[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
تحاول هذه المقالة البحث في المعطيات التي أدت إلى بروز الاهتمام بالفنون التشكيلية التي يبدعها الفنانون بشكل فردي في المجتمعات العربية، مقارنةً بالتطور التاريخي المعقد لهذه الفنون في الدول الأوربية، وهنا سيكون البحث منصباً على الأرضية الاجتماعية الثقافية التي توجه في كثير من الأحيان المواهب والرغبات الفنية، والتي تقدم للفنان أرضية تاريخية
غنية أو فقيرة يبدأ من خلالها البحث في خياراته وأدواته.
عندما بدأت التجربة الفنية قبل قرن أو أكثر في المنطقة العربية، كان الحامل الثقافي هو برجوازية المدن الطامحة للعيش في أنماط ثقافية مدنية تشابه ما رأت وما سمعت عن الحياة في المدن الأوربية، في تلك الفترة كما الآن، كانت الهوّة المعيشية والثقافية شاسعة بين هذه الطبقة وبين باقي شرائح المجتمع، سنجد أن المواضيع الفنية انحصرت باهتمامات هذه الطبقة وكيف ترى العالم، وكيف كانت نتاج مركب من لوحات وأفكار فنية أوربية ومن تراث محلي ما زال يتعامل مع الفنون الوافدة بحذر.
كانت لوحات الطبيعة والفاكهة والخيول المنسوخة هي المفضلة، وبالعودة إلى تاريخ اللوحة الأوربية يخبرنا جون بيرغر كيف تطورت اللوحة منذ بدايات القرن الخامس عشر، بسبب رعاية الطبقات الثرية لهذا الفن عندما أبدت رغبة في رسم كل ما يُملَك (بفتح اللام) من أراض ومنازل وماشية وحتى النساء، وكيف أخذ الفنانون يحاولون الابتعاد بلوحتهم أحياناً عما يطلب حرفياً، محاولين وضع لمساتهم الشخصية، وكيف انتقلت اللوحة من القصور والمنازل إلى المتاحف ومن ثم إلى صالات العرض، وبدايةً من نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين سيعبر الفن الأوربي مراحل ثورية لا تتوقف، كان محورها رغبة الفنانين في تطوير فنهم متحررين بشكل كبير من متطلبات السوق الفني ومن ذوق جماعي مسبق، بل إن المجتمع بات يتبع ما ينتج عن أبحاثهم المتطرفة وأحياناً الغريبة.
وبالعودة إلى مجتمعاتنا العربية لم تتحول محاولات المقاربة الفنية إلى هم فني فردي قبل أربعينات القرن العشرين (تختلف من دولة عربية إلى أخرى). سنجد من سمّوا فيما بعد بروّاد الفن العربي وقد بدؤوا بالبحث عن لغة خاصة، وكانت بداية أطروحات من قبيل صناعة (فنّ عربي) أو (فن مشرقي)، لكنّ المنعطف الكبير كان عندما حصلت الدول العربية على استقلالها السياسي وبرزت فكرة الدولة القومية.
في تلك الفترة كان الهمّ منصبّاً على البحث عن هوية جماعية، وعلى التأكيد المستمر أنّ هذه المجتمعات قد أعادت وصل ما انقطع من تاريخها، وسيُقرأ التاريخ بشكل اعتباطي لا يخلو من الانتقائية وأحياناً كثيرة كان لا يخلو من شوفينية ثقافية، ما هي إلا حالة دفاع تعويضية عن القصور أمام حضارة قوية ونافذة. وسيتمّ التأكيد على فنّ عربي بمواجهة فن غربي دخيل، سيقال أحياناً إنّ الزخرفة والخطّ العربي هما من خصائص هذا الفنّ، وأحياناً أنّ الشعرية والرمزية هي ميزة يفتقر إليها فنّ غربي عقلاني بارد، متناسين أن اللوحة والمنحوتة في صياغتها الحالية هما في الأساس نتاج للحضارة الأوربية، ومع ظهور أنظمة ما بعد الاستقلال وصعود برجوازية جديدة تستخدم الثقافة لترسيخ موقعها، أصبح الطرح الثقافي العامّ يؤكد أكثر على الهوية الوطنية والقومية في الفن بما يشبه وضع العربة قبل الحصان، فالفنان عليه أن يؤكد في فنه على الهوية التي تلقم له بشكل تعسّفي وإلا اعتبر مهرطقاً، لم تكن هذه الأفكار إلا عملية تسطيح ثقافي للمجتمع، أصابت الفنّ أوّل ما أصابت وأساءت إلى الكثير من المواهب وكرّست أسماء وأساليب في فبركة الأعمال الفنية تركت أجيالا كاملة من الفنانين الشباب من غير مرشد، ومن غير تراث فني حقيقي يستطيعون الاعتماد عليه. في هذه المرحلة بلغت الأزمة الثقافية العامة أوجها، فأسئلة الفن كانت تائهة بين الانطواء تحت هذه الشعارات التي قادها فنانون ومثقفون وجدوا الحل الثقافي العام بالقطيعة مع الثقافة العالمية (طبعاً الممثلة بالمركزية الأوربية)، وفي أفضل الأحوال كانت تظهر أفكار تحاول المصالحة بين الإرث المحلي وبين ضرورات التواصل مع العالم الخارجي تحت عنوان فن يجمع بين " الأصالة والمعاصرة ".
هذا هو المأزق الفكري و الفني الذي وصل إليه الفنان العربي الذي دأب – باستثناء قلة قليلة – على فبركة أفكار في حقل يعتمد بشكل أساسي على التجريب وقراءة الأخطاء بطريقة نقدية صارمة، ولمقاربة المشكلة بشكل أدقّ سنسأل سؤالا أوّليا وبديهيا: هل الفن التشكيلي بشروطه النقدية العالمية هو حاجة اجتماعية محلية؟ وما الذي يعرض في صالاتنا الفنية؟ وما هو الشكل القائم لمعادلة (الفنان ، الناقد، المشاهد)؟
تخبرنا هذه الإشكاليات عن المأزق التاريخي الذي وُجد فيه الفنان العربي عندما حاول صناعة فن (فردي)، فالمسيرة الفنية الأوربية التي نضجت عبر مساراتها الخاصة، الطويلة والمعقدة، حاول الفنان العربي اختزالها وإسقاطها على واقعه المتخلف والمأزوم بشكل قسري لن تجدي معه كل محاولات الترميم النظري والتفلسف، والتي لن تصمد أمام حقيقة أنّ اللوحة والمنحوتة فنّ بصري يحاكم بقوانين نقدية … هل يجب أن أقول عالمية؟ وهو مجال إبداعي فردي يحتاج إلى الحرية الكاملة في تقديم أطروحات جديدة قد لا تتلاءم مع العقلية الجمعية التعسفية التي تتصف بها مجتمعاتنا وتنتج بها ثقافتها وتصوغ ذوقها الفني من خلاله.
وسيكون النقد الفني كمجال ثقافي مهما للحوار وتطوير الأفكار، سيكون خاوياً ركيكاً، تتحول الحوارات فيه إلى نزاعات شخصية في كثير من الأحيان، تستخدم فيها المصطلحات الغامضة المفخمة التي لا تزيد الأمر إلا تعقيداً في مجتمعات مازالت تتلمس طريقها في مجال التذوق الفني.
لم تنشأ علاقة صحية تستطيع تقريب المشاهد والمتابع للحركة الفنية من عمل الفنان، وتساعد الفنان على تلمس طريقه، ومن جهة أخرى قلة هم الفنانون الذين كانوا قادرين على تقبل نقاش حول عملهم، وهنا سنسأل سؤالاً مشروعاً: لماذا يتكبّد الفنان العربي كل هذا العناء؟ لماذا يقف الفنان العربي في منزلة بين بين، فهو طوراً يبحث عن فرديته وطوراً ينصاع إلى متطلبات السوق الفني الذي لا يسمح بهامش كبير للتجريب والإبداع.
الخلاصة، أنّ ما نعتقد أنّه إبداع فردي كامل سيكون محكوماً بالأرضية الثقافية الجمعية التي ستوجّه طموحات الفنانين ورغباتهم ومصالحهم، وسنجد أنّ الفردية الفنية، بمعناها الخلاق المغامر والمبدع، قليلاً ما استطاعت الاستمرار طويلاً، ونادراً ما سمح لها المجتمع بأن تمثله ثقافياً.
تحاول هذه المقالة البحث في المعطيات التي أدت إلى بروز الاهتمام بالفنون التشكيلية التي يبدعها الفنانون بشكل فردي في المجتمعات العربية، مقارنةً بالتطور التاريخي المعقد لهذه الفنون في الدول الأوربية، وهنا سيكون البحث منصباً على الأرضية الاجتماعية الثقافية التي توجه في كثير من الأحيان المواهب والرغبات الفنية، والتي تقدم للفنان أرضية تاريخية
غنية أو فقيرة يبدأ من خلالها البحث في خياراته وأدواته.
عندما بدأت التجربة الفنية قبل قرن أو أكثر في المنطقة العربية، كان الحامل الثقافي هو برجوازية المدن الطامحة للعيش في أنماط ثقافية مدنية تشابه ما رأت وما سمعت عن الحياة في المدن الأوربية، في تلك الفترة كما الآن، كانت الهوّة المعيشية والثقافية شاسعة بين هذه الطبقة وبين باقي شرائح المجتمع، سنجد أن المواضيع الفنية انحصرت باهتمامات هذه الطبقة وكيف ترى العالم، وكيف كانت نتاج مركب من لوحات وأفكار فنية أوربية ومن تراث محلي ما زال يتعامل مع الفنون الوافدة بحذر.
كانت لوحات الطبيعة والفاكهة والخيول المنسوخة هي المفضلة، وبالعودة إلى تاريخ اللوحة الأوربية يخبرنا جون بيرغر كيف تطورت اللوحة منذ بدايات القرن الخامس عشر، بسبب رعاية الطبقات الثرية لهذا الفن عندما أبدت رغبة في رسم كل ما يُملَك (بفتح اللام) من أراض ومنازل وماشية وحتى النساء، وكيف أخذ الفنانون يحاولون الابتعاد بلوحتهم أحياناً عما يطلب حرفياً، محاولين وضع لمساتهم الشخصية، وكيف انتقلت اللوحة من القصور والمنازل إلى المتاحف ومن ثم إلى صالات العرض، وبدايةً من نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين سيعبر الفن الأوربي مراحل ثورية لا تتوقف، كان محورها رغبة الفنانين في تطوير فنهم متحررين بشكل كبير من متطلبات السوق الفني ومن ذوق جماعي مسبق، بل إن المجتمع بات يتبع ما ينتج عن أبحاثهم المتطرفة وأحياناً الغريبة.
وبالعودة إلى مجتمعاتنا العربية لم تتحول محاولات المقاربة الفنية إلى هم فني فردي قبل أربعينات القرن العشرين (تختلف من دولة عربية إلى أخرى). سنجد من سمّوا فيما بعد بروّاد الفن العربي وقد بدؤوا بالبحث عن لغة خاصة، وكانت بداية أطروحات من قبيل صناعة (فنّ عربي) أو (فن مشرقي)، لكنّ المنعطف الكبير كان عندما حصلت الدول العربية على استقلالها السياسي وبرزت فكرة الدولة القومية.
في تلك الفترة كان الهمّ منصبّاً على البحث عن هوية جماعية، وعلى التأكيد المستمر أنّ هذه المجتمعات قد أعادت وصل ما انقطع من تاريخها، وسيُقرأ التاريخ بشكل اعتباطي لا يخلو من الانتقائية وأحياناً كثيرة كان لا يخلو من شوفينية ثقافية، ما هي إلا حالة دفاع تعويضية عن القصور أمام حضارة قوية ونافذة. وسيتمّ التأكيد على فنّ عربي بمواجهة فن غربي دخيل، سيقال أحياناً إنّ الزخرفة والخطّ العربي هما من خصائص هذا الفنّ، وأحياناً أنّ الشعرية والرمزية هي ميزة يفتقر إليها فنّ غربي عقلاني بارد، متناسين أن اللوحة والمنحوتة في صياغتها الحالية هما في الأساس نتاج للحضارة الأوربية، ومع ظهور أنظمة ما بعد الاستقلال وصعود برجوازية جديدة تستخدم الثقافة لترسيخ موقعها، أصبح الطرح الثقافي العامّ يؤكد أكثر على الهوية الوطنية والقومية في الفن بما يشبه وضع العربة قبل الحصان، فالفنان عليه أن يؤكد في فنه على الهوية التي تلقم له بشكل تعسّفي وإلا اعتبر مهرطقاً، لم تكن هذه الأفكار إلا عملية تسطيح ثقافي للمجتمع، أصابت الفنّ أوّل ما أصابت وأساءت إلى الكثير من المواهب وكرّست أسماء وأساليب في فبركة الأعمال الفنية تركت أجيالا كاملة من الفنانين الشباب من غير مرشد، ومن غير تراث فني حقيقي يستطيعون الاعتماد عليه. في هذه المرحلة بلغت الأزمة الثقافية العامة أوجها، فأسئلة الفن كانت تائهة بين الانطواء تحت هذه الشعارات التي قادها فنانون ومثقفون وجدوا الحل الثقافي العام بالقطيعة مع الثقافة العالمية (طبعاً الممثلة بالمركزية الأوربية)، وفي أفضل الأحوال كانت تظهر أفكار تحاول المصالحة بين الإرث المحلي وبين ضرورات التواصل مع العالم الخارجي تحت عنوان فن يجمع بين " الأصالة والمعاصرة ".
هذا هو المأزق الفكري و الفني الذي وصل إليه الفنان العربي الذي دأب – باستثناء قلة قليلة – على فبركة أفكار في حقل يعتمد بشكل أساسي على التجريب وقراءة الأخطاء بطريقة نقدية صارمة، ولمقاربة المشكلة بشكل أدقّ سنسأل سؤالا أوّليا وبديهيا: هل الفن التشكيلي بشروطه النقدية العالمية هو حاجة اجتماعية محلية؟ وما الذي يعرض في صالاتنا الفنية؟ وما هو الشكل القائم لمعادلة (الفنان ، الناقد، المشاهد)؟
تخبرنا هذه الإشكاليات عن المأزق التاريخي الذي وُجد فيه الفنان العربي عندما حاول صناعة فن (فردي)، فالمسيرة الفنية الأوربية التي نضجت عبر مساراتها الخاصة، الطويلة والمعقدة، حاول الفنان العربي اختزالها وإسقاطها على واقعه المتخلف والمأزوم بشكل قسري لن تجدي معه كل محاولات الترميم النظري والتفلسف، والتي لن تصمد أمام حقيقة أنّ اللوحة والمنحوتة فنّ بصري يحاكم بقوانين نقدية … هل يجب أن أقول عالمية؟ وهو مجال إبداعي فردي يحتاج إلى الحرية الكاملة في تقديم أطروحات جديدة قد لا تتلاءم مع العقلية الجمعية التعسفية التي تتصف بها مجتمعاتنا وتنتج بها ثقافتها وتصوغ ذوقها الفني من خلاله.
وسيكون النقد الفني كمجال ثقافي مهما للحوار وتطوير الأفكار، سيكون خاوياً ركيكاً، تتحول الحوارات فيه إلى نزاعات شخصية في كثير من الأحيان، تستخدم فيها المصطلحات الغامضة المفخمة التي لا تزيد الأمر إلا تعقيداً في مجتمعات مازالت تتلمس طريقها في مجال التذوق الفني.
لم تنشأ علاقة صحية تستطيع تقريب المشاهد والمتابع للحركة الفنية من عمل الفنان، وتساعد الفنان على تلمس طريقه، ومن جهة أخرى قلة هم الفنانون الذين كانوا قادرين على تقبل نقاش حول عملهم، وهنا سنسأل سؤالاً مشروعاً: لماذا يتكبّد الفنان العربي كل هذا العناء؟ لماذا يقف الفنان العربي في منزلة بين بين، فهو طوراً يبحث عن فرديته وطوراً ينصاع إلى متطلبات السوق الفني الذي لا يسمح بهامش كبير للتجريب والإبداع.
الخلاصة، أنّ ما نعتقد أنّه إبداع فردي كامل سيكون محكوماً بالأرضية الثقافية الجمعية التي ستوجّه طموحات الفنانين ورغباتهم ومصالحهم، وسنجد أنّ الفردية الفنية، بمعناها الخلاق المغامر والمبدع، قليلاً ما استطاعت الاستمرار طويلاً، ونادراً ما سمح لها المجتمع بأن تمثله ثقافياً.