطلب إلى موظفيه تقسيمه إلى قطع صغيرة وبيعه-وهكذا تم-وهو إقليم يهوذا الذي يردده بيجن باستمرار في هذه الأيام لمناسبة التسوية السلمية المطروحة في الوقت الحاضر..(1978)
ولمناسبة الانتصار على اليهود بنى القائد الروماني قوس نصر في روما لا يزال قائما إلى الآن ونصب عليه الشمعدان ذي الرؤوس السبعة المشهورة عند اليهود وقد انتزعه من الهيكل.
و تخليدا لهذا النصر كذلك فقد انتشرت عبارة هب. هب.. هورا التي تردد عند النصر في ملاعب كرة القدم في هذه الأيام وهي اختصار لعبارة (هيروسيليما أست برديتا)
(Herosilyma Est perdita) وترجمتها (الآن سقطت أورشليم).
وتلخيصا لهذه السيرة الطويلة لتاريخ أورشليم، يقول مؤلف قاموس الكتاب المقدس أن المدينة حوصرت 17 مرة ما بين أيام يشوع اليهودي إلى طيطوس الروماني وأنه هدمت مرتين وقلبت أسوارها مرتين..
غير أن الإمبراطور الروماني هدريان أضاف إلى ذلك أنه دمرها عن بكرة أبيها ولكنه ترك في أورشليم من المنشآت التي خلدت اسمه، بأكثر مما خلف اليهود.. فقد أنشأ القصر الملكي ومكانه اليوم ما يعرف بالقلعة. وأنشأ فيها حدائق عامة وكذلك فإنه أحاط حصن أورشليم بسور عظيم وبنى عليه ثلاثة أبراج.. كان اسم أحدها فصايل على اسم أحد أولاده.. وهو اسم عربي مبين.
وأنشأ هيرودس قبل ذلك مسرحا عظيما ومدرجا وميدانا لسباق الخيل وعددا من التماثيل والحمامات. وفي آخر سنة من سني حكم هيرودوس-هذا الحاكم العربي-ولد السيد المسيح عليه السلام. وما أن أفل القرن الأول قبل الميلاد حتى ولد أعظم يهودي في التاريخ، هو عيسى بن مريم السيد المسيح عليه السلام.. ولد في بيت لحم من أعمال فلسطين، وهي على بعد بضعة أميال جنوبي بيت المقدس، فلم يكن لليهود يومئذ دولة في فلسطين، ولم تكن أورشليم عاصمة لليهود ذلك أن الرومان كانوا قد احتلوا فلسطين قبل مولد السيد المسيح بستين عاما، وأصبحت ولاية رومانية تابعة للإمبراطورية الرومانية، وكان على عرش روما يومئذ أوغسطوس قيصر 27ق.م-14ب.م، ولكن رئيس وزراء العدو يتجاهل هذه الحقبة كلها ولا يشير إليها من قريب أو من بعيد، وكل ما يهتم به أن يردد على الناس الأكذوبة الكبرى أن "أورشليم هي عاصمة إسرائيل
منذ ثلاثة آلاف عام وأنها ستبقى كذلك إلى الأبد". وقد شطب الحقبة الرومانية من التاريخ!!
ولسنا بصدد الكلام عن نشأة السيد المسيح ودعوته فذلك كله له مراجعه، والكثير منه يؤلف جزءا من الثقافة الشعبية لدى المسيحيين والمسلمين على السواء.. سوى أن نقول أن السيد المسيح قد اتخذ من أورشليم عاصمة لدعوته الجديدة التي أصبحت فيما بعد عقيدة دينية كبرى للغالبية العظمى من البشر.
ومن يقرأ الأناجيل التي هي المرجع الأكبر لحياة السيد المسيح ودعوته، يجد نفسه في أورشليم وقد أصبحت منبرا لهذا النبي العظيم يدعو الناس جميعا وخاصة يهود فلسطين أن يعودوا إلى عبادة الله ويجتنبوا الرذائل والموبقات والمعاصي التي غرق فيها المجتمع اليهودي كله.
وقد شن بولس الرسول وهو من أكبر حواري السيد المسيح حملة كبرى على اليهود وتناولهم بأقسى العبارات فقال عنهم "لقد ضلوا كلهم فرذلوا وليس أحد منهم يحمل الصلاح.. حناجرهم قبور مفتحة وقد غشوا بألسنتهم، وسم الضلال تحت شفاههم، وأفواههم مملوءة لعنة ومرارة وأرجلهم سارعة إلى سفك الدماء، وفي مسالكهم خصم ومشقة ولم يعرفوا سبيل السلام في كلام الإنجيل !! ما يدل على أن بني إسرائيل ليسوا قوم سلام وليست مخافة الله أمام أعينهم وليلاحظ القارئ العربي ورود كلمة السلام منذ ذلك العهد البعيد!! فضلا عن أن الصفات التي سردها الإنجيل لا تزال هي هي أخلاق إسرائيل المعاصرة!!
وكان السيد المسيح أقسى من ذلك في حواره مع اليهود في شوارع أورشليم وفي ساحاتها بل وفي الهيكل نفسه فقد صاح في وجوههم قائلا :" انتم تشهدون على أنفسكم أنكم قتلة الأنبياء. .. أيها الحيات أولاد الأفاعي"[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]. ونشب بينه وبين كهنة اليهود حوار ساخن، فقد دخل السيد المسيح إلى الهيكل مرة ليرى فيه الكهنة يتعاملون بالربا ويبيعون الحمام حتى أصبح سوقا للطيور وبورصة للربا.. فثار السيد المسيح لهذا المشهد الرهيب فطرد الباعة وألقى بضائعهم على الأرض و بعثر موائدهم في أرجاء الهيكل.
ويكفينا هذا القدر من ثورة المسيح على بني قومه وتنديده بهم فإن بقية السيرة مفصلة في الأناجيل، فقد سردت الأحداث والوقائع التي جرت بينه وبينهم في أورشليم التي غدت عاصمة للثائر العظيم يعلن منها الثورة على اليهود من غير هوادة ولا مواربة.
والمهم في هذه الحقبة التي شهدت أورشليم تحت حكم الرومان، وفلسطين كلها ولاية رومانية، أن اليهود قد بدأوا بالشغب في البلاد وإشاعة القلاقل والاضطرابات مما حمل القوات الرومانية على استئصال شأفة الفتنة ، وشنوا حلمة تأديبية على اليهود وساعدهم في ذلك اليونان والسوريون من أهل البلاد، وتقدم طيطوس أحد قادة الرومان البارزين ومعه الفرق العربية والسورية (الآرامية) وعسكر في تل الفول على بعد بضعة كيلو مترات شمال القدس، واقتحم الرومان أورشليم من الشمال من باب الساهرة المعروف بهذا الاسم إلى يومنا هذا، وكان ذلك في شهر أغسطس عام 70م، وأصبح بيت المقدس أكواما من الأنقاض وأحرق الهيكل الذي بناه هيرودوس وسوي بالأرض، وهرب اليهود من أورشليم لاجئين إلى الأقطار المجاورة..
وجاء عهد القيصر الروماني الشهير هدريان فأتم تطهير أورشليم من اليهود وحرم عليهم العودة إليها والسكن فيها، بل والدنو منها.. وأباح للمسيحيين أن يقيموا فيها بشرط أن لا يكونوا من أصل يهودي وأعطى المدينة اسما جديدا (إيلياكابيتولينا) اشتقاقا من اسم أسرة القيصر المدعوة إيليا.. وبقي اسمها هذا إلى أن فتحها العرب المسلمون، ومن هنا نرى في المراجع الإسلامية اسم إيلياء عند ذكر (بيت المقدس).
ويقول الأستاذ الدباغ في كتابه بلادنا فلسطين ص 660 "ولم تعد لليهود قائمة، فإنهم تشتتوا في أقطار العالم المعروف في أوروبا وآسيا وأفريقيا"، "وانتهت صلة اليهود بفلسطين ولم يعد لها وجود طوال السنوات الألف والثلاثمائة التي تلت"[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط].
واقتبس الأستاذ الدباغ نقلا عن "كلرمون كانو" وهو مؤرخ مرموق أنه "لما دخل المسلمون أرض اليهودية لم يجدوا يهوذا لأن حروب الرومان لم تترك حجرا على حجر من اليهودية السياسية والوثنية بل أمعنوا في القضاء عليها وذروا رمادها في الرياح ففقدت فلسطين جميع التقاليد اليهودية"[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط].
وهكذا يبدو واضحا أنه في حكم الرومان لفلسطين وبلاد الشام لم تكن أورشليم عاصمة لإسرائيل، فقد كانت إحدى الحواضر العربية الواقعة تحت سيادة الرومان وواضح كذلك أنه لم يكن في أورشليم يهود إطلاقا حتى تكون عاصمة لهم.. إذ كيف يمكننا أن نتصور عاصمة يهودية من غير يهود..
ومن المهم أن لا ننسى أن الرومان قد حكموا بيت المقدس وبلاد الشام مدة طويلة بلغت 458 عاما وتلك هي عملية حسابية بسيطة يعرفها الطلاب في روضة الأطفال إذا كان يجهلها رئيس وزراء العدو بيجن، ذلك أن حكم الرومان لفلسطين قد بدأ عام 63 ق.م. وامتد إلى عام 395 م وبذلك نصلإلى الرقم الذي أسلفناه 458 عاما..
وعلى هذا، فإن أورشليم يصح أن تعتبر عاصمة رومانية للرومان لا لليهود إذا كانت السيادة السياسية هي التي تقرر وضع العاصمة لأي بلد في العالم.
ولا يفوتنا في هذا المجال أن نذكر بأن حكم الرومان في فلسطين "ديار الشام" لم يكن ينفي الوجود العربي في هذه الديار، فقد كان سكان بلاد الشام قبل عصر الإمبراطورية الرومانية يقرب من 5-6 ملايين نسمة. بينهم ما يقرب من مليون في فلسطين، وفي القرن الأول للميلاد كان سكان يافا والجليل والقدس وغور أريحا وبلاد نابلس وعمان خليطا من المصريين والعرب والفينيقيين[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط].
وعلى خلاف اليهود الذين لم يتركوا أثرا يذكر في فلسطين فقد بنى الرومان في فلسطين عديدا من القرى والمدن لا تزال أسماؤها تدل عليها حتى الآن.
ومن هذه المدن والقرى الفلسطينية "ايليا كابيتولينا" (القدس) و "نيابوليس" (نابلس)، وفصايلس" (خربة فصايل) و"يامينا" (يبنا) و "طيباريه" (طبريا) و"اليثروبوليس" (بيت جبرين) و"ديو سبوليس" (اللد)، و"صفوريس" (صفورية) و "قصيرية" (قيسارية) و"عمواس" (القبيبة) –وغيرها كثيرة.
وفي قرى صفد نرى أن قرى دفنا وعكبرة والجش وميرون وتليل هي أسماء رومانية بالأصل تحرفت إلى ما هي عليه الآن.
وكذلك الحال بالنسبة إلى قرى عكا، فإن قرى عمقا والبروة وكفر سميع ويانوح ومجدل كروم هي أٍسماء رومانية تعربت كما هي الآن.
وفي قرى الناصرة كفر مند , ومعلول , والرينة , ونين , تعربت كذلك إلى أسمائها المعاصرة.
ومن قرى طبرية "عيلبون" والطابغة وياقوت وكفر نمرين وعولم ويما وسمخ تعربت عن الرومانية وأصبحت أسماؤها عربية..
ومن قرى حيفا "اعيلين وطبعون وشفا عمرو" تعربت كلها عن الرومانية وأصبحنا ننطقها بأسمائها المعاصرة.
وكذلك الحال في قرى جنين "سيلة الظهر" وعطارة وجلبون وعربونة وبيت قاد وقرى أخرى كثيرة من أعمال نابلس وطولكرم والقدس والرملة ويافا[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط].
هذا ويمكننا القول أن بني إسرائيل لم يبنوا مدينة تذكر، ولا تركوا لهم أَثراً له قيمة تاريخية على حين أن الرومان قد بنوا في فلسطين كثيراً من المعابد والهياكل والحصون والقلاع والقصور والمسارح والحمامات والأسوار والمعاهد العمومية.. ويكفي أن نشير إلى آثار جرش في شرق الأردن، فضلا عن الآثار الكثيرة في فلسطين ذاتها.
وإلى جانب ذلك فقد أنشأ الرومان شبكة من الطرق والمواصلات في الوطن العربي وفلسطين، وقد أقام الرومان جسرين على نهر الأردن الأول جنوبي بحيرة طبريا والثاني أقيم على البقعة التي عليها جسر المجامع اليوم، ومعلوم أن بين فلسطين وشرقي الأردن جسرين رئيسيين، في هذه الأيام تماما كعهد الرومان!!.
ويحق لنا أن نسأل بيجن، والجامعة العبرية معه، ماذا أنشأ اليهود في القدس أو في فلسطين كلها؟!
أما بالنسبة للحركة العلمية في فلسطين فإن للرومان سجلا حافلا في هذا المجال لم يستطع بنو إسرائيل أن يماثلوه ولو في حبة خردل، ففي عسقلان أنشأ الرومان مدارس عدة ذات شهرة تاريخية فائقة.. وأنشأوا كذلك مدرسة الحقوق في قيسارية، ومدرسة لاهوتية كذلك كان يدرس فيها الفلك والمنطق والفلسفة والهندسة وغيرها من العلوم.
فأين المعاهد العلمية التي أنشأها بنو إسرائيل في أي مدينة من مدن فلسطين ناهيك عن القدس نفسها!!
بل إنها مفارقة عجيبة أن المؤرخ اليهودي الشهير يوسيفوس وهو أَحد كهنة القدس قد نشأ في كنف هذه النهضة العلمية التي أنشأها الرومان.. ومع أن هذا المؤرخ الكبير يهودي العقيدة فقد مُنح المواطنة الرومانية وأصبح مواطناً رومانيا، واعتبر ذلك أكبر شرف له في حياته.
ومرت الأحداث فانقسمت الإمبراطورية الرومانية عام 395م إلى قسمين: الدولة الرومانية الشرقية والدولة الرومانية الغربية، وكانت بلاد الشام ومنها فلسطين تابعة للدولة الرومانية الشرقية البيزنطية وقد امتدت هذه السيادة من 2395-636 م أي حوالي 241 عاما بالحساب، ولم تكن أورشليم خلالها عاصمة يهودية ولم يكن لليهود وجود فيها ولا في فلسطين كلها.
وعرفت فلسطين في ذلك الوقت نهضة زراعية شاملة ففي القرن السادس للميلاد كانت تحمل أكياس الأدم وخمور غزة من فلسطين إلى فرنسا[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]، وهي إقليم الخمور التاريخي ولم يكن لليهود في فلسطين أي أثر زراعي على هذا النحو.
وفي هذا العهد البيزنطي كان الوجود اليهودي معدوما بصورة مطلقة، ويقابل ذلك الوجود العربي البارز. ومن الحوادث التاريخية الطريفة في هذا العهد أن الإمبراطور ليون الأول (457م-474م) قد أقر أمرؤ القيس شيخ دومة الجندل وأطرافها على حكم بعض النواحي التي كان قد استولى عليها فيها فلسطين، ومن جملتها جزيرة تيران وهي التابعة للدولة السعودية في الوقت الحاضر وهي عند مضايق تيران[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]. وفي هذا العهد كذلك أثناء حكم الإمبراطور البيزنطي يوستنانوس ثار السامريون في فلسطين عام 529 فأخمد ثورتهم الأمير الحارث الثاني العربي الغساني.
وأقبل عام 610م وتولى الإمبراطورية البيزنطية هرقل المعروف في التاريخ العربي.وفي أيامه استطاع الفرس الاستيلاء على فلسطين، والقدس من جملتها، وهدمت كثير من الأديرة والكنائس ونقل الصليب الكبير عند المسيحيين إلى بلاد فارس.. على أن حكم الفرس لم يدم طويلا فقد استطاع هرقل أن يسترد سوريا في معركة فاصلة وقعت في نينوى عام 627م. وفي14أيلول من عام 628م احتفل هرقل ببيت المقدس برفع الصليب بعد أن استرده من الفرس وما زال المسيحيون في ديار الشام يحتفلون بعيد الصليب في 14 أيلول من كل عام إلى يومنا هذا.
ومن الوقائع التاريخية الطريفة أن عامل هرقل على غزة والبحر الميت، بعد استرداد بيت المقدس من الفرس كان عربيا اسمه امرؤ القيس ويعرف باسم دوق غزة والبحر الميت.
ولكن ما أن استرد هرقل بيت المقدس من يد الفرس حتى سلمهاإلى أصحابها القدماء العرب. وذلك في العهد الإسلامي زمن سيدنا عمر بن الخطاب، وسيرة ذلك مفصلة في الكتاب الرائع (عمر الفاروق) الذي ألفه الدكتور محمد حسين هيكل، ويجد القارئ فيه تفاصيل الفتح العربي في صورة زاهية صادقة..
أما سيرة بيت المقدس بعد الفتح الإسلامي فإنها معروفة تماما وتكاد أن تكون جزءا من الثقافة الشعبية العامة، فقد تعاقب على الحكم الإسلامي في القدس ما تعاقب على الأوطان الإسلامية من الأسر الحاكمة المعروفة.. الأمويون والعباسيون والفاطميون والأيوبيون إلى آخر السلسلة، وكان الحكم العثماني هو الحلقة الأخيرة في السلسلة.. وقد امتد هذا الحكم العثماني قرابة خسمايه عام، وكان بيت المقدس في ذلك الوقت تابعا إلى الأستانة كمتصرفية (محافظة) ممتازة تقديراً لقيمتها الدينية والتاريخية، ولا نحسب أن بيجن يملك من الوقاحة في الكذب بأن يدعي بأن بيت المقدس كانت في العهد العثماني عاصمة لإسرائيل أو في العهود الإسلامية السابقة!!
ومن الثابت أن ولاة بيت المقدس في العهد العثماني كانوا يعينون من قبل خليفة المسلمين العثماني في الأستانة.. وكان أهل بيت المقدس في كثرتهم الغالبة من المسلمين والمسيحيين العرب، وكان اليهود قلة لم يكثر عددها إلا بعد العهود البريطاني بسبب الهجرة اليهودية.
وحتى في العهد البريطاني كان رؤساء بلديات القدس من العرب المسلمين وهم على التوالي حسين بك الحسيني، راغب بك النشاشيبي،والدكتور حسين فخري الخالدي.. وكان بعض أعضاء المجلس البلدي في القدس من اليهود عملوا تحت رياسة العرب المسلمين..
وفي العهد الأردني، بعد ضم الضفة الغربية إلى الأردن كان أمين بلدية القدس هو الأستاذ روحي الخطيب. وبقي في منصبه هذا إلى أن سقطت المدينة المقدسة بأيدي القوات الإسرائيلية في حرب الأيام الستة.. وكان ذلك بداية الادعاء اليهودي بأن القدس هي عاصمة إسرائيل الخالدة..
تلك هي قصة القدس في سيرتها عبر سبعة آلاف عام.. مدينة عربية حتى بأسمائها: أورسالم، ويبوس، وإيلياء في عهد الرومان وبيت المقدس في فترة الفتح الإسلامي، عبر ثلاثة عشر قرنا من الزمان.
فإذا كان الحق هو التاريخ والتاريخ وحده، فإن القدس هي بلدنا وليست لسوانا.. وإذا كان الحق هو القوة والسلاح والحرب، فما على المسلمين والعرب إلا أن يحاربوا ويقتحموا مدينتهم المقدسة وذلك هو فصل الخطاب .. اللهم إني بلغت فاشهد..
وهنا يقفز أمامنا السؤال الكبير وما هي حصيلة هذا السرد التاريخي لأحداث القدس عبر هذه العصور والأجيال..
كل ذلك يمكن تلخيصه في عبارة صادقة أمينة .. يمكن إيجازها في ما يلي :- أولا: إن أورشليم لم تكن عاصمة لليهود إلا في فترة زمنية قصيرة محدودة، وكان ملوك اليهود أثناءها تابعين إما لمصر أو سوريا أو العراق..
وقد سيق هؤلاء الملوك أسرىإلى العواصم العربية مكبلين بسلاسل من النحاس كما ذكرت التوراة نفسها!!
ثانيا: إن فلسطين ومنها أورشليم قد وقعت تحت سيادة الرومان والبيزنطيين والفرس والمصريين لعدة قرون أضعافا مضاعفة للحقبة اليهودية. وإذا كان الزمن هو أحد المقاييس السياسية فإن أورشليم أولى أن يطالب بها الفرس والرومان والمصريون لتكون إحدى حواضرهم فقد حكموها مدة أطول من الحكم اليهودي.
ثالثا: خلال حكم القياصرة والأكاسرة كان الوجود اليهودي معدوما بالكلية في فلسطين وفي أورشليم بالذات على حين أن الوجود العربي كان وما يزال قائما ومستمرا، وبقي أهل الأرض في أرضهم.
وفي نهاية هذا الفصل تبقى أمامنا مشكلة بسيطة يتعين جلاؤها حتى لا تظل ذريعة لليهود يتمسكون بها في دعواهم بأن بيت المقدس "أورشليم" هي عاصمة إسرائيل الخالدة.
هذه المشكلة تتصل بالاسم وهو "أورشليم" فإن شيوعها قد اصبح يوحى بأن اللفظة يهودية ولكن الحقيقة التاريخية الثابتة هي غير ذلك بالكلية.
إن المدينة المقدسة هي المدينة الوحيدة في العالم التي تحمل أسماء متعددة وقد اقتبستها من عهودها التاريخية المتعددة.
ولكن أقدم أسمائها هو يبوس نسبة إلى اليبوسيين العرب الذين كانوا أول من استوطنها وأول من بناها.. وفي التوراة كما أسلفنا في صدر هذا الفصل وردت (أورشليم التي هو يبوس) كمرادف لها بهذه العبارة.
ويأتي بعد ذلك من الأسماء القديمة يروسالَم أو أورشالَم وسالم بفتح اللام وفي رسائل تل العمارنة في مصر ورد أسمها يوروساليم وفي النقوش الأثرية وردت لفظة أوروساليمو..
وأصل لفظة أورشاليَم :" أور" معناها مدينة وهذا الاسم معروف لمدينة أور الكلدانية في العراق. أما شاليم فهو اسم إله السلام عند الكنعانيين، وهو كذلك اسم المدينة أيام الكاهن الأعلى ملكي صادق "ملك شاليم الكنعاني" الذي بارك إبراهيم بعد وصوله إلى فلسطين من العراق كما روت التوراة نفسها. (سفر التكوين-الإصحاح 14).
أما اسمها في العصور الوسيطة فهو (إيليا) كما شرحنا ذلك أعلاه وهو الاسم الذي وجده العرب أمامهم فجاء في كتبهم تحت فصل "فتح إيلياء".
وهناك ملاحظة هامة ينبغي أن لا تفوتنا وهي أن المدينة التي بناها داود وهي التي يعنيها بيجن في خطابه كعاصمة لإسرائيل قد زالت من الوجود، فقد هدمت أورشليم عدة مرات، وأصبح عاليها سافلها وانهدم معها الوجود اليهودي بأسره، ويقول الرحالة اليهودي بنيامين الطليطلي الإسباني في كتابه المعروف عن رحلتهإلى الشرق أنه لم يجد في القدس أثناء زيارته لها في القرن الثاني عشر الميلادي إلا يهوديا واحدا فقط، وأن فلسطين كلها لم يكن فيها غير 200 يهودي.
ومن الآثار التاريخية ذات القيمة العلمية الكبيرة في هذا الصدد كنيسة الروم الأرثوذكس في مأدبا فقد وجدت فيها خريطة مرسومة بالفسيفساء من القرن الرابع الميلادي في غاية الجمال والدقة، رسمت فيها خريطة القدس بوصف أنها مركز العالم.
وثمة ملاحظة تاريخية أخرى وهي أن الكشوف الأثرية في القدس حددت آثاراً يبوسية وعمورية وكنعانية (وكلها عربية) ولكنها لم تجد آثارا يهودية على الإطلاق، حتى أن البحث عن بقايا الهيكل قد كشف عن آثار أموية فقط. وتلك مفارقة عجيبة.
ولكن أطرف ما في الآثار الباقية في فلسطين أن كثيرا من المعابد الإسلامية قد أنشئت تبركا بالأحداث اليهودية التي لليهود أنفسهم مآثر لها.
من ذلك أن الحرم الإبراهيمي الشريف قد أقيم تبركا بأضرحة سيدنا إبراهيم الخليل وزوجته وأولاده وسائر أهله، وقد
أقيمت قبة راحيل في بيت لحم تذكاراً لزوجة يعقوب "إسرائيل".
كذلك مقام النبي موسى بين القدس وأريحا بناه المسلمون تبركا بموسى كبير أنبياء اليهود..
ومثل ذلك النبي صموئيل على بضعة كيلو مترات من القدس أقيم فيه مسجد إسلامي تذكارا لأحد الأنبياء اليهود
وقضاتهم.
كل ذلك وغيره كثير بناه ملوك المسلمين وأمراؤهم في فلسطين تبركا بأنبياء اليهود، لأن الإسلام لا يفرق بين أحد من
النبيين وهو يؤمن برسالاتهم.
وخير ما نختم به هذا الفصل شهادة تاريخية قيِّمة أصدرها أكبر قضاة فلسطين من الإنجليز عن حال بيت المقدس تحت
الحكم الإسلامي..
وقد وردت هذه الشهادة في كتاب رسمي صادر عن الحكومة البريطانية في فلسطين بعنوان "تقرير عن السير وليم
فيتزجيرالد عن الإدارة المحلية للقدس تاريخ 28 أغسطس 1945" وصاحب هذا التقرير هو قاضي القضاة في
فلسطين وكان قد عهد إليه أن يدرس موضوع بيت المقدس ويقدم المقترحات اللازمة بشأن إدارة المدينة المقدسة.
وقد ورد في الصفحة الرابعة من هذا التقرير ما ترجمته..
"العرب والقـدس:-
في عام 637م وبعد حصار استمر أربعة شهور سقطت المدينة بيد عمر الخليفة الثاني في الإسلام ولم يكن الإنجاز
الإسلامي في عهد الخلفاء المسلمين الأربعة محل إنصاف إلا في الأزمنة الأخيرة ولم يحدث أبدا في تاريخ الهزائم
الحربية إلى يوم الفتح الإسلامي للقدس أن تجلت أحاسيس وعواطف سمحاء من قبل أي فاتح كتلك التي تجسدت على
يد الخليفة عمر يوم فتح بيت المقدس. وكمبادرة على الاحترام العميق جاء عمر الخليفة بنفسه من مكة ليتسلم مفاتيح
بيت المقدس.. ودخلها ماشيا على قدميه من باب يافا وقد كان واحدا من الشروط التي جرى بموجبها تسليم المدينة
دوتم احترامها وتطبيقها، هو المحافظة على الكنائس والممتلكات المسيحية والطائفة المسيحية.. وقد تمت كفالة حرية
العبادة وعاش المسلمون والمسيحيون فيما بينهم بمودة وإخاء، كما فعل فاتح عظيم آخر بعده بنحو ستة قرون (يعني
صلاح الدين) وإذا لم يفعل العرب شيئا عبر العصور إلا تلك المعاملة الحسنة التي لقيها المسيحيون المقهورون فإن
ذلك وحده يكفي أن يجعل للعرب مقاما مرموقا جديرا بالفخر والاعتزاز في تاريخ القدس"..إلى آخره..