"الحرب الشاملة" في العقيدة الصهيونية
وصف الجنرال البروسي ذائع الصيت "كارل فون كلاوزفيتز"، الذي عاش في القرن التاسع عشر، الحرب على
أراضي العدو وممتلكاته ومواطنيه بـ"الحرب الشاملة". وبالنظر إلى ما ترتب عن الحرب العالمية الثانية من
مآسٍ وفظاعات، أصبحت عبارة "الحرب الشاملة" مرتبطة بجرائم الحرب.
والحقيقة أن الهجمات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني ولبنان تحتوي على كل عناصر "الحرب الشاملة".
وهذا يتماشى في الواقع مع الاستراتيجية الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني، والتي ترى أن القضاء عليه،
باعتباره منافساً على أرض فلسطين، مهم وضروري لنجاح الصهيونية.
فبعد تأسيس "إسرائيل" عام 1948، كانت الاستراتيجية الإسرائيلية ضد الدول العربية تقوم على شن هجمات
استباقية بهدف تحقيق التوسع الترابي. وهكذا، تواطأت "إسرائيل" مع إنجلترا وفرنسا وهاجمت مصر عام
1956؛ وكان من أهداف ذلك النيل من الرئيس المصري جمال عبدالناصر، الذي كان يمثل حينها صوت القومية
العربية. وفي 1967، وبتأييد من إدارة الرئيس جونسون، هاجمت "إسرائيل" مصر وسوريا والأردن، فاحتلت
سيناء المصرية ومرتفعات الجولان السورية والضفة الغربية وقطاع غزة الفلسطينيين. وفي أكتوبر 1973،
هاجمت القوات المصرية والسورية قوات الاحتلال الإسرائيلي، فتمكنت من نزع الهالة عن رأس الجيش
الإسرائيلي باعتباره جيشاً لا يُقهر.
ورغم حجم التقتيل ومجزرة كفر قاسم التي ارتكبت عام 1956 في حق فلسطينيين أبرياء قبل شن الهجوم
الإسرائيلي على مصر، كانت هذه الحروب عموماً حروباً تقليدية، ولم تكن "حروباً شاملة". غير أن الاستراتيجية
الإسرائيلية المتبعة ضد الشعب الفلسطيني كانت تتمثل دائماً في "الحرب الشاملة"؛ حيث كان هدف بن غوريون
في يناير 1948، أي قبل أشهر من تدخل الجيوش العربية لإنقاذ ما تبقى من فلسطين، والمتمثل في التدمير
والطرد يندرج في إطار استراتيجية حرب شاملة واضحة المعالم.
وفي 1982، أرسل رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغين جيشه إلى لبنان في إطار حربه الشاملة على
الفلسطينيين. فكانت نتيجة ذلك أن قتل الآلاف من المدنيين الأبرياء. وتمكن الغزاة الإسرائيليون من طرد منظمة
التحرير الفلسطينية من لبنان، غير أنهم فشلوا في هزيمة الوطنية الفلسطينية. ثم جاءت "اتفاقية أوسلو" عام
1993 لتضع الزعماء الصهاينة أمام وضع محيِّر، حيث كان عليهم الاختيار بين التوصل إلى سلام مع
الفلسطينيين اليوم وبالتالي إنهاء المشروع الصهيوني القائم على الطرد والتوسع الترابي، أو مواصلة المشروع
الصهيوني وفرض السلام الإسرائيلي بالقوة.
وبغض النظر عن بعض الاستثناءات، اختار الزعماء الإسرائيليون الخيار الأخير كما اتضح لاحقاً من خلال
سياسات "الحرب الشاملة" التي انتهجها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو. وعندما شارك رئيس
الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك دون حماس كبير في المفاوضات مع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر
عرفات عام 2000، كانت آفاق التوصل إلى تسوية متفاوض عليها تهدد العقيدة التوسعية الإسرائيلية. فجاءت
زيارة شارون الاستفزازية إلى المسجد الأقصى في سبتمبر من ذاك العام لتطلق شرارة الانتفاضة الفلسطينية
الثانية، وتمنح الزعماء الإسرائيليين بالتالي الذريعة التي كانوا يحتاجونها لاستئناف استراتيجية حربهم الشاملة
على الفلسطينيين.
في الحرب على لبنان، شنت "إسرائيل" حرباً شاملة كذلك، بما يعنيه هذا من تجليات لجرائم الحرب. ففي
تقريرها المؤلف من 50 صفحة، والذي نشر في الثالث من الشهر الجاري تحت عنوان: "ضربات قاتلة: هجمات
"إسرائيل" على المدنيين في لبنان"، أحصت منظمة "هيومان رايتس ووتش" المدافعة عن حقوق الإنسان نحو
أربعة وعشرين هجوماً إسرائيلياً، جواً أو بالمدفعية، على المنازل والمركبات اللبنانية.
كما وجد الباحثون التابعون للمنظمة أن "القوات الإسرائيلية كانت في حالات كثيرة تقصف إحدى المناطق بدون
هدف عسكري واضح. وفي بعض الحالات، بدا أن القوات الإسرائيلية استهدفت المدنيين عن قصد". غير أنه
مثلما فشلت "الحرب الشاملة" في القضاء على المقاومة الفلسطينية، فإن "الحرب الشاملة" على لبنان فشلت
فشلاً ذريعاً في القضاء على مقاومة "حزب الله
.زهرة المدائن