[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
جلس
صاحب النفق "أبو محمد" ينفث غضبه وحسرته مع كل نفخة من لفافات التبغ
التي كان يدخنها واحدة تلو الأخرى ألماً على ما آل إليه الوضع في النفق، الذي كلفه
نحو 200 ألف دولار وواصل العمل فيه على مدار عام كامل من أجل إتمام بنائه.
يلتقي
"أبو محمد" وهو من رفح مع شريكه "أبو وائل" القادم من خانيونس
ويتوجهان صباح كل يوم نحو نفقهما على الحدود مع مصر، ويبقيان بانتظار أية إشارة
إيجابية من "الطرف الآخر" على أمل إعادة فتح النفق من جديد.
ومنذ بدء
أعمال البناء في الجدار الفولاذي الذي تشيده مصر حالياً على الحدود مع غزة، أكدت
مصادر محلية أن عشرات الأنفاق (التقديرات تشير إلى وجود أكثر من ألف نفق على طول
الحدود) أغلقت بشكل شبه كلي ومنها ما أغلق تماماً، والعدد تقريبي ومرشح للازدياد
بشكل أكبر مع تقدم عملية البناء.
ويقول
"أبو محمد" :" إنه يأتي إلى نفقه يومياً على أمل أن "يعيد الروح
إليه" بعد قراره وشركائه الآخرين بإغلاقه خوفاً من أي طارئ قد يحدث خاصة مع
أعمال البناء القريبة والتواجد الأمني المصري المكثف على الحدود."
مصير
مجهول
ويضيف
أنه يخاف على عماله وليس على عمله فقط، فما يحدث على الطرف الآخر من الحدود غير
معروف والتجهيزات فوق الأرض لا تكشف كثيراً عما هو تحتها، لذلك فدخول النفق والعمل
فيه يعد مخاطرة كبيرة، لذلك فإن إغلاق النفق جاء بشكل احترازي.
ويذكر أن
كل الاحتمالات واردة، حيث أن الأمن المصري يتواجد بشكل أكبر من السابق ويستخدم
أسلحة مختلفة ومستحدثة، كما أن الشكل النهائي للجدار غير محدد ولا تعرف الأجهزة
التي ستوضع ضمن عملية البناء.
في
المقابل، فإنه "أبو محمد" (45 عاماً) يؤكد أن أنفاقاً كثيرة أغلقت في
أكثر من منطقة على طول الشريط الحدودي، لأن الجدار الفولاذي ردم فتحاتها أو
"عيونها" كما يسميها العاملون في الأنفاق، معبراً عن خشيته أن يحين
الدور على بقيتها.
ويقول
"أبو محمد" وهو رب أسرة مكونة من 8 أفراد إن ما يزيده ألماً هو الأسر
التي سينقطع عنها مصدر دخلها الوحيد، حيث أن نحو 30 عاملاً كانوا ينقلون البضائع
والمواد المستورد من مصر عبر نفقه، وهو ما يعني أن 30 أسرة ستفقد رزقها بإغلاقه.
ويضيف
أنه في بعض الأحيان عندما تكون الحركة كبيرة فإنه كان يوظف مزيداً من الأشخاص، لكن
هذا كله ذهب أدراج الرياح جراء بناء الجدار.
ويقدر
عدد العاملين في الأنفاق - حسب مصادر محلية- بعدة عشرات من الآلاف في أوقات الذروة
من مختلف الأعمار، فضلاً عن عمال النقل والتجار المستفيدين وأصحاب الأنفاق.
إحباط
"باسم"
وفيما
كان الحديث يتجه نحو العمال والوضع السئ الذي يعانون منه، كان "باسم"
الشاب المعروف بنشاطه والذي عمل كمسئول للعمال في أكثر من نفق، يعد
"الأرجيلة" لأن الانتظار على ما يبدو سيطول أكثر من اللازم.
ويقول
باسم (22 عاماً) – وهو يشير إلى فتحة النفق المغلقة بألواح خشبية- لوكالة
"صفا": "ها هو النفق أغلق، ما يعني أن عملي انتهى، وكل آمالي
بتوفير قوت أسرتي المكونة من سبعة أنفار تبددت".
ويضيف
"أنا المعيل الوحيد لأسرتي، فالوالد توفي وأنا صغير ولي أخ شهيد وأخ جريح
وأخت مريضة وأخ ثالث لا يقوى على العمل وآخر مصاب بالصرع جراء ضربه من قبل
الاحتلال وأم مريضة بأمراض مزمنة، هذه هي معادلة البؤس التي أعيشها، وفوق ذلك ها
هو عملي الوحيد يتبخر بسبب الجدار".
واستدرك
قائلاً: "استغرقني البحث عن عمل سنوات طويلة، ولم أجد سوى هذا العمل منذ
عامين ونصف، وما اضطرني إليه سوى الوضع الصعب وحاجة أسرتي الملّحة للمال لتوفير
العلاج وتغطية المستلزمات الحياتية".
ويوضح
أنه كأي شاب يحمل آمالاً بمستقبل أفضل، لكن الظروف جعلته عاملاً في الأنفاق
بمرارتها، ويقول إنه كلما نزل داخل النفق، كان يخشى أنه يحدث أي طارئ معه أو أن
يفقد حياته كما حدث مع عدد من زملاء "المهنة".
ويضيف
أنه لا يخاف على حياته - وهو تحت الأرض- بقدر خوفه على مصير أسرته من بعده، لكن
الآن مع اشتداد الحال بسبب ما يجري على الحدود فإنه ألمه من "العجز" عن
خدمة أسرته أكبر.
أنفاق
"مفلسة"
في هذه
الأثناء كان "أبو محمد" يتكئ على سرير خشبي وضع عليه فرشة ووسادة، وعلى
بعد نحو مائتي متر، كانت أصوات الجرافات المصرية تتعالى وهي تزيل الرمل على
الحدود، فيما كانت الحفارات تعمل والرافعات تغرز الألواح الفولاذية في الأرض.
ويقول:
"ليس أمامنا في ظل الحصار سوى الصمود، ومحاولة فتح طريق جديدة تلتف على
الجدار أو على مسافة أعمق تحت الأرض، وهو ما سيزيد الوقت والجهد والتكاليف، عوضاً
عن الخطورة الأمنية المترتبة على ذلك، لكن ما يجري هناك –وهو يومئ برأسه إلى
الحدود- يضطرنا إلى الانتظار فترة أخرى".
ويضيف
"عملنا الآن مهدد، وليس أمامنا سوى أن ندعو الله أن يرفع عنا هذا الهم، فإن
عدنا إلى سابق عهدنا وفتحت المعابر ورفع الحصار، فلن تكون هناك حاجة للأنفاق، لأن
وضعنا غير طبيعي، أما في ظل الحصار فإن إغلاق الأنفاق سيزيد الحياة تعقيداً".
ويتابع:
"حالي كحال عشرات إن لم يكن مئات من أصحاب الأنفاق الذين اتخذوا القرار الصعب
بوقف العمل في أنفاقهم إما مؤقتاً أو بشكل كامل، لانقطاع الأمل بإعادة تشغيله، ولا
أقول إلا (إنا لله وإنا إليه راجعون)".
رافقنا
باسم في جولة وهو يتفقد الأنفاق القريبة، ويشير إلى أحدها قائلاً: "صاحب هذا
النفق أعلن إفلاسه"، وينتقل إلى آخر أكبر حجماً، قائلاً: "هذا تم قصفه
مرتين، وصاحبه لم يجد بداً من إغلاقه إلى الأبد، فيما كان يعمل عنده ما لا يقل عن
ستين عاملاً".
حصار تحت
الأرض
وتوجه
الشاب إلى نفق كان يعمل فيه وشاء القدر أن يصاب بجروح بين متوسطة وبالغة في قصف
إسرائيلي استهدف النفق بعد أيام من وقف إطلاق النار في الثامن عشر من شهر كانون
ثاني/ يناير 2009.
ويروي -
وهو يكشف عن الإصابة التي لحقت به- إلى أنه كان صاعداً باتجاه "عين"
النفق، وبينما هو في نصف الطريق إذ بالقصف يستهدف "العين" الأخرى
المجاورة، ما أدى إلى رفعه مسافة في الهواء بقوة الانفجار وسقط على الأرض مصاباً.
ويقول
إنه رغم إصابته لم يدم البقاء في المنزل بل عاد إلى العمل، فلا سبيل للحصول على
المال سوى بمواصلة عمله الخطير، الذي أودى بحياة العديد من زملائه لأسباب أخرى
تتعلق بأوضاع السلامة داخل الأنفاق، فضلاً عن تفجير عدد منها واستهداف أخرى بالغاز
من قبل الأمن المصري.
وفي هذا
الإطار، أفاد مدير عام الإسعاف والطوارئ بوزارة الصحة د. معاوية حسنين أن عدد
ضحايا الأنفاق وصل إلى 137 شخصاً منذ عام 2007 وحتى الآن، ونحو 570 جريحاً.
وقال
حسنين :" إن الضحايا سقطوا جراء القصف الإسرائيلي والانهيارات الرملية
والاختناق بالغاز والتفجير والصعق بالكهرباء وانقطاع التهوية الكافية والاختناق
والسقوط، وكذلك الحال بشأن المصابين الذين وصفت جراح عدد كبير منهم
بالخطيرة".
وهنا
تساءل باسم بحسرة قائلاً: "مهنتنا خطرة ونحن نعرف ذلك لكن الوضع المريع دفعنا
إليها، وفوق ذلك يلاحقوننا في لقمة عيشنا، ما الذي يريدونه منا؟، نحن نبتغي عيشاً
كريماً، لكنهم حاصرونا فوق الأرض والآن يحاصروننا تحت الأرض".