البعد الاقتصادي في الإستراتيجية
الأمريكية للشرق الأوسط ـــ
د.محمد سميح حميّد(*)
إن تطور النظام الرأسمالي في القرن المنصرم دخل مرحلته
الإمبريالية، والتي رافقها أزمات اقتصادية شديدة وعميقة (أزمة الكساد
العظيم 1929 ـ 1933) وبرزت فيه التناقضات واشتداد حدة الصراعات ما بين
القوى الاقتصادية، الأمر الذي نجم عنه حروب مدمرة. والآن ومع دخولنا القرن
الواحد والعشرين، يشهد النظام الرأسمالي العالمي تطوراً جديداً وهاماً،
بدخول الإمبريالية مرحلة متطورة تتمثل في العولمة، تتسم بانكماش الزمان
وانكماش المكان واختفاء الحدود، وهي تعيد للرأسمالية نزعتها الأصلية
العابرة للقوميات أكثر من كونها دولية، نزعة الاستخفاف بالحدود بين الدول
كما بالتقاليد وبالأمم ذاتها، من أجل إخضاع كل شيء إلى قانون وحيد هو قانون
القيمة. والعولمة ليست ظاهرة مستقلة، وإنما تأتي قي سياق التطور التاريخي
للرأسمالية، في أعلى مراحلها، عندما اكتسب التقدم العلمي ـ التقني دوراً
قيادياً حاسماً في نشاط رأسمالية الدولة الاحتكارية. وتحت ضغط وتأثير
القوانين الاقتصادية الموضوعية للرأسمالية، تشتد وتتعمق التناقضات بين
المراكز الاقتصادية، ويأخذ الصراع أشكالاً أكثر حدة وقسوة، ينتج عنها
تغيرات كمية تقود إلى تغيرات نوعية على مستوى الاقتصاد العالمي ومراكزه
الدولية.
لقد استطاعت الولايات المتحدة، كمركز اقتصادي فاعل، أن تخفف من حدة
التناقضات بينها وبين المراكز الاقتصادية الأخرى في النظام الرأسمالي
العالمي، من خلال تركيزها على الخطر الخارجي، (والذي تجسد بالشيوعية
سابقا)، الأمر الذي مكنها من استمرار القيام بدورها القيادي وبالتالي إحكام
سيطرتها على هذا النظام، وانتهجت في سبيل ذلك سياسة «الترهيب والترغيب»،
وتكمن سياسة الترغيب في المحافظة على مصالح الدول الحليفة وتسهيل نشاط
شركاتها، والالتزام النسبي بقواعد منظمة التجارة العالمية، القائمة على
الليبرالية الجديدة. وفيما يتعلق بنهج الترهيب، فله أشكال متعددة، نتوقف
عند ما يسمى (الخطر الخارجي). ففي مرحلة الحرب الباردة جعلت من الشيوعية
خطراً خارجياً رئيسياً، يستهدف النظام الرأسمالي العالمي ومفاهيمه وقيمه،
غير أن هذا الخطر لم يدم، فقد انهار الخطر الأحمر مع انهيار جدار برلين،
فهل زال الخطر الخارجي؟ في الواقع نعم، وهذا ما عبر عنه الاتحاد الأوربي
واليابان (من أقطاب النظام الرأسمالي العالمي) ورأوا بزواله ظرفاً تاريخياً
جديداً ومهما للخروج بالاقتصاد من حالة الكساد التضخمي، وتباطؤ النمو،
إضافة إلى انفتاح أسواق جديدة أمام استثماراتهم ومنتجاتهم، مما يدفع بعجلة
الاقتصاد للتقدم، وهذا يعني إعادة النظر في التقسيم الدولي للعمل وبالتالي
إعادة صياغة العلاقات الدولية. وفي هذا السياق نشير إلى أن الاقتصاد
العالمي يعتمد أساساً على الطاقة، ولاسيما النفط والغاز منها، حيث يشكل
النفط 40% من الطاقة المستخدمة عالمياً، أما الغاز فيشكل نسبة 21%، والطلب
العالمي على هذين المصدرين للطاقة في تزايد مستمر، فزيادة الطلب السنوي على
النفط تصل إلى حوالي 2% وعلى الغاز الطبيعي 3,4%، وقد ارتفع مستوى إنتاج
النفط الخام من 65,410 مليون برميل/ يوميا عام 1991 ليصل في عام 2000 إلى
74,510 مليون برميل/ يوميا وفي عام 2006 وصل إلى 84,8 مليون برميل /يوميا،
وكذلك إنتاج الغاز الطبيعي، فقد ارتفع من 1993,8 مليون متر مكعب ليصل إلى
2422,3 مليون متر مكعب، ورافق زيادة إنتاج النفط الخام، ارتفاع في الأسعار،
متجاوزاً 78 دولار للبرميل في نيسان 2006، وتخطى 145 دولار في البورصات
العالمية منذ آذار 2008. وتشير الوكالة الدولية للطاقة إلى تأثر نمو
الاقتصاد العالمي بمتغيرات أسواق النفط، حيث تراجع الناتج المحلي الإجمالي
في دول العالم بمقدار 0,8% أو ما يعادل 380 مليار دولار عندما بلغ متوسط
سعر البرميل 45 دولار خلال عام 2003/2004، كما وأنه دفع بتقليص الناتج
المحلي الإجمالي للدول الأعضاء في اتفاقية العملة الموحدة (اليورو) بمقدار
0,7% خلال عامي 2004 ـ 2005 ولليابان بنسبة 0,6% وللولايات المتحدة
0,4%(1).
إن تزايد أهمية الطاقة في تطور الاقتصاد العالمي (لاسيما بعد الحرب
العالمية الثانية)، أدى إلى تركيز اهتمام المراكز الاقتصادية، برسم سياسات
للوصول والسيطرة على منابع ومصادر هذه الطاقة، ولما كانت الولايات المتحدة
كمركز اقتصادي رأسمالي عالمي، يمتلك أكبر قاعدة اقتصادية مؤثرة وفاعلة، إلى
جانب استحواذه المطلق لنتائج استحقاقات الثورة العلمية ـ التقنية وامتلاكه
القوة العسكرية الهائلة، كان لزاما عليها أن تضع إستراتيجية للوصول إلى
مصادر الطاقة، وتحول دون الآخرين، وبأقل التكاليف، ودون أن تدفع (إن أمكن)
بالتناقضات مع حلفائها إلى التأزم وبالتالي المواجهة العسكرية. وانطلقت
السياسة الأمريكية في البحث عن عدو خارجي ما، أو خطر خارجي ما، لملء الفراغ
الذي أحدثه انهيار المعسكر الاشتراكي، وتوظيفه لترهيب حلفائها المنافسين،
وبالتالي الإبقاء على سيطرتها وتفوقها أمام المراكز الاقتصادية الأخرى ومن
ثم سيطرتها على النظام العالمي وليكون القرن الواحد والعشرون هو قرن
الإمبراطورية الأمريكية، ورأت في (الإرهاب الدولي) عنوانا للعدو الخارجي
المنشود، وترسخ هذا العنوان أكثر بعد أحداث أيلول 2001، وبدأت باستكمال
إستراتيجيتها العالمية الجديدة للسيطرة على مصادر الطاقة وطرق إمداداتها،
تحت ذريعة مواجهة الإرهاب بالضربات الاستباقية، ووجدت القوى الاقتصادية
الأخرى نفسها تدور في حلقة أشبه ما تكون بحلقة الحرب الباردة ولكن في ظل
تهديد عدو وهمي أسمته أمريكا، «الإرهاب».
ومع تفكك المنظومة
الاشتراكية، أصبحت أمريكا تلك «الجمهورية الإمبراطورية» ذات نزعة شمولية،
فقد اكتسبت على الخصوص القناعة المطلقة بذاتها، جاعلة من هذه القناعة
القاعدة المتينة لكل سياستها الخارجية والدبلوماسية والتجارية والعسكرية،
ومنذ العقد الأخير من القرن العشرين، قامت أمريكا بدافع إرادتها في الهيمنة
الرامية إلى إذلال حلفائها وخصومها على السواء بتنظير هذه الإرادة على
أعلى مستويات البلاد، وزارة الخارجية، البنتاغون، ومجلس الأمن القومي في
البيت الأبيض. ومن الوثائق الرسمية حول هذا الموضوع، نشير إلى تقرير
للبنتاغون أعدته في العام 1991 لجنة رأسها نائب وزير الدفاع المكلف بالشؤون
الخارجية بول وولفووتز(2)، وهو التقرير الذي لا يدع أي مجال للشك حول
الهدف الأمريكي المنشود في تأمين الحفاظ على وضع الولايات المتحدة كقوة
عظمى وحيدة في العالم والذي اكتسبته بعد انهيار المعسكر السوفييتي السابق،
وهو الوضع الذي تعمل على صيانته ضد كل محاولات تقويضه أو الإخلال به أو
التفوق عليه من قبل مراكز قوى مهمة في أي نقطة من العالم. فالسياسة
الخارجية الأمريكية إذن تحدد لنفسها هدفا يسعى إلى إقناع خصومها ومنافسيها
المحتملين بأن لا طائل من وراء طموحهم إلى القيام بدور هام، ولا حتى رغبتهم
في القيام بمجرد دور إقليمي، مما يعني بالتالي «تثبيط همتهم في المساس في
النظام الاقتصادي والاجتماعي القائم أو تحدي الهيمنة الأمريكية» ومن ثم كما
يستنتج معدو التقرير المذكور، تأتي الأهمية الأساسية لوجود عسكري ملحوظ في
أي مكان من العالم تتعرض فيه هيمنة الولايات المتحدة للخطر أو المنافسة.
ومن الطبيعي إذن أن يدفعهم هذا، انطلاقاً من وضعهم الجغرافي المتميز كجزيرة
قارية، إلى أن يؤدوا في العالم دوراً مشابهاً لدور بريطانيا العظمى في
أوربا القارية على مدى القرن التاسع عشر. فلا همّ لأمريكا سوى تفادي هيمنة
أيّ كان، في أوربا وأسيا أو أمريكا اللاتينية وإفريقيا أو في الشرق الأوسط
والعمل بالتالي في ذلك الاتجاه باستعمال كل الوسائل المتاحة إن دعت الضرورة
لذلك.