في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي القديم؛ كان هناك تصور سائد، لدى أكثرية البشر؛ يرى هذا التصور أن رفاه الإنسان والمجتمع إنما يتحقق بمقدار ما يحصل عليه الإنسان من الثروة؛ باعتبارها محور السعادة والتقدم.. إلا أن هذا التصور بدأ - في نهايات القرن الماضي- يتلاشى شيئا فشيئا؛ وذلك بعد أن تأكد أن الثراء وحده ليس الشرط الوحيد لتحقيق الكثير من الأهداف الاجتماعية والسياسية المهمة للأفراد والمجتمعات..هذا فضلا على أن حاجات الإنسان ليست كلها حاجات مادية، فالأمن، والعلم والثقافة، والمشاركة في تقرير الشؤون العامة، والحفاظ على البيئة ومكافحة التلوث البيئي، وطرد ارتفاع معدلات الجريمة والعنف، وغيرها من الأمراض، كلها ليست حاجات مادية بحتة.
لذلك، وفي منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، ساد الاعتقاد بان اهتمام علم اقتصاد التنمية، ينبغي أن لا ينصب على الرفاه المادي حسب، بل ينبغي أن يمتد إلى تحقيق مستويات ثقافية أعلى تتيح للإنسان أن يحيى حياة هانئة، ويمارس مواهبه، ويطور قدراته.
ومنذ ذلك الحين؛ بدا للجميع أن الرأسمال المادي، ليس هو وحده الضامن الحقيقي لرفاه وسعادة الإنسان، بل، لابد أن يكون هناك استثمار في الرأسمال البشري ذاته، وهو ما يُعرف اليوم باسم"التنمية البشرية". والتنمية البشرية؛ تعني من بين ما تعني أنها منهج للتنمية الإنسانية الشاملة، والتي تسعى إلى توسيع خيارات البشر، بهدف تحقيق الغايات الإنسانية الأسمى؛ بتجاوز المفهوم المادي للرفاه الإنساني، إلى الجوانب المعنوية والحياة الإنسانية الكريمة التي تشمل التمتع بالحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتوافر الفرص لاكتساب المعرفة والإنتاج والإبداع، والكرامة الإنسانية
لقد حظي مفهوم "التنمية البشرية" بمكانة مميزة في الفكر التنموي، عبر أدبيات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي؛ وذلك منذ عمله الرائد بإصدار تقرير التنمية البشرية الأول، عام 1990، ودأبه على تطوير المفهوم، واغنائه عبر التقارير الدورية التي واظب على صدورها.
وحسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يتسع مفهوم التنمية لأبعاد ثلاثة هي:1. تكوين القدرات البشرية، مثل تحسين الصحة وتطوير المعرفة والمهارات؛2. استخدام البشر لهذه القدرات في الاستمتاع، أو الإنتاج – سلعاً وخدمات- أو المساهمة الفاعلة في النشاطات الثقافية والاجتماعية والسياسية؛3. مستوى الرفاه البشري المحقق، في إطار ثراء المفهوم المبين.
وبهذا صار الفكر التنموي أكثر اهتماما بمسائل العدالة في توزيع الدخل وتحليل الفقر وأهمية الحاجات الأساسية لأفراد المجتمع. كما أنه نبه إلى أهمية التركيز على تراكم رأس المال البشري،. ودللت العديد من الدراسات على أن الإنفاق على التعليم- مثلا- يخلق عوائد اقتصادية تعادل أو تزيد على العوائد التي يمكن أن يحققها الاستثمار في الرأسمال المادي.
وفي ثمانينيات القرن الماضي؛ باتت المقولة المحورية في منهج التنمية البشرية، هي أن التنمية تعد عملية توسيع قدرات الناس لأكثر من كونها زيادة منفعة، أو رفاهاً اقتصادياً، أو إشباع حاجات.
وبهذا المعنى؛ تشكلت للتنمية البشرية أبعاد عدة:
[b]1- التمكين: المقصود بالتمكين هو تطوير قابليات الناس بوصفهم أفرادا واعضاءا في مجتمعاتهم. أي لا ينبغي للتنمية أن تتحقق من أجل الناس حسب؛ بل ينبغي لهم أنفسهم أن يحققوها؛ فالناس الممكنون أقدر على المشاركة في القرارات والعمليات التي تصوغ حياتهم.
2-الإنصاف: يؤكد مفهوم التنمية البشري على الإنصاف في بناء القدرات وإتاحة الفرص المتكافئة للجميع؛ ولا يقتصر الأمر على الدخل المادي حسب، بل يتسع ليشمل إلغاء العوائق القائمة على أساس النوع الاجتماعي، أو العنصر أو القومية أو التحدر الطبقي، أو أية عوامل أخرى، تحول دون الحصول على الفرص الاقتصادية والسياسية والثقافية
3-الاستدامة : وهو ما يعرف بالتنمية البشرية المستدامة؛ والتي تعني توفير احتياجات الجيل الحاضر من دون المساومة على مقدرة الأجيال القادمة على التحرر من الفقر والحرمان. وعليه يجب توفير فرص التنمية البشرية للأجيال الحالية والمستقبلية ومنع تراكم أعباء تتحمل تبعاتها الأجيال المقبلة: مثل الديون المالية الناشئة عن قروض خارجية أو محلية طويلة الأجل، والديون الاجتماعية الناشئة عن إهمال الاستثمار في تنمية القدرات البشرية، والبيئة، وغيرها.
4-المشاركة : تعني أن يتمكن الناس باعتبارهم مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات من المشاركة في صنع القرارات؛ حتى يسهموا بفعالية في العمليات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي تؤثر في حياتهم.
5-الحرية- تقول التنمية البشرية إن الناس ماداموا فقراء، وماداموا مرضى، وماداموا أميين، وضحايا أو مهددين بنزاعات عنفية، أو محرومين من الصوت السياسي، فهم لا يمتلكون حريتهم؛ وحيث إنهم لا يمتلكون حرياتهم فان التنمية البشرية تظل معطلة حين ذاك.
وعليه؛ يمكن النظر إلى التنمية بوصفها عملية توسيع الحريات الحقيقية التي يتمتع بها الناس. وتتضمن الحريات؛ الحرية ضد التمييز، والتحرر من العوز، والتحرر لتحقيق الذات الإنسانية، والتحرر من الخوف، والتحرر من الظلم، وحرية المشاركة والتعبير، والانتماء السياسي وحرية الحصول على عمل.
وبالتالي، ومن خلال جوهر أبعاد التنمية البشرية؛ نجد أن الإنسان لابد أن يكون الوسيلة والهدف النهائي للتنمية البشرية، ولابد أن تصب كل حصيلة انجازاتها لصالحه، فهو خليفة الله في الأرض وهو الذي كرمه وفضله؛ بقوله تعالى:" ولقد كرمنا بني آدم..."
المصادر:
– برنامج الأمم المتحدة الإنمائي- تقرير التنمية البشرية لعام 2005
– التقرير الوطني لحال التنمية البشرية "2008 /عراق" بتصرف