د. سعد بن مطر العتيبي | 14/12/1427
ومن أهم قواعد تنزيل الأدلة على أحوالها المختلفة ، قاعدة : مراعاة نوع التصرف النبوي .
تنزيل الأدلة على أحوالها المختلفة ، له قواعده المعتبرة ؛ من مثل النظر في أسباب نزول الآيات ، وأسباب ورود الأحاديث ، وما تتضمنه من الأدلة من قيود وأوصاف مؤثِّرة ؛ وهذه قواعد ووسائل ظاهرة ؛ لكن من القواعد - التي قد تخفى مع أهميتها في مباحث السياسة الشرعية - :
النظر في نوع التصرف النبوي ؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يتصرف بصفات عدَّة ؛ إذ هو الرسول ، وهو المفتي ، وهو الإمام ، وهو الحاكم ؛ ولكلِّ صفة منها خصائص استنباطية ؛ وعليه فلا بد من مراعاة معرفة نوع التصرف النبوي الذي يراد الاستنباط منه :
هل صدر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوصفه مُبَلِّغاً عن الله تعالى ، الذي هو مقتضى الرسالة ؟
أو صدرت منه صلى الله عليه وآله وسلم بوصفه مفتياً ( يُنظر فوائد متعلقة بالمسألة في آخرها ) ، يخبر بالحكم الذي فهمه عن الله عز وجل ؟
أو صدرت منه صلى الله عليه وآله وسلم بصفته إماماً أعظم ، يسوس الأمَّة ؛ " لأنَّ الإمام هو الذي فُوِّضت إليه السياسة العامّة في الخلائق ، وضبط معاقد المصالح ، ودرء المفاسد ، وقمع الجناة ، وقتل الطغاة ، وتوطين العباد في البلاد ، إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس" (1) ؛ فيقتدي به الخلفاء والأئمة في هذه التصرفات ؟
أو صدرت منه صلى الله عليه وآله وسلم بصفته حاكماً ، يصدر أحكاماً قضائية ؟
هذه أسئلة ينبغي على الفقيه بعامة والفقيه السياسي بخاصة أن يراعيها عند نظره في الدليل الشرعي من تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم .
قال القرافي رحمه الله : " اعلم أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الإمام الأعظم ، والقاضي الأحكم ، والمفتي الأعلم ؛ فهو - صلى الله عليه وسلم - إمام الأئمة ، وقاضي القضاة ، وعالم العلماء ؛ فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته … غير أنَّ غالب تصرّفه - صلى الله عليه وسلم - بالتبليغ ؛ لأنَّ وصف الرسالة غالب عليه ، ثم تقع تصرفاته - صلى الله عليه وسلم - :
منها ما يكون بالتبليغ والفتوى إجماعاً [ كإبلاغ الصلوات ، وإقامتها ، وإقامة مناسك الحج ] (2) ،
ومنها ما يُجمع النَّاس على أنَّه بالقضاء [ كإلزام أداء الديون ، وتسليم السلع ، وفسخ الأنكحة ] (3) ،
ومنها ما يُجمع النَّاس على أنَّه بالإمامة [ كإقطاع الأراضي ، وإقامة الحدود ، وإرسال الجيوش ] (4) ،
ومنها ما يختلف العلماء فيه [ كإحياء الموات ، والاختصاص بالسلب لمن قتل الحربي ] (5) ؛ لتردُّده بين رتبتين فصاعداً ، فمنهم من يُغلِّب عليه رتبة ، ومنهم من يُغَلِّب عليه أخرى .
ثم تصرفاته - صلى الله عليه وسلم - بهذه الأوصاف تختلف آثارها في الشريعة ؛ فكان ما قاله - صلى الله عليه وسلم - أو فعله على سبيل التبليغ كان ذلك حكماً عاماً على الثقلين إلى يوم القيامة …
وكل ما تصرف فيه - عليه السلام - بوصف الإمامة ، لا يجوز لأحد أن يُقدم عليـه إلا بإذن الإمام … وما تصرف فيـه - صلى الله عليه وسلم - بوصف القضاء ، لا يجوز لأحد أن يُقدم عليه إلا بحكم حاكم … " (6) .
ومما يجب التنبّه له هنا ، أنَّ المسألة من أخطر مسائل الاستدلال ، وهذا أمر يدركه محققوا الفقهاء ولهم في التحقق منه ضوابط لا يتجاوزونها ، غير أنَّ بحث هذ المسألة في هذا العصر الذي كثر فيه المشغِّبون على شرع الله والمتهاونون في التثبت من سلامة طرقهم في الاستدلال - يقتضي التنبيه على أهم ضوابط هذه القاعدة عند العلماء ، وذلك بإيجازها في أمرين :
الأول : أنَّ جميع تصرفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، بجميع صفاته ، مما لم يثبت اختصاصه به صلى الله عليه وسلم ، فهي تشريع لأمته ، سواء منها ما كان عاما ككل ما صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بصفته مبلغاً ومفتياً ، أو ما كان خاصاً ، كالصادر عنه بصفة الإمامة العظمى والولاية أو الحكم والقضاء . وهذا أمر متقرِّر عند علماء الأمَّة.
الثاني : أنّ الأصل في تصرفاته صلى الله عليه وسلم ، هو الفتيا ، فلا يجوز قصر تصرف على وصف سواه ، إلا بدليل شرعي معتبر عند أهل العلم ، سواء كان دليلاً خاصاً أو إجماعاً ، كما في الأمثلة السابقة .
قال الشيخ العلامة المحقق سلطان العلماء عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله : في بيانه أمثلة قاعدة الشريعة في الحمل على الغالب والأغلب : " ومنها : أنَّ من ملك التصرف القولي بأسباب مختلفة ، ثم صدر منه تصرف صالح للاستناد إلى كلِّ واحد من تلك الأسباب ، فإنَّه يُحمل على أغلبها .
فمن هذا تصرف النبي صلى الله عليه وسلم بالفتيا والحكم والإمامة العظمى ، فإنَّه إمام الأئمة ، فإذا صدر منه تصرُّف ، حُمِل على أغلب تصرفاته ، وهي الإفتاء ، ما لم يدل دليل على خلافه . " (7) .
فهذه قاعدة مهمَّة جدّاً ؛ و قد نبَّه إلى مراعاتها عددٌ من المحققين من العلماء ، و بيَّنو بعض قواعد ضبطها ( ؛ وإن كانت لا تزال في حاجة إلى دراسة تأصيلية أعمق ، وأضبط ؛ تعتمد استقراء التصرفات النبوية من مصادرها ، ثم إعمال النظر التأصيلي فيها .
فــوائد ذات صلــة :
الفائدة الأولى :
فرق القرافي رحمه الله بين التبليغ ( الرسالة ) والفتيا ، بـ: أنَّ الأوّل : تبليغ ونقل من الله تعالى إلى الخلق ، والثاني : إخبار عن حكم الله عز وجل بما يجده في الأدلَّة ؛ فهو كالفرق بين الرسالة والفتيا . (9)
الفائدة الثانية :
ولعل من أوائل من نصُّوا على ذلك في تقسيماتهم بوضوح ، الحافظ العلامة أبو حاتم محمد بن حبّان التميمي ، في كتابه : المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع (المشهور بصحيح ابن حبَّان) ؛ حيث ذكرها في خطبة كتابه ، ونصّ عليه بعدُ آخرون .
تنظر : مضمَّنة في : الإحسان في تقريب صحيح ابن حبَّان ، للأمير علاء الدين الفارسي ؛ الفصل الثاني : 1/103-107، القسم الخامس من أقسام السنن ، الأنواع (3،11،27،36،38،40،42،45) .
ولعلّ من أكثر العلماء السابقين اهتماماً بتأصيل ذلك وتحريره والتنبيه إلى أهميته في فهم التشريع ، العلامة القرافي ولعلّه أفاد ذلك من شيخه العز بن عبد السلام رحمهما الله تعالى .
--------------------------
(1) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ، للقرافي : 105 .
(2) (3) (4) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ، للقرافي : 109 .
(5) ينظر : المصدر السابق : 109 ، 116 ؛ والفروق : 207-209 .
(6) الفروق : 1/206 .
(7)قواعد الأحكام في مصالح الأنام :2/244 .
( ينظر في بيان هذه القاعدة : المصدر السابق ؛ والإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ، للقرافي : السؤال الخامس والعشرون – ولا سيما – ص : 108 وما بعدها ؛ والفروق ، له : الفرق السادس والثلاثون : 1/205-209 ؛ وإدرار الشروق على أنواء الفروق ، لابن الشاط (ت/723) [ بهامش الفروق ] : 1/206-207 ؛ و زاد المعاد ، لابن القيم : 3/490-491 ؛ و حكم الجاهلية ، للشيخ/ أحمد بن محمد شاكر (ت/1377) : 129-130، ط1-1412، عناية/ محمود شاكر ، مكتبة السنة : القاهرة ؛ وتعليق الشيخ/ أحمد شاكر على : الرسالة ، للشافعي : 240-242 ، بتحقيقه .
(9)ينظر : الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام ، للقرافي : 99-100 .
يتبع