الذي لا يفهم بالكلام يفهم بالحجر:
الانتفاضة... كثورة إنسانية...
قراءة في قصة "الزمن الجديد" لنبيل عودة من كتاب:
"الانتفاضة في ادب الوطن المحتل
من أي نواحيها نظرنا إليها وتمعناها، باحثين ومحللين، نخرج
بقناعة ثابتة تؤكد أن الانتفاضة ثورة إنسانية، بكل ما تحمله كلمة (إنسانية)
من معنى... فهي إنسانية في منطلقها وبواعثها؛ إنسانية في أهدافها
وغاياتها... وإنسانية حتى في أساليب ممارسة أبطالها لفعلهم النضالي
اليومي..
وبالطبع، لا يمكن اتهام هذا التوصيف بأنه من قبيل المبالغة
التي قد يوحيها إنسياق الباحث العربي وراء مشاعره القومية، ذلك أنه -أي
التوصيف- يستمد مصداقيته وموضوعيته وقوة اشعاعه، كحقيقة وواقع من استقراء
سيرورة وقائع الانتفاضة وأحداثها، منذ انطلاقتها وإلى اليوم..
فمن ناحية البواعث، نلاحظ أن انطلاقة الانتفاضة جاءت، بالدرجة
الأولى، تعبيراً عن رفض الإنسان الفلسطيني لاستمرارية وجود المحتل
الإسرائيلي فوق الأرض العربية، بأي شكل، وتحت أي ذريعة... أي كانت
الانتفاضة تعبيراً عملياً عن الرغبة الفلسطينية الكامنة والمصممة على تحقيق
الحرية للأرض الفلسطينية، وللإنسان الفلسطيني، في آن واحد معاً... هذه
الرغبة التي ولدت لحظة وضع المحتل قدمه فوق الأرض العربية، معلناً اغتصابه
القسري لها...
وبالتأكيد، ليس ثمة من يستطيع الزعم بأن سعي الإنسان، أي
إنسان، لتحرير أرضه من غاصبها، وتحرير نفسه من نير هذا الغاصب وسيطرته
وممارساته، يعدّ سعياً لا إنسانياً.. ذلك أن الحرية، وبأي المعايير
قيمناها، هي مطلب إنساني مشروع ومسوغ... وكيف لا، والحرية تعني قضاء على
الظلم والاضطهاد، وخلاصاً من كابوس القهر الذي يجثم على صدر من يتعرض لهما
ولما يدفعان إليه من ممارسات، يتناقض، حتى أهونها، مع أبسط حقوق الإنسان
والمبادئ الإنسانية؟ كيف، وعلى الصعيد الفلسطيني تحديداً، تعد الحرية الشرط
الأول والأخير والوحيد، لاعادة اللحمة إلى الكيانية الفلسطينية المتشظية،
والمبعثرة هنا وهناك، في شتى بقاع الأرض...؟ وهل يمكن للشعب العربي
الفلسطيني أن يمتلك القدرة على تقرير مصيره بنفسه، أو أن يحقق حلمه بإقامة
دولته المستقلة على كامل تراب وطنه، إلا إذا نجح أولاً، في تحرير هذا
التراب تحريراً كاملاً، يتيح له لملمة شظاياه المبعثرة، وإعادة تركيب
كيانيته من مجموعها...؟
من هذا المنظور المحدد، وحسب معاييره، تبدو بواعث انطلاقة
الانتفاضة ودوافعها، ذات اتجاهات وأهداف إنسانية واضحة، لا لبس فيها... ومن
هذا المنظور المحدد أيضاً، طرحها نبيل عودة في قصته الرائعة (الزمن
الجديد) *، مؤكداً هويتها كثورة
إنسانية مشروعة، تستمد مسوغات انطلاقها واستمرارها، من كونها محاولة لتجسيد
تطلع الإنسان الفلسطيني إلى تغيير واقعه المأساوي القاسي الذي عانى فيه،
ما عانى، من عيش باهظ مرهق، خلال عشرين سنة، في ظل الاحتلال الإسرائيلي
العنصري، بواقع آخر جديد، أهم ما يميزه هو كونه نقيض واقع الاحتلال الذي
انطلق منه، في المعطيات والسمات والآفاق، على حد سواء...
ويقدم نبيل رؤية الفلسطيني الخاصة لواقعه الجديد المأمول، عبر
شريط الحلم الذي يكبر في نفس أحد أبطال القصة أمنيات، ولهذا نراه يسلط
الضوء على مخيلة هذا البطل، ليمكننا من قراءة ما يتشكل على صفحتها : " كان يحلم بزمن مختلف
يخلص الإنسان من غربته، ينقذه من وحشته... زمن يعطي للثمر طعمه الحقيقي،
وللكلمة وقعها الصحيح، وللحب معناه الإنساني الأصيل. فيه تنتهي المعاناة
وتمتد السعادة. يتضاءل القهر وتفيض النشوة." *
بشيء من الجرأة، يمكن الزعم أن هذا الحلم الطيب البسيط
والعادل هو وإلى حد ما، الجانب الأكبر من الوجه الإنساني للانتفاضة، وهو
أساس رسالتها... وانطلاقاً من مفردات هواجسه، يبدو واضحاً أن الإنسان
الفلسطيني لم ينطلق في ثورته، يطلب مستحيلاً، أو يسعى إلى هدف غير مشروع...
بل انطلق طالباً أبسط حقوقه كإنسان... انطلق حالماً بالخلاص من كابوس
غربته ووحشته، وراجياً عودة المياه إلى مجاريها الطبيعية في حياته... كيما
يتمكن من تذوق الطعم الحقيقي للثمر في فمه، وكيما تلتقط أذناه الوقع الصحيح
للكلمات... انطلق ليشعر بالمعنى الإنساني للحب في قلبه المتعب... انطلق
جائعاً للسعادة والفرح اللذين حرمته منهما قسرية معاناته للقهر في ظل
الاحتلال...