كان الوقت قرب الفجر عندما أفاقت الفتاة، وأخذت تهذي باللغة الفرنسية التي
كانت أمينة تجيدها فانتبهت الأسيرة اليها وقد خرجت عن محيط الهلع الذي
غلفها، لقد حاولت أمينة طوال ساعتين أن تتحدث مع الفتاة دون جدوى. وما إن
نطقت الأخيرة ببضع كلمات حتى صاحت أمينة بالفرنسية.
أو . . يا عزيزتي . . حسبتك عربية مثلي.
كان الظلام شديداً جداً بداخل الكهف. وبرغم ذلك كانت أمينة تتجه بوجهها
ناحية الفتاة وتبحلق في انتباه، وجاءها صوت ضعيف واهن تمتزج به حشرجة
تتأرجح على اللسان في صعوبة:
أأنت عربية. . ؟
نعم . . من الأردن . . لماذا يفعلون بك ذلك . . ؟
حظي المشؤوم يا عزيزتي . . حظي هو الذي جاء بي الى هنا.
فرنسية أنت؟
من شيربورج على بحر المانش.
لماذا أنت هنا. . ؟
قصة طويلة لن أستطيع سردها. كل ما أطلبه منك أن تحفظي هذا الرقم جيداً،
ولا تنسيه أبداً إن أطلقوا سراحك. إنه تليفون أمي في فرنسا.
أولن يطلقوا سراحك؟
لا أظن . . فهم أناس متوحشون لا يعرفون الرحمة.
أرجوك . . ساعديني وقصي علي حكايتك قبلما يجيئون . . ما اسمك أولاً يا
أختاه . . ؟
سيمون . . سيمون دوابرفيه . . وأنت . .؟
أنا أمينة . . أمينة المفتي. طبيبة متطوعة في لبنان. اعتقلوني بتهمة
التجسس لحساب الموساد.
أوه . . يالحظك السيىء . .هل فعلوا معك مثلي؟
من . . ؟
رجال الموساد هؤلاء الأوغاد الأغبياء. طلبوا مني أثناء سياحتي في إسرائيل
أن أصور لهم ميناء صيدا ومخيمات اللاجئين، ومنحوني خمسمائة دولار مقدماً
وكاميرا تلسكوبية. وبينما أقوم بمهمتي اعتقلني الفلسطينيون وعذبوني لأرشدهم
عن بقية أعواني في لبنان مقابل إطلاق سراحي.
أوأرشدتهم. . ؟
أقسمت لهم ألف مرة بأنني لا أعرف أحداً بلبنان لكنهم لا يصدقون. عشرة
أيام هنا في الكهف اغتصبني أثناءها ثلاثون كلباً منهم، وماذقت سوى الخبز
الجاف والماء العطن. لقد ضيعت نفسي بغبائي وحماقتي وحتماً سيقتلونني هنا.
"انفجرت في بكاء هستيري" – أرجوك . . أمي ستموت حزناً لأنني وحيدتها . .
اتصلي بها واخبريها بما حدث لي "وذكرت رقم الهاتف".
أنا لا أضمن لك ذلك "بيأس" فمصيري أنا الأخرى مجهول. . ومظلم كهذا الكهف
الكريه.
هل يشكون بك أيضاً. . ؟ إنهم أناس مرضى بالشك.
نعم. . يشكون بي ولا دليل واحد لديهم.
بهمس . . أخدعك رجال الموساد مثلي. . ؟ لقد أقنعوني بأن الفلسطينيين
أغبياء . . وفي حالة انكشافي فلن يتركوني بين أيديهم أبداً، وسيخطفونني كما
خطفوا إيخمان النازي من الأرجنتين.
هم قالوا لي أكثر من ذلك "هكذا سقطت أمينة في الفخ" ووعدوني بألا يمسني
أحد مهما كانت ظروف اعتقالي .
بهمس: لا تعترفي بأي شيء لهم فكلما اعترفت طلبوا المزيد ...والمزيد
واطلقوا كلابهم تفتك بك في ضراوة .
أخشى ألا يرحموني.
سيعدونك بإطلاق سراحك: لأنك أجنبية، إذ أرشدتهم عن شركائك. لكنهم لن يفوا
بوعدهم . . لن يفوا أبداً.
أوه . . يا الهي . . لقد جاءوا ليقتلوني.
فجر الحياة
قطع الحوار بينهما وقع أقدام ثقيلة تقترب، وسرعان ما ظهر ثلاثة ضباط يتبعهم
عدد من الجنود يحملون الكشافات المبهرة، تجاهلوا أمينة واتجهوا الى الفتاة
الفرنسية على بعد أربعة خطوات منها، وكانت المسكينة ترتجف في رعب، تلهث
عيناها الزائغتين بحثاً عن شعاع أمل لإنقاذها، لكن الضابط الكبير الذي كان
يبدو متبرماً عجولاً، أمر أحد مرافقيه أن يسألها لآخر مرة عن أعوانها في
لبنان، ولما أجابت بالنفي أشار بيده في حركة ذات مغزى، فاصطف أربعة جنود
يحملون بنادقهم الآلية، واتخذوا وضع الاستعداد وقد جذبوا أجزاء الرشاشات.
وانطلقت الرصاصات الى صدر الفتاة فافترشت الأرض كومة من حطام. وامتد صراخ
أمينة يشرخ جدران الكهف الصخرية، ويتموج ملتاعاً في جوف الليل الى عنان
الفضاء، صراخ هيستيري متواصل يحمل أبشع مشاعرها رعباً وهي التي تعودت
التوحش والسادية، وانتزعت ما بداخلها من نبضات رحمة وحنان. عندئذ قال أحد
الضباط لقائده:
سيادة العقيد أبو الهول . . ألا نعدمها هي الأخرى؟
أجاب أبو الهول على الفور:
لو لم تتكلم قبل منتصف النهار، فلن نجد حلاً آخر.
ومشيراً الى الجنود في قرف:
إرموا الجثة خلف الجبل، ودقوا رأسها بالصخور.
غمرت الكشافات جثة الفتاة الغارقة في دمها، وهنا . . هنا فقط . . عندما
سحبوها من ذراعيها الى الخارج، ووقعت عينا أمينة على المشهد المروع، انهارت
تماماً . . وفقدت آخر قلاع دفاعاتها، وصرخت في ذلك وضعف تستغيث:
سأتكلم . . سأقول لكم كل شيء . . أخرجوني من هنا لأنني خائفة من الدم . .
أخرجوني لأتكلم.
وبصوت أجش صاح فيها أبو الهول:
أنت كاذبة . . ومخادعة . . وستضيعين وقتنا هراء.
وبحسم قال آمراً:
علقوها من ساقيها واضربوها بالكرباج. وتحرم من الماء والطعام حتى أعود
قبل الظهر.
وعند مدخل الكهف. . كانت الفتاة الفرنسية تقف في زهو، وقد علت وجهها
ابتسامة رقيقة تتخلل الدم المستعار، وعندما أدركها أبو الهول ، ربت على
كتفها وقال وهو ينظر بعيداً حيث الفجر الوليد:
انظروا الى صديقتنا فرانسواز (*) . . إنها حقاً قامت بمعجزة. ونحن
جميعاً نجلها لإخلاصها لنا. إنه إخلاص نقي بريء. . يشبه الفجر . . فجر
الحياة . ونطقها بالفرنسية
L’autre de la vie .