محرمون من أدنى حقوق العيش كباقي البشر
المتضررون يبحثون عن أثاث منزلي وسط حلقات الحصار المقفلة
المتضررون يبحثون عن أثاث منزلي وسط حلقات الحصار المقفلة
غزة- بقلم عدنان
يعجز المواطن ناصر العشي (39عاما)، من مخيم جباليا عن اقتناء دولاب خشبي يتسع ملابسه المعبئة في أكياس بلاستيكية، بعد تحطم أثاثه بالكامل تحت ركام الغرفة الوحيدة التي يقطنها، إبان الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
وينتابه العشي اليأس في رحلة بحثه عن دولاب بمعارض الأثاث والموبيليا الفاخرة، وفي كل مرة يغادر مهرولا من أسعارها الخيالية، مقررا البحث عن ضالته وسط المعارض التي تبيع الأثاث المستعمل، عله يفلح في العثور على أسعار تواكب قدرته المالية وأوضاعه التعيسة.
ويتحمل العشي أوزار جديدة على كاهله أفرزتها الحرب الإسرائيلية على غزة، فأمامه تسديد أجرة بيت شهرية، ونفقات يومية تقف عثرة في حصوله على دولاب جديد إن وجد بسعر لا يقل عن 3000 شيكل تقريبا، عدا عن فراق عائلته الذي يكتوي مرارته منذ ثلاثة أعوام .
وساهم الحصار المضن المفروض على قطاع غزة بشح الأخشاب من الأسواق، وارتفاع أسعارها بشكل جنوني، وتصاعد سعر كوب الخشب ثلاثة أضعاف سعره الحقيقي بسبب إغلاق المعابر، وتصنيفه ضمن المواد الممنوعة من الدخول للقطاع.
وبعد جولة عسيرة، ارتاد خلالها جميع المعارض المتواجدة على جانبي شارع الصحابة، التي تبيع الأثاث المستعمل، لم يفلح بشراء دولاب يناسب ذوقه، لعدم جودة الأشياء المعروضة ورداءتها، وأسعارها التي لا تطاق.
يقول العشي العاجز عن تدبير أمر يسير من متطلبات حياتيه اليومية "للرسالة" بلهجة بائسة: شراء أي قطعة أثاث أصبح ضربا من الخيال، فالأخشاب لا تدخل القطاع منذ فرض الحصار، مما جعل الأسعار تناطح السحاب،
وتعلو ملامحه الدهشة والتعجب متابعا: يصف لك البائع قطعة بالية من الأثاث بالمتينة، والجيدة، مثيرا السخرية بثمنها الذي يوازي قطعة جديدة، وفي النهاية لك خياران أحلامهما مر، إما الشراء، أو الانتظار لحين رخص أسعارها، فتبقى عاجزا عن لملمة جراح كتبته الحرب البربرية على كل بيت مدمر" حرمان لأدنى حقوق البشر".
وتمكن العشي من انتشال بعض الأغطية والمقتنيات المنزلية من تحت الركام، لكنها لا تفي بعشر مستلزماته الحياتية الحافلة بالهموم والآلام، ويضيف بضيق وحيرة: لم أحصل على مساعدة مالية من الجهات الداعمة، فالغرفة التي كنت أقطنها تابعة لوزارة الأوقاف، وسأضطر مرغما على شراء بعض العفش الجديد على نفقتي الخاصة.
ويعتصر العشي ألما على فراق أسرته في الأراضي المصرية منذ ثلاثة أعوام بعد انتهاء إقامته، وعدم تجديدها في ظل الإغلاق المتواصل لمعبر رفح.
ويبقى أمله الوحيد في أن تتكلل مساعي السياسيون في القاهرة بالنجاح، وأن يتم التوصل إلى تهدئة تفتح المعابر وتسمح بدخول الأخشاب، وإلا سينفق ما تبقى بحوزته لشراء دولاب يحفظ ملابسه من الأوساخ, والبعثرة في كل مكان.
حال المواطنة الأربعينية أم محمد الراعي لم يكن بأفضل من سابقها، فأثاث منزلها المكون من طبقتين يصلح لإشعال النار فقط، فمنزلها الكائن في حي الزيتون شرق جنوب قطاع غزة تعرض لقصف جزئي من قبل طائرات الاحتلال التي استهدفت منزل عائلة الداية المجاور لها.
وحتى اللحظة تعجز الراعي عن لملمة جراحها، فلم يبق لها سوى غرفة واحدة تصلح للمعيشة بوجود 14 فردا من عائلتها، فباقي الغرف أصبحت هباء منثورا .
وتضيف الراعي بضيق وحيرة: أنتظر بفارغ الصبر الحصول على مساعدة مالية، لشراء ما ينقصني من عفش البيت الذي تحطم بفعل العدوان.
ورسمت قذائف الاحتلال الإسرائيلي على بيوت المتضررين حياة قاتمة رسمها الاحتلال برتوش حمراء داكنة، توحي بحجم الدماء التي تخضبت به شوارع غزة جراء إجرامه الذي صمت عنه القريب والبعيد.
ويساور المواطن نافذ خضر (45 عاما) الحصول على بعض قطع الأثاث بثمن معقول، وبمجرد زيارته لمنجرة خشبية أمضت تساوراته طريقا مضادا، كما يقول "للرسالة": يعزو النجار ارتفاع الأسعار، بغلاء سعر الألواح الخشبية، وغياب المواد الخام التي تدخل في صناعة الأثاث من الأسواق الغزية، وفي النهاية يقربك النجار إلى أرقام جنونية لا يتحملها المواطن العادي.
ويشير خليل أبو عفش صاحب معرض للأثاث المنزلي المستعمل أن الطلب على الأثاث تزايد بعد الحرب الإسرائيلية نتيجة الدمار الذي لحق ببيوت المواطنين، ورغم أن محله شبه خاوي إلا أن الزبائن تتوافد عليه بشكل مستمر والأمل يحدوهم بإمكانية الحصول على دولاب أو بعض الأسرة.
وقدر أبو عفش ثمن دولاب مستعمل بحالة جيدة بقيمة 2000 شيكل، ويتابع: يصعق الزبائن بمجرد سماع الأرقام الخيالية، فأوضاعهم الاقتصادية السيئة تقف حائلا أمام الشراء، لافتا إلى أن الأثاث المستعمل لم يكن مرغوبا قبل الحصار، فثمن الدولاب كان لا يتجاوز 300 شيكلا.
صاحب المنجرة الحديثة في حي الصحابة أبو السعيد المصري (50 عاما)، تذوق آلام الإغلاق الذي منع الألواح الخشبية من ورشته، وعاد ليعمل بطريقة بدائية من أجل الحصول على لوح كامل من الخشب، يكون جاهزا للتصنيع بعد ساعات طويلة من عمل مستمر على لصقه ونعومته حسب قوله.
ويبتسم ابتسامة خفيفة مردفا: رواد المنجرة يصعقون للولهة الأولى من الأسعار، لكن سرعان ما يعودن للشراء، بعد أن يطلعوا على تقارب الأسعار في كل المناجر، وحجم المعاناة لغياب الأخشاب وغلاء المواد الخام الشحيحة المتوافرة في الأسواق بعد تضييق الخناق على الأنفاق الجنوبية.
الحرب البرية على غزة لم تحصد الأرواح وتدمر المنازل، لكنها عرجت على وأد البسمة في عيون المنكوبين، ووقفت حجر عثرة أمام نيل أدنى حقوقهم في ظل حصار جائر جثم على أنفاسهم منعهم من أدنى حقوق العيش كباقي البشر .. فأين الضمير العدالة يا عالم الديمقراطية.