ممـلكـــة ميـــرون

الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية - صفحة 2 32175b77914d249ceca6f7052b89c9fc

ادارة مملكة ميرون
ترحب بكم وتتمنى لكم قضاء اوقات مفيدة
وتفتح لكم قلبها وابوابها
فاهلا بكم في رحاب مملكتنا
ايها الزائر الكريم لو احببت النضمام لمملكتنا؟
التسجيل من هنا
وان كنت متصفحا فاهلا بك في رحاب منتدانا

ادارة مملكة ميرون

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

ممـلكـــة ميـــرون

الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية - صفحة 2 32175b77914d249ceca6f7052b89c9fc

ادارة مملكة ميرون
ترحب بكم وتتمنى لكم قضاء اوقات مفيدة
وتفتح لكم قلبها وابوابها
فاهلا بكم في رحاب مملكتنا
ايها الزائر الكريم لو احببت النضمام لمملكتنا؟
التسجيل من هنا
وان كنت متصفحا فاهلا بك في رحاب منتدانا

ادارة مملكة ميرون

ممـلكـــة ميـــرون

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


,,,منتديات,,,اسلامية,,,اجتماعية,,,ثقافية,,,ادبية,,,تاريخية,,,تقنية,,, عامة,,,هادفة ,,,


    الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية

    ادهم الشرقاوى
    ادهم الشرقاوى
    عضو ماسي
    عضو ماسي


    ذكر

    الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية - صفحة 2 Empty رد: الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية

    مُساهمة من طرف ادهم الشرقاوى الخميس سبتمبر 04, 2008 4:51 pm

    أسس السياسة الشرعية(11) مراعاة نوع التصرف النبوي


    د. سعد بن مطر العتيبي | 14/12/1427


    ومن أهم قواعد تنزيل الأدلة على أحوالها المختلفة ، قاعدة : مراعاة نوع التصرف النبوي .

    تنزيل الأدلة على أحوالها المختلفة ، له قواعده المعتبرة ؛ من مثل النظر في أسباب نزول الآيات ، وأسباب ورود الأحاديث ، وما تتضمنه من الأدلة من قيود وأوصاف مؤثِّرة ؛ وهذه قواعد ووسائل ظاهرة ؛ لكن من القواعد - التي قد تخفى مع أهميتها في مباحث السياسة الشرعية - :

    النظر في نوع التصرف النبوي ؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يتصرف بصفات عدَّة ؛ إذ هو الرسول ، وهو المفتي ، وهو الإمام ، وهو الحاكم ؛ ولكلِّ صفة منها خصائص استنباطية ؛ وعليه فلا بد من مراعاة معرفة نوع التصرف النبوي الذي يراد الاستنباط منه :

    هل صدر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوصفه مُبَلِّغاً عن الله تعالى ، الذي هو مقتضى الرسالة ؟
    أو صدرت منه صلى الله عليه وآله وسلم بوصفه مفتياً ( يُنظر فوائد متعلقة بالمسألة في آخرها ) ، يخبر بالحكم الذي فهمه عن الله عز وجل ؟

    أو صدرت منه صلى الله عليه وآله وسلم بصفته إماماً أعظم ، يسوس الأمَّة ؛ " لأنَّ الإمام هو الذي فُوِّضت إليه السياسة العامّة في الخلائق ، وضبط معاقد المصالح ، ودرء المفاسد ، وقمع الجناة ، وقتل الطغاة ، وتوطين العباد في البلاد ، إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس" (1) ؛ فيقتدي به الخلفاء والأئمة في هذه التصرفات ؟

    أو صدرت منه صلى الله عليه وآله وسلم بصفته حاكماً ، يصدر أحكاماً قضائية ؟

    هذه أسئلة ينبغي على الفقيه بعامة والفقيه السياسي بخاصة أن يراعيها عند نظره في الدليل الشرعي من تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم .

    قال القرافي رحمه الله : " اعلم أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الإمام الأعظم ، والقاضي الأحكم ، والمفتي الأعلم ؛ فهو - صلى الله عليه وسلم - إمام الأئمة ، وقاضي القضاة ، وعالم العلماء ؛ فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته … غير أنَّ غالب تصرّفه - صلى الله عليه وسلم - بالتبليغ ؛ لأنَّ وصف الرسالة غالب عليه ، ثم تقع تصرفاته - صلى الله عليه وسلم - :

    منها ما يكون بالتبليغ والفتوى إجماعاً [ كإبلاغ الصلوات ، وإقامتها ، وإقامة مناسك الحج ] (2) ،

    ومنها ما يُجمع النَّاس على أنَّه بالقضاء [ كإلزام أداء الديون ، وتسليم السلع ، وفسخ الأنكحة ] (3) ،

    ومنها ما يُجمع النَّاس على أنَّه بالإمامة [ كإقطاع الأراضي ، وإقامة الحدود ، وإرسال الجيوش ] (4) ،

    ومنها ما يختلف العلماء فيه [ كإحياء الموات ، والاختصاص بالسلب لمن قتل الحربي ] (5) ؛ لتردُّده بين رتبتين فصاعداً ، فمنهم من يُغلِّب عليه رتبة ، ومنهم من يُغَلِّب عليه أخرى .

    ثم تصرفاته - صلى الله عليه وسلم - بهذه الأوصاف تختلف آثارها في الشريعة ؛ فكان ما قاله - صلى الله عليه وسلم - أو فعله على سبيل التبليغ كان ذلك حكماً عاماً على الثقلين إلى يوم القيامة …

    وكل ما تصرف فيه - عليه السلام - بوصف الإمامة ، لا يجوز لأحد أن يُقدم عليـه إلا بإذن الإمام … وما تصرف فيـه - صلى الله عليه وسلم - بوصف القضاء ، لا يجوز لأحد أن يُقدم عليه إلا بحكم حاكم … " (6) .


    ومما يجب التنبّه له هنا ، أنَّ المسألة من أخطر مسائل الاستدلال ، وهذا أمر يدركه محققوا الفقهاء ولهم في التحقق منه ضوابط لا يتجاوزونها ، غير أنَّ بحث هذ المسألة في هذا العصر الذي كثر فيه المشغِّبون على شرع الله والمتهاونون في التثبت من سلامة طرقهم في الاستدلال - يقتضي التنبيه على أهم ضوابط هذه القاعدة عند العلماء ، وذلك بإيجازها في أمرين :

    الأول : أنَّ جميع تصرفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، بجميع صفاته ، مما لم يثبت اختصاصه به صلى الله عليه وسلم ، فهي تشريع لأمته ، سواء منها ما كان عاما ككل ما صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بصفته مبلغاً ومفتياً ، أو ما كان خاصاً ، كالصادر عنه بصفة الإمامة العظمى والولاية أو الحكم والقضاء . وهذا أمر متقرِّر عند علماء الأمَّة.

    الثاني : أنّ الأصل في تصرفاته صلى الله عليه وسلم ، هو الفتيا ، فلا يجوز قصر تصرف على وصف سواه ، إلا بدليل شرعي معتبر عند أهل العلم ، سواء كان دليلاً خاصاً أو إجماعاً ، كما في الأمثلة السابقة .

    قال الشيخ العلامة المحقق سلطان العلماء عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله : في بيانه أمثلة قاعدة الشريعة في الحمل على الغالب والأغلب : " ومنها : أنَّ من ملك التصرف القولي بأسباب مختلفة ، ثم صدر منه تصرف صالح للاستناد إلى كلِّ واحد من تلك الأسباب ، فإنَّه يُحمل على أغلبها .
    فمن هذا تصرف النبي صلى الله عليه وسلم بالفتيا والحكم والإمامة العظمى ، فإنَّه إمام الأئمة ، فإذا صدر منه تصرُّف ، حُمِل على أغلب تصرفاته ، وهي الإفتاء ، ما لم يدل دليل على خلافه . " (7) .

    فهذه قاعدة مهمَّة جدّاً ؛ و قد نبَّه إلى مراعاتها عددٌ من المحققين من العلماء ، و بيَّنو بعض قواعد ضبطها (Cool ؛ وإن كانت لا تزال في حاجة إلى دراسة تأصيلية أعمق ، وأضبط ؛ تعتمد استقراء التصرفات النبوية من مصادرها ، ثم إعمال النظر التأصيلي فيها .

    فــوائد ذات صلــة :

    الفائدة الأولى :
    فرق القرافي رحمه الله بين التبليغ ( الرسالة ) والفتيا ، بـ: أنَّ الأوّل : تبليغ ونقل من الله تعالى إلى الخلق ، والثاني : إخبار عن حكم الله عز وجل بما يجده في الأدلَّة ؛ فهو كالفرق بين الرسالة والفتيا . (9)

    الفائدة الثانية :
    ولعل من أوائل من نصُّوا على ذلك في تقسيماتهم بوضوح ، الحافظ العلامة أبو حاتم محمد بن حبّان التميمي ، في كتابه : المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع (المشهور بصحيح ابن حبَّان) ؛ حيث ذكرها في خطبة كتابه ، ونصّ عليه بعدُ آخرون .
    تنظر : مضمَّنة في : الإحسان في تقريب صحيح ابن حبَّان ، للأمير علاء الدين الفارسي ؛ الفصل الثاني : 1/103-107، القسم الخامس من أقسام السنن ، الأنواع (3،11،27،36،38،40،42،45) .

    ولعلّ من أكثر العلماء السابقين اهتماماً بتأصيل ذلك وتحريره والتنبيه إلى أهميته في فهم التشريع ، العلامة القرافي ولعلّه أفاد ذلك من شيخه العز بن عبد السلام رحمهما الله تعالى .

    --------------------------
    (1) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ، للقرافي : 105 .
    (2) (3) (4) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ، للقرافي : 109 .
    (5) ينظر : المصدر السابق : 109 ، 116 ؛ والفروق : 207-209 .
    (6) الفروق : 1/206 .
    (7)قواعد الأحكام في مصالح الأنام :2/244 .
    (Cool ينظر في بيان هذه القاعدة : المصدر السابق ؛ والإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ، للقرافي : السؤال الخامس والعشرون – ولا سيما – ص : 108 وما بعدها ؛ والفروق ، له : الفرق السادس والثلاثون : 1/205-209 ؛ وإدرار الشروق على أنواء الفروق ، لابن الشاط (ت/723) [ بهامش الفروق ] : 1/206-207 ؛ و زاد المعاد ، لابن القيم : 3/490-491 ؛ و حكم الجاهلية ، للشيخ/ أحمد بن محمد شاكر (ت/1377) : 129-130، ط1-1412، عناية/ محمود شاكر ، مكتبة السنة : القاهرة ؛ وتعليق الشيخ/ أحمد شاكر على : الرسالة ، للشافعي : 240-242 ، بتحقيقه .
    (9)ينظر : الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام ، للقرافي : 99-100 .
    يتبع
    ادهم الشرقاوى
    ادهم الشرقاوى
    عضو ماسي
    عضو ماسي


    ذكر

    الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية - صفحة 2 Empty رد: الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية

    مُساهمة من طرف ادهم الشرقاوى الخميس سبتمبر 04, 2008 4:53 pm

    أسس السياسة الشرعية (10) تنزيـل الأدلـة على أحوالهـا المختلفـة


    د. سعد بن مطر العتيبي | 29/11/1427


    ومن طرق الاستدلال السياسي : تنزيـل الأدلـة على أحوالهـا المختلفـة .

    أولاً : المراد بهـذه الطريـق .

    المراد بها : حمل الأدلة التي يظهر بينها اختلاف وتعارض في نظر المجتهد - مما ليس منسوخاً - على الأحوال التي وردت هذه الأدلة في بيان أحكامها ؛ بحيث يلزم المجتهدَ البحثُ في موارد هذه الأحكام تنظيراً وتطبيقاً ، وتنزيل هذا الاختلاف الذي ظهر له على اختلاف هذه الموارد (1) .

    مثالـه : أحكام الأسرى ؛ فقد جاء ما يدلّ على قتلهم ، وجاء ما يدلّ على استرقاقهم ، وجاء ما يدلّ على المنَّ عليهم بلا شيءٍ ، وجاء ما يدلّ على إطلاقهم بفداء ؛ فهذه الأحكـام لا تعارض بينها – كما سيأتي بيانه في التطبيقات المعاصرة للسياسة الشرعية ، إن شاء الله تعالى - و إنَّما جاءت بياناً لأحكام أحوالٍ مختلفة .

    ثانياً : حجية تنزيل الأدلة التي ظاهرها التعارض على أحوالها .
    لم يطل العلماء في تقرير هذه الطريق بذكر الدلائل ، ولعلَّ ذلك ؛ لظهورها ، وتقرَّر الاستدلال بها لديهم ، لاستنادها على أصول متقرِّرة ؛ فمن الدلائل على حجيَّة هذه الطريق ما يلي :

    1) ما هو مُتقَرِّرٌ من أنَّ الشريعة لا تُثْبِت حكمين مختلفين في مسألة واحدة ؛ بحيث يفيد أحدهما – مثلاً – الوجوب والآخر الحرمة ، في نفس الأمر ؛ وذلك بناءً على ما هو مسلَّمٌ من امتناع الاختلاف بين الأدلة الشرعية في واقع الأمر ، ورجوع الشريعة كلها إلى قول واحد ؛ ولأنَّ من لازم ذلك التناقض والعبث والجهل ، و الشارع الحكيم منَزَّهُ عن ذلك سبحانه وتعالى ، والدلائل على هذا أظهر من أن تذكر ، فلا حاجة للإطالة بذكرها ؛ وهذا لا ينافي وجود تعارض واختلاف ظاهري في فهم الناظر وظنِّه .

    وفي هذا يقول الشاطبي : " الشريعة كلُّها ترجع إلى قول واحد في فروعها ، وإن كثر الخلاف ، كما أنَّها في أصولها كذلك ، ولا يصلح فيها غير ذلك " (2) .

    2) إجماع العلماء على اعتبار هذه الطريق في الاستدلال .
    قال الشوكاني : " ومن شروط الترجيح التي لابد من اعتبارها : أن لا يمكن الجمع بين المتعارضين بوجه مقبول ؛ فإن أمكن ذلك تعيَّن المصير إليه ، ولم يجز المصير إلى الترجيح ، قال في المحصول : العمل بكلٍ منهما من وجه أولى من العمل بالراجح من كل وجه ، وترك الآخر . انتهى . وبه قال الفقهاء جميعاً " (3) .

    وقال الشنقيطي : " … والمقرّر في علم الأصول وعلم الحديث أنَّه : إذا أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع بينهما إجماعاً ، ولا يرد غير الأقوى منهما بالأقوى ؛ لأنَّهما صادقان ، وليسا بمتعارضين ، وإنَّما أجمع أهل العلم على وجوب الجمع بين الدليلين إن أمكن ؛ لأنَّ إعمال الدليلين معاً أولى من إلغاء أحدهما كما لا يخفى " (4) .

    3- من المعنى ، وهو ما عبَّر عنه العلامة أبو الوليد الباجي بقوله في الأخبار إذا اختلفت : " والحجّـة في ذلك أنَّ الخبرين إذا ثبتا جميعاً ليس أحدهما أولى من صاحبه ، ولا طريق إلى إسقاطهما ، ولا إلى إسقاط أحدهما ، وقد استويا وتقاوما وأمكن الاستعمال ؛ فلم يبق إلا التَّخَيُّر فيهما ، وإن كان كلُّ واحد منهما سدَّ مَسَدَّ الآخر ، وصار بمنزلة الكَفَّارة التي دخلها التخيُّر والله أعلم " (5).

    ثم العملُ بها ظاهر في كتب أهل العلم المحققين من أهل الفقه والحديث ؛ بل ومن غيرهم ، لا يحتاج في إثباته أكثر من تَصَفُّحٍ سريع لأدلة المسائل التي تعدَّدَت فيها الروايات ؛ مما يؤكِّد حكاية الإجماع على هذه المسألة ؛ وهذا بعض كلام أهل العلم في تقريرها :

    قال الإمام الشافعي : " وكلَّما احتمل حديثان أن يستعملا معاً استُعْمِلا معاً ، ولم يُعَطَّل واحدٌ منهما الآخر " ، ثم ذكر مثالاً لنوعٍ من الاختلاف الظاهري ، فقال : " ومنها ما يكون اختلافاً في الفعل من جهة أنَّ الأمرين مباحان " وذكر من أمثلته : تنوّع الحكم في الأسرى ، وقال : " فكان فيما وصفت من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أن للإمام إذا أسر رجلاً من المشركين أن يمنّ عليه بلا شيْءٍ ، أو أن يفادي بمال يأخذه ، أو أن يفادي بأن يُطلق منهم على أن يُطلقَ له بعضَ أسرى المسلمين ؛ لا أنَّ بعض هذا ناسخٌ لبعض ، ولا مخالف له " (6).
    وقرَّر ذلك وبيَّن وجهه في : الرسالة ، حيث قال : " فأمَّا المختلفـة التي لا دلالة على أيّها ناسخ ولا أيّها منسوخ ؛ فكلّ أمره مُتَوَفِّقُُ صحيح ، لا اختلاف فيه … ويسنُّ في الشيءِ سنة ، وفيما يخالفه أخرى ؛ فلا يُخَلِّصُ بعضُ السامعين بين اختلاف الحالين اللتينِ سنَّ فيهما . ويَسنُّ سنَّة في نصٍّ معناه ، فيحفظه حافظٌ ، ويسنُّ في معنىً يخالفه في معنىً و يجامعه في معنىً : سنَّةً غيرَها لاختلاف الحالين ، فيحفظُ غيرُه تلك السنَّة ؛ فإذا أدَّى كلٌّ ما حفظ رآه بعض السامعين اختلافاً ، وليس منه شيءٌ مختلفٌ " ( 213-214) .

    وقد نفى الإمام الطبري أن يكون الاختلاف في مثل ذلك مورداً من موارد النسخ ، وبيّن أنه من قبيل اختلاف الأحكام باختلاف المعاني ، الذي هو من الحكمة البالغة المفهومة عقلاً وفطرة ؛ حيث قال : " فإنَّما يجوز في الحكمين أن يقال أحدهما ناسخ إذا اتفقت معاني المحكوم فيه ثم خولف بين الأحكام فيه باختلاف الأوقات والأزمنة ؛ وأما اختلاف الأحكام باختلاف معاني المحكوم فيه في حال واحدة ووقت واحد فذلك هو الحكمة البالغة والمفهوم في العقل والفطرة ، وهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل " ( جامع البيان : 2/473) .

    وبيَّن الحافظ الحازمي- بعد ذِكْرِهِ أنَّ من شروط النسخ كون الخطاب الناسخ متراخياً - أنَّ الخطابين المختلفين المتراخيين ، إن كانا متصلين فلا يسمى نسخاً ، ، وإن كانا منفصلين : " نظرت : هل يمكن الجمع بينهما أم لا ؟ فإن أمكن الجمع جمِعَ ؛ إذ لا عبرة بالانفصال الزماني مع قطع النظر عن التنافي ؛ ومهما أمكن حمل كلام الشارع على وجهٍ يكون أعمّ للفائدة كان أولى ؛ صوناً لكلامه عن النقض ؛ ولأنَّ في ادِّعاءِ النسخ إخراج الحديث عن المعنى المفيد ، وهو على خلاف الأصل " (7).

    وقال جمال الدين الإسنوي : " إذا تعـارض دليلان ، فالعمل بهما ولو من وجه أولى من إسقاط أحدهما بالكُلِّيـَّة ؛ لأنَّ الأصل في كلِّ واحدٍ منهما ، هو الإعمال" ( التمهيد في تخريج الفروع على الأصول :506) .

    وقال ولي الله الدهلوي : " الأصل أن يعمل بكل حديث إلا أن يمتنع العمل بالجميع للتناقض ، وأنَّه ليس في الحقيقة اختلاف ، ولكن في نظرنا فقـط …" ، ثم ذكر طرائق للجمع ومنها : " أن يكون هناك علَّـة خفيـة توجب ، أو تحسِّن أحـد الفعلين في وقت ، والآخر في وقت ، أو توجب شيئـاً وقتاً وترخِّص وقتـاً ؛ فيجـب أن يُفحص عنها …" ( الحجة البالغة : 1/398) .

    هذه بعض نصوص العلماء في تقرير هذه الطريق وهذه القاعدة في فهم نصوص الشارع ، وإليها يرجع الاختلاف بين الفقهاء في جملة من مسائل السياسة الشرعية عند التنظير والتطبيق ، من حيث ترتيب سلوكها وعدمه . (Cool

    وسيتبين الموضوع أكثر في الطريق التالية : مراعاة نوع التصرف النبوي ، إن شاء الله تعالى .

    -----------------------
    (1) يبحث العلماء هذه الطريق تحت ما يعرف بـ( الجمع بين الأدلة ) ؛ و يذكرها آخرون في : مباحث الترجيح ، و مباحث النسخ ، وما يتعلق بذلك في علمي الأصول ، ومصطلح الحديث ، كما يتعرضون لها عند الجمع بين الأدلة في مسألة فقهية متفرعة عن هذه الطريق .

    (2) ينظر : الموافقات ، للشاطبي : 5/59

    (3) إرشاد الفحول : 2/ 381-382 . و ينظر : المحصول ، للرازي [ مع شرحه : نفائس الأصول في شرح المحصول ، للقرافي ] : 8/3846 .

    (4) أضواء البيان : 3/242 ، (الحج : 27)

    (5) الإشارة في أصول الفقه أبو الوليد سليمان بن خلـف الباجي (ت/450) :251 ، ط2-1418 ، ت/ عادل أحمد عبد الموجود و علي محمد عوض ، مكتبة نزار مصطفى الباز : مكة المكرَّمة . وهذا مقيَّـد بالنسبة للحاكم في إدارة الأمـور العامـة بالمصلحة ، كما هو معروف في قاعدة : " تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة " . ينظر : الأشباه والنظائر ، للسيوطي : 233 ؛ والمنثور في القواعد ، للزركشي : 1/309

    (6) اختلاف الحديث ، ملحق بآخر كتاب " الأم " : 9/541 ، 551 ، ط1-1413 ، بتخريج وتعليق/ محمود مطرجي ، دار الكتب العلمية : بيروت .

    (7) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار ، للحازمي : 54 .

    (Cool ينظر مزيداً من بحث هذه المسألة - إضافة إلى المصادر السابقة - عدداً من الكتب ، من مثل : المستصفى ، للغزالي : 2/476 وما بعدها ؛ ونفائس الأصول ، للقرافي : 8/3846 وما بعدها ؛ و شرح الكوكب المنير ، لابن النجَّار : 4/609 ؛ والذخيرة ، للقرافي : 1/135 ؛ وتيسير التحرير ، لأمير باد شاه : 3/137 ؛ وإعلام الموقعين ، لابن القيم : 2/338 ، 349، وذكر ضمن ذلك أمثلة للجمع بين الأدلة ؛ وقواعد التفسير جمعاً ودراسة ، د. خالد بن عثمان السبت : 2/698، ط1-1417، دار ابن عفان : الخبر ، السعودية ؛ وجميع ما كتب في اختلاف الحديث ، ومن أواخر ما كتب في ذلك كتاب : مختلف الحديث بين الفقهاء والمحدثين ، د.نافذ حسين حمّاد ، ط1-1414 ، الوفاء للطباعة والنشر : المنصورة . وفيه جمع حسن وبيان لقاعدة الجمع ، وبيان لشروطه ، وأنواعه من مثل : الجمع ببيان اختلاف مدلولي اللفظ والحال والمحل والأمر والنهي ، والعام والخاص بأقسامه والمطلق والمقيد
    يتبع
    ادهم الشرقاوى
    ادهم الشرقاوى
    عضو ماسي
    عضو ماسي


    ذكر

    الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية - صفحة 2 Empty رد: الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية

    مُساهمة من طرف ادهم الشرقاوى الخميس سبتمبر 04, 2008 4:56 pm

    أسس السياسة الشرعية (9) : مراعاة العرف


    د. سعد العتيبي | 20/11/1427


    قاعدة : مراعاة العرف .

    والمراد به العرف الصحيح ، وهو : ما تعارفه أكثر الناس ( وهذا قيد يخرج العادات الخاصة ) من قول أو فعل اعتبره الشرع ؛ أو أرسله ، مما شأنه التَّغَيُّر والتَّبَدّل .
    وهذا القيد يخرج العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها ، كالأمر بإزالة النجاسات ، وستر العورات ؛ لأنَّها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع بخصوصها ، فلا تبديل لها ، ولو اختلفت فيها آراء المكلفين ، كما لو تعارف الناس على كشف العورات ، كما يقول الشاطبي ، أو الاختلاء المحرم أو غيره .

    ومجال إعمال العرف ما يلي :
    1) الحالات التي أحال الشارع فيها على العمل بالعرف .
    ومن أمثلته : إحالة الشارع إلى العرف في مقادير الإنفاق ، كما سيأتي في إثبات حجية العرف إن شاء الله تعالى .

    2) تفسير النصوص التي وردت في الشريعة مطلقة ، مما لا ضابط له فيها ولا في اللغة .
    ومن أمثلته : تحديد ما يكون حرزاً في السرقة ؛ وما يكون به إحياء الموات .
    قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله : " كل اسم ليس له حدٌّ في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف " .
    وقال السيوطي : " قال الفقهاء : كلّ ما ورد به الشرع مطلقاً ، ولا ضابط له فيه ، ولا في اللغة ، يرجع فيه إلى
    العرف " .

    3) الأعراف التي تكون أسباباً لأحكام شرعية تترتب عليها ، أو بعبارة أخرى : التي هي مناط لأحكام شرعيَّة ، مما لم تأمر به الشريعة على نحو معين ، ولم تنه عنه ، وتُلحظ فيه المصلحة تبعاً لذلك . وهذه لها صور ، منها :
    - الأعراف التي تكشـف عن مرادات المكفين فيما يصدر منهم من أقوال وتصرفات ؛ ويدخل فيها صيغ العقود والفسوخ ، من بيوع و إجارات وإقرارات وأيمان ووصايا وشروط في عقود ، ومعاهدات ومواثيق دولية ، وغيرها .

    - الأعراف التي تكشف عن العلل والحكم التي تترتّب عليها الأحكام الشرعية ، أو انتهائها . وسيأتي بيان لها إن شاء الله تعالى في مجالات السياسة الشرعية .

    - الأعراف التي تكشف عن الصفات الشرعية ، أو صفات المحال التي تتعلق بها الأحكام ، كالكشف عن مالية المعقود عليه ، وما يعتبر عيباً في المبيع ، وما يتحقق به خيار الرؤية ؛ والكشف عما تتحقق به صفة الضرورة أو الحاجة ؛ والكشف عما أجمله الشارع من الجرائم الموجبة للتعزير كألفاظ الشتم من غيرها ، وما يقع به التعزير الرادع ، وغير ذلك .
    هذا مجملٌ لمجالاتِ إعمالِ العرف شرعاً .

    و ضابطه : " كل فعل رُتِّب عليه الحكم ، ولا ضابط له في الشرع ولا في اللغة ؛ كإحياء الموات ، والحرز في السرقة ، والأكل من بيت الصديق ، وما يعد قبضاً ، وإيداعاً ، وإعطاء ، وهدية ، وغصباً ، والمعروف في المعاشرة ، وانتفاع المستأجر بما جرت به العادة ، وأمثال هذه كثيرة لا تنحصر " .

    شروط اعتبار العرف :
    نص العلماء على شروط لا بد منها في اعتبار العرف طريقا صحيحا للاستدلال ، وهي :
    1) أن لا يخالف نصاً أو قاعدة شرعية .

    2) أن يكون موجوداً عند إنشاء التصرف .

    3) أن يكون مطرداً ، أي : مستمراً في جميع حوادثه ؛ أو غالباً، أي : في أكثرها ؛ والمراد : اطِّراد أو غلبة العوائد المتجددة في كل زمان وفي كل مكان .

    4) أن لا يُصَرِّح المتعاقدان بخلافه إن كان ثمّ عقد .

    حجية الأخذ بالعرف واعتباره .
    استُدِلَّ لحجية العرف بأدلة كثيرة ، يكفي منها في إثبات اعتباره : إحالة الآيات والأحاديث الأحكام المطلقة إليه لتحديدها به ، من مثل :

    1) قول الله عز وجل : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [ البقرة233] ؛ إذ أرجع الله سبحانه وتعالى تقدير نفقة المرضع إلى العرف غنىً وفقراً .

    2) وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهند بنت عتبة رضي الله عنها : (( خُذِي مَا يَكْفِيكِ َوَولَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ )) رواه الشيخان ؛ حيث أحال في نفقة الزوج والولد إلى العرف .

    ثم هو معتبر في الجملة في جميع المذاهب ؛ وهو معنى قول العلماء : إنَّ العادة محكمة .

    فالعرف قاعدة تطبيقيّة مهمّة ، يرجع إليها في تطبيق كثير من الأحكام العملية ؛ فهو في واقع الأمر ليس دليلاً ؛ بل الدليل مستنده الذي أحال إليه ؛ فالعلماء عند اعتبارهم الأعراف وملاحظتها عند تطبيق الأحكام ، يستندون إلى أصل شرعي ودليل معتبر ؛ يؤكد ذلك أهم شروط اعتبار العرف ، وهو : أن لا يخالف نصاً شرعياً .

    ما يشترط فيمن يفتي باتباع العرف الحادث :
    لا يسوغ الإفتاء على مقتضى العرف الحادث لكلّ أحد ؛ فقد نصَّ العلماء على شروط لابد من توفّرها ، في من يتصدَّى لذلك ، أهمها ما يلي :

    1- أن يكون ممن له رأي ونظر صحيح ، ومعرفة بقواعد الشرع ، وأن يكون على علم بمدارك الفتاوى وشروطها واختلاف أحوالها ؛ وذلك حتى يُمَيِّز بين العرف الذي يجوز بناءُ الأحكام عليه وبين غيره ؛ فإنَّ المتقدمين شرطوا في المفتي : الاجتهاد ؛ وهذا مفقود في زماننا ، فلا أقلَّ من أن يُشترط فيه معرفة المسائل بشروطها وقيودها التي كثيراً ما يُسقطونها ولا يصرِّحون بها اعتماداً على فهم المتفقه كما يقول ابن عابدين .

    وقد عزى القرافي غلط كثير من الفقهاء المفتين ، إلى فقدان هذا الشرط منهم ؛ حيث قال : " فهذه قاعدة لابدَّ من ملاحظتها [ يعني تغير الأحكام بتغير الأعراف ] ؛ وبالإحاطة بها يظهر لك غلط كثير من الفقهاء المفتين ؛ فإنَّهم يُجرون المسطورات في كتب أئمتهم على أهل الأمصار في سائر الأعصار ، و ذلك خلاف الإجماع ، وهم عصاة ، آثمون عند الله تعالى ، غير معذورين بالجهل ؛ لدخولهم في الفتوى وليسوا أهلاً لها ، ولا عالمين بمدارك الفتاوى وشروطها واختلاف أحوالها " .

    2- أن يكون عارفاً بوقائع أهل الزمان ، مدركاً أحوال أهله . فلابد له من معرفة عرف زمانه ، وأحوال أهله ، والتخرّج في ذلك على أستاذ ماهر ؛ يقول ابن عابدين مبينا ذلك : " لو أنَّ الرجل حفظ جميع كتب أصحابنا لابد أن يتّلمذ للفتوى حتى يهتدى إليه ؛ لأنَّ كثيراً من المسائل يجاب عنه على عادات أهل الزمان فيما لا يخالف الشريعة . والتحقيق أنَّ المفتي لابد له من ضرب اجتهاد ومعرفة بأحوال الناس " .

    و هذه القاعدة من القواعد التي زادت أهميتها في هذا العصر ؛ حيث تَعَدُّدُ الأقاليم الإسلامية ، و تناثر الجاليات المسلمة في غيرها ؛ مما ينبغي معه تقييد الفتاوى بأعراف المستفتين زماناً ومكاناً وحالاً ؛ فقد تصل – مع انتشار وسائل الاتصال الحديثة - فتوى أهل بلد غير مقيدة به ، إلى غيره ممن لا تشملهم الفتوى ؛ فيُظنّ شمولها ؛ فيقع بذلك على من لا تشملهم الفتوى حرج ، أو توسع غير مشروع في حقهم ، كما قد يقع بذلك استغلال وتوظيف للفتاوى ، أو سُبَّة بها على أهل الإسلام ، من أهل الباطل المتربصين ، والله أعلم .

    ادهم الشرقاوى
    ادهم الشرقاوى
    عضو ماسي
    عضو ماسي


    ذكر

    الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية - صفحة 2 Empty رد: الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية

    مُساهمة من طرف ادهم الشرقاوى الخميس سبتمبر 04, 2008 5:00 pm

    أسس السياسة الشرعية (8/2): قاعدة الذرائع / فتح الذرائع .


    د. سعد بن مطر العتيبي | 7/11/1427


    ثانياً : قاعدة فتح الذرائع .
    سبق في أوَّل قاعدة الذرائع ، أنَّ الذرائع هي الوسائل ؛ وهي هنا : " الطرق التي يُسلك منها إلى الشيء ، والأمور التي تتوقف الأحكام عليها من لوازم وشروط " قاله الشيخ السعدي ؛ فالمراد فتح الذرائع المؤدية إلى جلب المصالح وتحقيق المقاصد ، التي لا تحصل إلا بها .
    فالمراد بـ" فتح الذرائع " : فعل ما لا يُتَوَصَلُ إلى المأمور إلا به ؛ و يُعبِّر عنه بعض العلماء بـ" فتح الذرائع " كالقرافي ؛ ويُعَبُّرُ عنه عند عامَّة الفقهاء بتعبيرات أشهر ، من مثل : " ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب " وَ " ما لا يتم الأمر إلا به يكون مأموراً به " وَ " ما لا يتوصل إلى المطلوب إلا به " وَ " وسيلة الواجب " وَ " مقدمة الواجب " ، وهذا الغالب عند الأصوليين وفي كتب الشروح الفقهية ؛ وقد تلقب عند الفقهاء بـ"الاحتياط " ، وغيرها .

    والمأمور يشمل ما أُمر بفعله وما أُمر بتركه ؛ " إذ الأمر هو الطلب والاستدعاء والاقتضاء ، وهذا يدخل فيه طلب الفعل وطلب الترك " ، " فلفظ الأمر عام لكن خصُّوا أحد النوعين بلفظ النهي ، فإذا قُرِن النهي بالأمر كان المراد به أحد النوعين " قالهما أبو العباس ابن تيمية .
    حكم فتح الذرائع :
    الذرائع والوسائل التي لا يتم المأمور إلا بها ، نوعان :
    فالأول : ما كان مأموراً بها بالنَّص الشرعي ؛ كالسعي إلى صلاة الجمعة ، كقول الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ؛ وكالطهارة للصلاة ، وقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ } ؛ وهذا النوع قد اجتمع على وجوبه دليلان : النَّصّ ، وقاعدة : ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . وهذا ظاهر ، لا يُحتاج إلى بيان حكمه .
    والثاني : ما كان مباحاً من حيث الأصل ، لم يرد فيه أمر مستقل من الشارع ؛ كإفراز المال ؛ لإخراج الزكاة ؛ فهذا ليس بواجب قصداً ، إنما وجب بقاعدة : ما لا يتم المأمور إلا به فهو مأمور به . وهذا النوع الذي نعنيه هنا ، وخلاصته : أنَّ وسيلة المأمور به مأمور بفتحها ؛ فالذرائع هي الوسائل ، و الأصل في الوسائل أنَّ لها أحكام المقاصد .
    قال العز بن عبد السلام : " للمصالح والمفاسد أسباب ووسائل ، وللوسائل أحكام المقاصد ؛ من الندب ، والإيجاب ، والتحريم ، والكراهة ، والإباحة " .
    وقال ابن القيم : " لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها ، كانت طرقها وأسبابها تابعةً لها معتبرةً بها ؛ فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها ، ووسائل الطاعات والقُرُبات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها ؛ فوسيلة المقصود تابعة للمقصود ، وكلاهما مقصود قصد الغايات ، وهي مقصودة قصد الوسائل " ، وقال : " القاعدة الشرعية أنَّ وجوب الوسائل تبع لوجوب المقاصد " .
    وقال ابن سعدي : " الوسائل لها أحكام المقاصد ؛ فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وما لا يتم المسنون إلا به فهو مسنون ، وطرق الحرام والمكروهات تابعة لها ، ووسيلة المباح مباح . ويتفرع عليها أنَّ : توابع الأحكام ومكمِّلاتها تابعة لها ، وهذا أصل عظيم يتضمن عدة قواعد … " .
    ونجد التصريح بفتح الذرائع في نصوص من مثل قول القاضي أبي يعلى : " إذا أمر الله تعالى عبده بفعل من الأفعال وأوجبه عليه ، وكان المأمور لا يتوصل إلى فعله إلا بفعلٍ غيره ، وجب عليه كل فعل لا يتوصل إلى فعل الواجب إلا به " .
    وقول القرافي : " اعلم أنَّ الذريعة كما يجب سدّها ، يجب فتحها وتكره وتندب وتباح ؛ فإن الذريعة هي الوسيلة ، فكما أنَّ وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة ؛ كالسعي للجمعة والحج " .
    وإنما أذكر عددا من النقول ليُعلَم أنَّ هذه القاعدة ليست غائبة عن فقهائنا .

    حجية فتح الذرائع :
    مما استُدِلّ به على حجية فتح الذرائع ما يلي :
    1- قول الله عز وجل : {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } ، ففيه اعتبار الشارع للوسائل ؛ وهذا يدل على حسن الوسائل الحسنة ، وفيه تنبيه على اعتبار الوسائل ، حيث اعتبر أعمال المجاهد في سبيل الله من حين يخرج من محله إلى أن يرجع إلى مقرِّه وهو في عبادة ، لأنَّ هذه الأعمال ووسائل لهذه العبادة ومتممات لها .
    2- قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( ... وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ )) رواه مسلم ؛ ووجه الدلالة منه كما في الدليل السابق .
    3- أنَّ الذرائع التي لابد منها في فعل المأمور من مقتضيات الأمر به ؛ فيكون دليلها ما أفاد الأمر من الأدلة .
    قال الجويني : " الأمر بالشيء يتضمن اقتضاء ما يفتقر المأمور به إليه في وقوعه ؛ فإذا ثبت في الشرع افتقار صحة الصلاة إلى الطهارة فالأمر بالصلاة الصحيحة يتضمن أمراً بالطهارة لا محالة ، وكذلك القول في جميع الشرائط . وظهور ذلك يغني عن تكلف دليل فيه ؛ فإن المطلوب من المخاطب إيقاع الفعل الصحيح ، والإمكان لابد منه في قاعدة التكليف ولا تَمَكُّن من إيقاع المشروط دون الشرط " .
    وقال الموفق ابن قدامة : " لكن الأصل وجب بالإيجاب قصداً ، والوسيلة وجبت بواسطة وجوب المقصود فهو واجب كيف ما كان وإن اختلفت علة إيجابهما " .
    وقال ابن سعدي : " فإذا أمر الله بشيءٍ كان أمراً به وبما لا يتم إلا به ، وكان أمراً بالإتيان بجميع شروطه : الشرعية ، والعادية ، والمعنوية والحسية ؛ إنَّ الذي شرع الأحكام عليم حكيم ، يعلم ما يترتب على عباده من لوازم وشروط ومُتَمِّمَات ؛ فالأمر بالشيءِ أمر به وبما لا يتم إلا به ، والنهي عن الشيءِ نهي عنه وعن كل ما يؤدي إليه " .
    وبهذا يتبين أنَّ فتح الذرائع مأمور به شرعاً ، مُتَقَرِّرٌ لدى العلماء ؛ فيكون طريقاً من طرق الاستدلال الصحيح ؛ قال المجد ابن تيمية : " فقول من قال : يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب ، صحيح " .

    بـل قد تكون ذريعة المحرم ووسيلته غير محرمة ؛ فتفتح ، وذلك إذا أفضت إلى مصلحة شرعية راجحة . وهذه من مستثنيات قاعدة : " للوسائل أحكام المقاصد " .
    قال أبو العباس ابن تيمية : " النهي إذا كان لسدِّ الذريعة أُبيح للمصلحة الراجحة " ، ومثَّل له بمنع التنفّل في أوقات النهي سدّاً لذريعة الشرك ؛ لئلا يفضي ذلك إلى السجود للشمس ، ومشروعية فعل ذوات الأسباب فيها ؛ حيث يحتاج إلى فعلها في هذه الأوقات ، وهو أمر يفوت فتفوت مصلحتها ، فشرعت ؛ لما فيها من المصلحة الراجحة .
    وقال القرافي : " قد تكون وسيلة المحرّم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة ؛ كالتوسل إلى فداءِ الأسرى بدفع المال للكفار ، الذي هو محرم عليهم الانتفاع به ؛ بناءً على أنهم مخاطبون بفروع الشريعة عندنا ، وكدفع مال لرجل يأكله حراماً حتى لا يـزني بامرأة ، إذا عُجِزَ عن دفعه عنها إلا بذلك ... ؛ فهذه الصور كلها : الدفعُ وسيلة إلى المعصية بأكل المال ، ومع ذلك فهو مأمور به ؛ لرجحان ما يحصل من المصلحة على هذه المفسدة " .
    وقال ابن القيم : " ما حرم للذريعة يباح للمصلحة الراجحة ، كما أباح من المزابنة العرايا ؛ للمصلحة الراجحة ، وأباح ما تدعو إليه الحاجة منها " .

    ومن تأمّل هذه النقول تبيّن له أنَّ للمسألة قيوداً وضوابط ، تجعل أمر إعمالها ، ليس إلا لمن توافرت فيه شروط الاجتهاد ، وأدرك مقاصد التشريع ، وموازين المصالح ، وقد مرّ الحديث عن قيود العمل بها ، فلا يعزب عن بالنا ذلك ، فالكلام في أحكام الشرع توقيع عن ربِّ العالمين ، لا يقبل من عابد غير فقيه ، بله متهمٍ في الدين .

    وكثير من تطبيقات قاعدة فتح الذرائع لا يتفطن له كثير من النّاس ؛ وهذا يجعلني أقدِّم مثالاً لتطبيق علمائنا لهذه القاعدة ، وهو : تعليم المرأة في المملكة العربية السعودية ، الذي لم يحرِّمه لذاته أحد من العلماء - كما يزعم بعض النَّاس - وغاية ما في الأمر أنَّ الاختلاط - في بعض البلدان - بين الجنسين كان هو السمة العامة لتعليم النساء نظاميا في تلك الحقبة التي منع فيها ، ولذلك استنكره حينها كثير من المواطنين حمية وغيرة من غير فتوى ؛ فلمَّا اتفق العلماء والولاة على ضمانات خلو التعليم من مفسدة الاختلاط وتوابعها ، مثل قلة الاحتشام وما يترتب عليه -لم يكتف العلماء بتطبيق ( قاعدة فتح الذرائع ) بالسماح بتعليم المرأة ، بل قادوا هم مؤسستها الحكومية ، وأشرف عليها مفتي الديار ورئيس القضاة حينها الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله ، فلمّا رأى النّاس ذلك اطمأنّوا إلى التعليم الحكومي وسلامته من الاختلاط وتوابعه ، فألحق كثير منهم بناته بتلك المدارس ، وانتشرت في البلاد حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن ولله الحمد والمنة .


    يتبع
    ادهم الشرقاوى
    ادهم الشرقاوى
    عضو ماسي
    عضو ماسي


    ذكر

    الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية - صفحة 2 Empty رد: الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية

    مُساهمة من طرف ادهم الشرقاوى الخميس سبتمبر 04, 2008 5:08 pm

    أسس السياسة الشرعية (8/1) : قاعدة الذرائع /سد الذرائع


    د. سعد العتيبي | 23/10/1427


    الطريق الثالث : قـاعـدة الـذرائـع

    الذرائع في اللغة : جمع ذريعة ، وهي : الوسيلة إلى الشيء ، سواءٌ كان هذا الشيء مفسدة أو مصلحة ، قولاً أو فعلاً . يقال : تذرع بذريعة : أي : توسل بوسيلة .

    أمَّا في الاصطلاح ؛ فقد عُرِّفت بتعريفات كثيرة ، تكاد تنحصر في أحد قسمي الذرائع ؛ وذلك أنَّ كثيراً من العلماء والباحثين درجوا على إطلاق الذريعة على ما يُتَوَصَّلُ به إلى محظورٍ .

    وهذا أحد قسمي قاعدة الذرائع ؛ فإنَّ الذرائع منها ما يُوصِل إلى المحذور - وهذا هو المشهور المتبادر عند ذكرها - ومنها ما يوصِل إلى المشروع ، وهذا ما يُعبِّر عنه بعض العلماء -كالقرافي - بـ" فتح الذرائع " ، واشتهر عند عامَّة الفقهاء تحت مسميات أُخرى ؛ والذريعة من حيث كونها طريقاً من طرق الاستدلال تشمل هذين القسمين .

    من هنا يمكن تعريف الذرائع بمعنىً اصطلاحي عام يشمل هذين المعنيين ؛ فيُقال : الذرائع في الاصطلاح : ما كان وسيلةً وطريقاً إلى شيءٍ آخر حلالاً كان أو حرامـاً .
    وبهذا يكون التعريف شاملاً قسمي الذرائع : ما يُسَدّ منها ، وما يفتح .

    فقاعدة الذرائع تنقسم إلى قسمين قسم يسدّ ، وهو الأشهر لأسباب منها أنّه من قواعد المنع من المحظور ، والمحظور تدفع إليه طباع كثير من الناس ، ومن ثم يكثر طرق أسماعهم له أكثر من القسم الآخر الذي هو فتح الذرائع ، ومنها استعمال مصطلحات أخرى مرادفة لفتح الذرائع على ما يأتي بيانه في قاعدة فتح الذرائع إن شاء الله تعالى .
    وبيان القسمين في قاعدتين على النحو الآتي :

    أولاً : قاعدة سد الذرائع :
    المراد بـ سد الذرائع : المنع من فعل ذرائع الممنوع ، لما تفضي إليه من الفعل المحرَّم ؛ فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة إلى المفسدة مُنع من ذلك الفعل .
    والذرائع التي تُسد وتحسم عُرِّفت بتعاريف كثيرة ، لعلَّ أقربها إلى المعنى المراد في عرف الفقهاء أنَّها : أمر غير ممنوع لنفسه ، قويت التّهمة في إفضائه إلى فعل محظور .

    حجية سد الذرائع :

    سدُّ الذرائع من طُرق الاستدلال التي تظافرت أدلة الشرع على تأييدها ، و شواهده في الشريعة أكثر من أن تحصر ؛ من ذلك ما يلي :
    1) قول الله تعالى : {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ الأنعام : 108] ؛ حيث نهى الله سبحانه وتعالى عن سب آلهة الكفار مع كونه غيظاً وحمية لله تعالى ؛ لئلا يكون ذلك ذريعة وتطرقاً إلى سب الله تعالى " وهذا كالتنبيه بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سبباً في فعل مالا يجوز " قاله بن القيم .
    2) وقول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ البقرة : 104] ؛ حيث نهى الله - عز وجل - عباده المؤمنين عن قول هذه الكلمة ( راعنا ) للنبي – صلى الله عليه وآله وسلم - مع أنَّها كلمة عربية معروفة ، معناها : أرعني سمعك ؛ وذلك لئلا تكون ذريعة لليهود إلى سبِّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فإنَّهم كانوا يخاطبون بها النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - يريدون بها السَّبَّ ، يقصدون : فاعلاً من الرعونة ، ولئلا يكون ذلك ذريعة للتشبّه باليهود في أقوالهم وخطابهم .
    3) وقول النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - : (( مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ )) ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : (( نَعَمْ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ )) متفق عليه ؛ فقد جعل النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - الرجل ساباً لأبويه إذا سبَّ سباً يَجْزِيْهِ النَّاس عليه بالسَّبِّ لهما ؛ لكونه سبباً ووسيلة إلى ذلك وإن لم يقصده .
    4) أنَّ النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - كان يكف عن قتل المنافقين ، مع كونه مصلحة لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس : إنَّ محمداً – صلى الله عليه وآله وسلم - يقتل أصحابه ؛ وقد صرح النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - بذلك عندما سأله عمر – رضي الله عنه - أن يأذن له بقتل عبد الله بن أُبي بن سلول - رأس النفاق - حيث قال : (( دَعْهُ لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ )) رواه الشيخان ؛ لأنَّ هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه وممن لم يدخل فيه وهذا النفور حرام " قاله أبو العباس ابن تيمية رحمه الله .
    وهذه بعض شواهد سد الذرائع ، وهي كثيرة ، ذكر ابنُ القيم - رحمه الله - تسعة وتسعين شاهدا لها على سبيل التمثيل ؛ ومدارها على تأكيد أنَّ : ما جَرَّ إلى الحرام وتُطُرِّق به إليه ، فهو حرام مثله .
    ومن هنا قرَّر العلامة الشاطبي - رحمه الله - أنَّ قاعدة سد الذرائع أُخِذَت من استقراءِ نصوص الشريعة استقراءً يفيد القطع ، وأنَّ الشارع يمنع من الفعل الجائز إذا كان هذا الفعل ذريعة إلى مفسدة تساوي مصلحته أو تزيد ، ثم قرر أنَّ هذا المعنى الذي أُخذ بالاستقراء من أحكام الشريعة ، يقوم مقام العموم المستفاد من الصيغة ؛ فيما يندرج تحته من الوقائع التي لم ينصّ عليها ؛ فيطبق عليها ، دون حاجة إلى دليل خاص من قياس أو غيره .
    وأما الأدلة الخاصَّة على هذه القاعدة فكثيرة أيضا ، ومنها :
    1- قول النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - : (( إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَإِنَّ بَيْنَ ذلك أُمورًا مُشْتَبِهَاتٍ – وَرُبَّما قال – وَإِنَّ بَيْنَ ذَلِكَ أُمورًا مُشْتَبِهَةً وَسأَضْرِبُ فِي ذلك مَثَلاً : إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ حَمَى حِمًى ، وَإِنَّ حِمَى اللَّه ما حَرَّمَ ، وإِنَّهُ مَنْ يَرْعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُخَالِطَ الْحِمَى – وَرُبَّمَا قَالَ – يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ وإِنَّ مَنْ خَالط الرِّيبَةَ يُوشِكُ أَنْ يَجْسُـرَ )) رواه أبو داود والنسائي وهو حديث صحيح " ؛ وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يُتْرَك ما يضارع الحرام وما يتوصل به إليه " قاله الباجي رحمه الله .
    2- أنَّ قاعدة : " سد الذرائع " ، راجعة إلى أصل اعتبار المآل الذي قامت الأدلة الشرعية على اعتباره ، وشواهدها شواهد لهذه القاعدة ، ورجوع هذه القاعدة إلى هذا الأصل كافٍ في اعتبارها والتفريع عليها .
    3- وقد حكى الاتفاق على إعمالها غيرُ واحد من العلماء ، منهم الشاطبي والقرافي ؛ بل صرح الشاطبي بأن استقراء أحكام الشريعة يدل على قطعيتها ، فقال : " سدّ الذرائع مطلوب مشروع ، وهو أصل من الأصول القطعية " .

    ضابـط " سد الذرائع " :
    الذين يُنَظِّرُون لقاعدة الذرائع لا يجيزون التوسع في سدِّها ؛ لأنَّ التوسّع فيه يؤدي إلى إيقاع الأمّة في الحرج ، وفي هذا إخلال بأصل شرعي آخر مهم هو " رفع الحرج " ؛ وعليه فلا يجوز الإفتاء بناءً على سدّ الذرائع مطلقاً مهما كانت ؛ بل لابد من تحقق مناط السدّ والمنع ، وقد نصَّ على ذلك عدد من العلماء والباحثين ، ومن نصوصهم في ذلك ، يمكن ضبط قاعدة المنع في الذرائع ، من خلال الشروط والقيود التالية :
    1- أن يؤدي الفعل المأذون فيه إلى مفسدة . فالمعوّل عليه في المنع : ما يترتّب على الفعل من المفاسد في مجرى العادة ، أو ما يقصد به في العرف ؛ وإن لم يثبت قصد خاص من الفاعل ، بل وإن ثبت القصد الحسن والنيـة الخالصة ، كما في مسألة سَبّ آلهة الكفار .
    2- أن تكون تلك المفسدة راجحة على مصلحة الفعل المأذون فيه ؛ فالفعل الذي يتضمن تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة لا يمنع – وإن كان ذريعةً إلى تفويت مصلحة أو تحصيل مفسدة من جهة أُخرى – إذا كانت المصلحة التي يجلبها الفعل راجحة على المفسدة التي تنشأ عنه ، أو كانت المفسدة التي تندفـع به ، راجحة على المصلحة التي تفوت به .
    3- أن يكون إفضاءُ الفعل المأذون فيه إلى المفسدة مقطوعاً به ، أو كثيراً غالباً بحيـث يغلب على الظن إفضاؤه إليها ؛ أو أن تتعلق المفسدة فيه بمحظور خطيرٍ ، يقتضي الاحتياطُ من المجتهد درءَ المفسدة فيه ، ولو لم يكن إفضاؤها إلى المفسدة كثيراً .
    4- أن لا يكون سد الذريعة شاملاً عاماً لكل صور المحكوم فيه وكل أحواله ؛ بل بالقدر الذي تندرىءُ فيه المفسدة ، وإذا زالت الخشية زال الحظر .

    والخلاصة : أنَّ ( سدَّ الذرائع ) طريق وقاعدة راسخة من قواعد التشريع وطرق الاستدلال الشرعي المعتبر ، إذا توافرت فيه شروط العمل به .
    ولمَّا كانت هذه القاعدة طريقاً حازماً في الحفاظ على حمى الأحكام ، و عقبة عسيرة المنفذ ، لمن رام الوصول للباطل من بوابات الشرع – تضجّر منها أهل الباطل وحاول القدح فيها المحرومون بها من ترويج الشبهات والاستمتاع بالشهوات .
    وثمة ملاحظة مهمّة تجيب على المتسائلين عن كثرة الفتوى بسدّ الذرائع وهي : أنَّه كلّما كثر الفساد في النّاس ، كلّما كثرت الفتوى بسدّ الذرائع ، وهكذا الشأن في القضايا العامة ، وأمور الولاية : كلما وسد الأمر إلى غير أهله أو إلى من يشيع بين الناس اتهامهم بالسوء ، كلّما كثرت الفتوى بسدّ الذرائع . والعكس بالعكس !
    يتبع
    ادهم الشرقاوى
    ادهم الشرقاوى
    عضو ماسي
    عضو ماسي


    ذكر

    الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية - صفحة 2 Empty رد: الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية

    مُساهمة من طرف ادهم الشرقاوى الخميس سبتمبر 04, 2008 5:10 pm

    أسس السياسة الشرعية (7) الاستحسان / 3


    سعد بن مطر العتيبي | 18/10/1427


    حجية الاستحسان :

    من خلال بيان العلماء لطريق الاستحسان على اختلافهم في تقسيمه، يتضح بجلاء أنَّ إثبات الأحكام واقع بوجوه الاستحسان لا بالاستحسان نفسه ؛ وهذا محل اتفاق كما سبق ذكره في تحرير المراد بالاستحسان ؛ فالحجيَّة إنَّما هي في ما هو معتبر من وجوهه أو أدلته .
    فالاستحسان بالنَّص (1) عند الحنفية حجَّة ، وحُجيَّته حُجيَّة النَّص نفسه ، والاستحسان بالإجماع حجَّه ، وحُجِّيَّته حجيَّة الإجماع نفسه ؛ وكذلك الاستحسان بالمصلحة والعرف والضرورة وغيرها ، من أدلة الاستحسان ووجوهه التي يذكرها العلماء ؛ فالذي يقول بهذه الأدلة أو الوجوه ، حجته فيها حجيَّة هذه الأدلَّة أو الوجوه عنده .

    قال القاضي أبو يعلى : " والحجَّة التي يُرجع إليهـا في الاستحسان ، فهي الكتاب تارة ، والسنَّة أُخرى ، والاستدلال بترجّح شَبَه بعض الأصول على بعض " ( العدة في أصول الفقه : 5/1607-1609 )
    .
    هذا إضافة إلى اعتبار الشارع له بما يعرف عند الحنفية بالاستحسان بالنص ؛ فيكون في ذلك إرشاد إلى طريق من طرق الاستدلال هو الاستحسان .

    وكذلك حجيَّة الأصل العام المقرِّرِ للاستحسان ، وهو أصل رفع الحرج ، بسبب وجوهه أو بسبب الأدلة التي يعدل بها إليه . ( ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، لشيخنا يعقوب الباحسين : 333 ) .

    وقد ذكر شيخنا يعقوب الباحسين وجهاً لدلالة أصل رفع الحرج على حجية الاستحسان ، بناه على استنتاج مفاده : أن القائلين بالاستحسان لاحظوا مجموعة من الأحكام المتشابهة ، في كونها مستثناة من قياسٍ أو أصلٍ مقررٍ عندهم أو عمومٍ ؛ فأطلقوا على كلٍّ منها اسم الاستحسان ، سواءٌ كان هذا الدليل نصَّاً ، أو إجماعاً ، أو مصلحةً ، أو عرفاً ، أو ضرورة ، أو غيرها ؛ فالاستحسان على هذا مفهوم كليّ لا وجود له إلا بوجود أفراده التي هي الأحكام المستحسَنة ، أيَّاً ما كان النوع الذي تنتمي إليه ، وهذا المفهوم الكلي عائد إلى التيسير ورفع الحرج ، وهذا المعنى مجمع عليه ، وهو ثابت في الشريعة قطعاً .
    ثم بيَّن وجه الدلالة ؛ فقال : وعليه فإنَّ الاستحسان تكمن حجيته في كونه رافعاً للحرج ، وهذا لا يصح أن يكون موضع نزاع ؛ ولكن لمَّا كان الحرج غير منضبطٍ عند الفقهاءِ لم يعلقوا الأحكام به ؛ بل لجؤوا إلى وسائل معرِّفة للحرج وكاشفة عن وجوده ، وهذه الوسائل هي الأدلة التي يعدل بها عن الأقيسة والقواعد ، المسمَّاة عندهم وجوه الاستحسان ؛ فقولهم هذا استحسان بالإجماع ، يعني أنّ الإجمـاع كشف عن وجود حرجٍ كان من الممكن أن يقع لو لم يُؤخَذ بحكم المسألة المستثناة ، وهكذا ؛ فكأنَّهم جعلوا هذه الأمور التي يتحقق بها الاستحسان ضوابط له ، وإلا فهو عائد في الغالب إلى أصل رفع الحرج الذي لا نزاع في اعتباره شرعاً ( ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، د.يعقوب الباحسين : 332-333 ) ، عند توفُّر شروطه .

    ومن أدلة حجيته من المعنى : أن غاية ما في الاستحسان انعدام حكم النظائر في مسألة جزئية ؛ لانعدام علته فيها ، وهذا لا نزاع فيه ، وليس هو تخصيصاً لنص شرعي حتى ينظر في المخصص .

    قال السرخسي : " ومن حيث المعنى ، هو قولٌ بانعدام الحكم عند انعدام العلَّة ، وأحد لا يخالف هذا ؛ فإنَّا إذا جوزنا دخول الحمَّام (2) بأجرٍ بطريق الاستحسان ، فإنّما تركنا القول بالفساد الذي يوجبه القياس ؛ لانعدام علّة الفساد ، وهو أنَّ فساد العقد بسبب جهالة المعقود عليه ليس لعين الجهالة ، بل لأنَّها تفضي إلى منازعة مانعة عن التسليم والتسلم ، وهذا لا يوجد هنا ، وفي نظائره ؛ فكان انعدام الحكم لانعدام العلَّة ، لا أن يكون بتخصيص العلّة "( أصول السرخسي : 207-208) .

    فالاستحسان في حقيقته : منع إدراج بعض الفروع فيما يظنُّ اندراجها فيـه من الكليات والقواعد العامّة ؛ لدلالة تترجّح عند الموازنة بين الأدلة مع اعتبار مقاصد الشرع وعلله وجوداً وعدماً ؛ وهي علامة فقه الفقيه ، لذلك وصفه الإمام مالك بأنه تسعة أعشار العلم ( ينظر : الاعتصام ، للشاطبي : 1/138 ) ؛ لخفائه على من لم يتأنَّ من الفقهاء ، ولأثره في بيان حكم المسائل التطبيقية ، من حيث هو نتيجة من نتائج الاجتهاد في تحقيق المناط فيها .

    والخلاصة : أن حجية الاستحسان بالمفهوم الأصولي محلّ اتفاق بين العلماء .
    وعلى هذا فما وقع من اختلاف معتبر ، ظنّه بعض أهل العلم في حجية الاستحسان ، إنَّما هو في صحة وجهة الاستحسان ، أو اعتبار مستنده ، لا في صحة الاستدلال به ؛ واعتبارُ المستند أو عدم اعتباره راجع إلى ما يعتمده المجتهد من الأصول وما لا يعتمده ؛ لا إلى اختلافٍ في اعتبار الاستحسان طريقاً من طرائق الاجتهاد والاستدلال . ومن هنا وقع الاختلاف بين تعاريف الاستحسان عند المُنَظِّرِين له .

    تتمات :
    من الأمور التي توضّح الاستحسان : التفريق بينه وبين القياس ، ويمكن تلخيص الفرق بينهما ، بأنَّ الاستحسان عكس القياس ؛ فالقياس إلحاق بالنظائر ، والاستحسان قطع عن النظائر . ينظر : الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ، د. محمد فوزي فيض الله : 65، ط1-1404، مكتبة دار التراث : الكويت ؛ ونفائس الأصول في شرح المحصول ، للقرافي: 9/4279 .

    وأمَّا الفرق بين تخصيص العلَّة والاستحسان ؛ فمن العلماء من فرَّق بينهما ، كالسرخسي ؛ حيث ذكر أنَّ الاستحسان ينعدم فيه الحكم في الفرع المستثنى ؛ لانعدام العلَّة فيه . أما في تخصيص العلّة فإنَّ العلَّة لا تنعدِم بل تبقى في الفرع المستثنى ، لكن يدعي المستدل وجود مانع يمنع من ثبوت الحكم في الفرع ، لأجلها . ( ينظر : أصول السرخسي : 2/204-207-208 ؛ ومن العلماء من لم يفرق بينهما ، وهو الذي يفهم من كلام أبي العباس ابن تيمية ، في رسالته : قاعدة في الاستحسان : 62 وما بعدها . و ينظر : تخصيص العلَّة الشرعية ، د. عياض بن نامي السلمي ، بحث منشور في مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، العدد (20) ، رمضان ، 1418: 34- 36 ) .


    ----------
    (1) الاستحسان بالنَّصِّ .
    ويدخل تحته جميع الصور التي استثناها الشارع من عموم نظائرها ؛ بنصٍّ من الكتاب أو السنَّة ؛ وقد يكون بسبب الضرورة أو الحاجة أو غيرها من الأمور التي تعود إلى فروعٍ أُخر من الاستحسان ، لم تلحق بها ؛ لأنَّ ثبوتها هنا جاء عن طريق التنصيص الشرعي ، وفي تلك الفروع جاء عن طريق الاجتهاد .
    مثاله من الكتاب : تشريع صلاة الخوف على الصفات التي وردت بها ؛ إذ القياس في الصلاة أن تؤدَّى الرباعيَّة في أوقاتها المحَّددة أربع ركعات ، في كلِّ ركعةٍ ركوعٌ و سجودان ، بشروطها وأركانها التي بيَّنها النبي _صلى الله عليه وسلم_ ؛ غير أنَّ حالة الخوف استثنيت من ذلك بقول الله _تعالى_ : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً * وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } [النساء :101-102] ؛ حيث قُلِّلَ عددُ ركعاتِهـا ، وبُدِّلَتْ كيفيتُها ، إلى حالة تُمكِّنُ المسلمين من أدائها مع المحافظة على موقفهم من العدو ؛ تخفيفاً على المسلمين ، ورفعاً للضيق والحرج عنهم بالمحافظة على الدماءِ والأرواح مع مدافعة العدو ، ودرءاً لضرر انتصاره عليهم بانتهازه فرصة انشغالهم في صلاتهم .
    ومثاله من السنَّة : بيع السَّلم ؛ فالقياس أو القاعدة العامة عدم جواز بيع المعدوم ؛ لقول النبي _صلى الله عليه وسلم_ : (( لا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ )) ؛ غير أنَّ السَّلَم وهو من بيع الإنسان لما ليس عنده ، قد رُخِّصَ فيه ؛ بقول النبي _صلى الله عليه وسلم_ : (( مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ )) ؛ وذلك لحـاجة الناس إليه .
    وهذا النَّوع لا ينكره أحد ، وإنَّما نُوزع في تسميته استحساناً .
    (2) (الحمّـام : بناء على هيئة خاصة ، يغتسل فيه بماء محمّى ؛ تنظيفاً وترفّهاً واستشفاءً . عربـي مذكّر باتفاق أهل اللغة ؛ ويسمى : الديمـاس ، والكن ؛ معروف عند السابقين ، ولهم به مزيد عناية ، ولا زال موجوداً في عدد من البلاد ، كالشام ، والعراق ، وغيرهـا . و يقـال : أصـل اشتقاقـه من الحميم ، وهو الماء الحارّ المستعمل فيه ؛ أو لأنَّه يُعرق ، و لذا يقال لمن يخرج من الحمّام : طاب حَمِيُمك وحِمَّتُك ، أي : طاب عرقك .
    ينظر : تحرير التنبيه ، للنووي : 67 ؛ والوقوف على مهمات التعاريف ، للمناوي : باب الباء ، فصل الميم ؛ والكليـات ، للكفوي :404 ؛ وينظر في فوائده : النزهة الزهيَّـة في أحكام الحمام الشرعيـة والطبيَّة ، للمناوي : 17 ، ط1-1408، ت/د. عبد الحميد صالح حمدان ، الدار المصريـة اللبنانية : القاهرة . وهو شبيه في فوائده ومنكراته ، بما يعرف - اليوم - بـ( حمَّامات السونا ) .
    يتبع
    ادهم الشرقاوى
    ادهم الشرقاوى
    عضو ماسي
    عضو ماسي


    ذكر

    الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية - صفحة 2 Empty رد: الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية

    مُساهمة من طرف ادهم الشرقاوى الخميس سبتمبر 04, 2008 5:12 pm

    أسس السياسة الشرعية (6) الاستحسان / 2


    د.سعد بن مطر العتيبي | 9/10/1427


    أنـواع الاستحسان .

    بالنظر في تعاريف الاستحسان ، وتتبع نماذج الوقائـع التي يُمَثَّل له بها العلماء ، واستقراءِ جملة الأحكام التي استنبطها الفقهاءُ عن طريقه مـع ذكر مستنده - لا تكاد تخرج أنواعه من جهة مستنده - أي : دليله أو ما يعبر عنه في كتب الفقه بـ: وجه الاستحسان - عن نوعين :

    الأول : العدول عن موجب القياس إلى قياسٍ أقوى منه ، أو الاستحسان بالقياس.
    وحقيقته : تردد الفرع - في نظر المجتهد - بين أصلين ، له شبه بكلٍ منهما ؛ وإلحاقه بأقربهما شبها له ، وهذا لا يدرك إلا بعد التأمُّـل .
    ويتضح ذلك في المسألة التي تَعْرِض للمجتهد وتكون محلاً للقياس ، ويكون لها شبه بأصلين ثبت لكلٍ منهما حكم شرعيٌّ ؛ غير أنَّ أحد الشبهين أقرب في تبادره إلى ذهن المجتهد من الآخر، والآخر أدعى إلى الميل إليه ، لكونه أدنى إلى تحقيق المصلحة ؛ فَيَعْدِل المجتهدُ عن الشَّبَه في الأصل المتبادر، ويُرَجِّح إلحاقَ المسألة بالأصل الذي دَقَّت فيه العِلّة ؛ لقوته وتَحَقُّقِ المصلحة فيه ، وخُلُوِّ الأصل الذي تبادر شَبَهُه عن ذلك . فهذا العدول والإلحاق يُعَدَّ في عرف الأصوليين نوعاً من أنواع الاستحسان ؛ والدليلُ الذي اقتضى هذا العدول يسمَّى وجه الاستحسان ، أي : سنده ؛ والحكم الثابت بالاستحسان هو الحكم المُسْتَحْسَن ، أي : الثابت على خلاف القياس الجليّ .
    ويُمثِّل له علماء الأصول : بإدخال حقوق الارتفاق (1) في الأرض الزراعية ، في حال وقفها ، ولو لم ينصّ الواقف على ذلك ؛ مع عدم إدخالها في عقد البيع ما لم يُنَصّ على إدخالها فيه . فقد جاء عند الحنفية في هذه المسألة قولهم : القياس عدم دخولها ، والاستحسان دخولها (2)

    الثاني : استثناء مسألة جزئية من أصل كلي ، لدليل يقتضي ذلك الاستثناء (3)
    بيانـه : إذا عرضت للمجتهد مسألة تندرج تحت قاعدة عامَّة أو يتناولها أصلٌ كليٌّ ، و وجد المجتهد دليلاً خاصَّاً يقتضي استثناء هذه الجزئية من الأصل الكلي ، والعدول بها عن الحكم الثابت لنظائرها إلى حكم آخر ؛ للدليل الخاص الذي ظهر له ؛ فإنَّ هذا العدول الاستثنائي يعبَّر عنه بـ " الاستحسان " ، والدليل الذي اقتضاه هو : وجه الاستحسان ، والحكم الثابت به هو : الحكم المستحسن ، أي : الثابت على خلاف القياس ، والقياس هنا يراد به الأصل الكلي أو القاعدة العامَّة .
    ويندرج تحت هذا النوع عدَّة فـروع ، منها :

    الفرع الأول : الاستحسان بالإجماع .
    وعرِّف بأنَّه : " انعقاد الإجماع الصريح أو السكوتي على حكم في مسألة ، يخالف قياساً أو قاعدة عامَّة " ( الاستحسان بين النظرية والتطبيق ، للشيخ د.شعبان إسماعيل :78 ) .
    ويتحقق هذا النَّوع بإفتاءِ المجتهدين في حادثة ما ، على خلاف القياس أو الأصل العام أو القاعدة المقرَّرة في أمثالها ، أو بسكوتهم وعدم إنكارهم ما يفعله النَّاس ، إذا كان فعلهم مخالفاً للقياس أو الأصل المقرَّر .
    مثالـه : الإجماع على جواز عقد الاستصناع (4) ؛ مع أنَّ مقتضى القياس عدم جوازه ؛ فإنّ المعقود عليه معدوم حال العقد ؛ وبيع المعدوم ممنوع بنص الحديث السابق ؛ لكن استثنى الفقهاءُ هذا العقد من حكم نظائره ؛ لجريان التعامل به من غير نكير من أهل العلم ، وتقريرهم على ذلك إجماع عمليٌّ (ينظر : تيسير التحرير ، لأمير بادشاه : 4/78 ) .
    قال السرخسي : " تركنا القياس ؛ للإجماع على التعامل به فيما بين الناس من لدن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ إلى يومنا هذا ، وهذا ؛ لأنَّ القياس فيه احتمال الخطأ والغلط ، فبالنَّص أو الإجماع يتعين فيه جهة الخطأ فيه ، فيكون [ أي: القياس ] واجب الترك لا جائز العمل به في الموضع الذي تعين جهة الخطأ فيه " ( أصول السرخسي : 2/203).
    الفرع الثاني : الاستحسان بالضرورة .
    ويتحقق هذا النوع في كل جزئية يكون الأخذ بها وفق الأصل العام أو القواعد المقررة أو القياس أمراً متعذِّراً ، أو ممكناً لكنه يلحق بالمكلَّف مشقة وعسراً شديدين ؛ فيعدل بها عن مثل ما يحكم به في نظائرها استحساناً ؛ رفعاً لهذا الحرج ، ودفعاً لهذه الضرورة (5)
    مثالـه : ما سبق من أنَّ المرأة كُلَّها عورة ؛ لكن أبيح للطبيب النظر إلى ما تدعو الضرورة إلى النَّظر إليه منها ، وذلك استحساناً ؛ لأجل الضرورة ؛ فيكون أرفق بالنَّاس . ( المبسوط ، لشمس الدِّين السرخسي :10/ 145. ويراجع ما مر في الحلقة الثانية من بيان ) .
    وهكذا بقية أقسام الاستحسان كالاستحسان بقاعدة الذرائع ، وسنة الخلفاء الراشدين ، وغيرها ، فإنَّها راجعة في التقسيم إلى ما يعتمده المجتهد من الأدلَّة(6) .
    وأما ما يعرف عند الحنفية بالاستحسان بالنص ، فقد استبعد من التقسيم لأنه عند التحقيق عمل بمقتضى النص ذاته ، فالحجة فيه النصُّ دون حاجة إلى طريق الاستدلال ، وإنَّما اعتبره الحنفية لأنهم لمحوا في هذا النوع - عندهم – كون النصوص فيه جاءت على نحو يشبه الاستثناء من جملة النصوص في الباب ، مقصودا بها رفع الحرج .
    وهذا النَّوع المعروف عند الحنفية بـ ( الاستحسان بالنص ) لا ينكره أحد ، وإنَّما نُوزع في تسميته استحساناً .
    ومع أن هذا النوع من الاستحسان من مدلولات الاستحسان عند الحنفية دون غيرهم وهو اصطلاح خاص بهم ولا مشاحَّة في الاصطلاح إذا علم المراد ، إلا أن الجمهور أفادوا منه في بيان سنن الشارع في تشريع المستثنيات واستدلوا به على حجية الاستحسان ببقية الأدلة والاستدلالات ؛ ومن هنا أدرجه المنظِّرون للاستحسان في أنواعه ؛ تعزيزاً لصحة الاستدلال به طريقاً من طرق الاجتهاد ؛ من حيث جريانه على منهج تشريعي ، يقضي باستثناءِ بعض الفروع من أحكام نظائرها ؛ رفعاً للحرج ودفعاً للضرر ؛ وعليه فيكون محلُّه من البحث الأصولي في مسألة حجية الاستحسان ، لا في أنواعه ، ولا عند بيان المراد به .

    يتمم في الحلقة القادمة ، مع البدء في الحديث عن قاعدة الذرائع إن شاء الله تعالى .

    ---------------------

    (1) مرافق الأرض : ما يرتفق به : أي يُنْتَفَعُ به ؛ وهي : حق مقرَّر على عقار ؛ لمنفعة عقار آخر ، دون نظر إلى مالكه ؛ كحق المرور ، الذي هو : حق الإنسان في الوصول إلى ملكه بالمرور في طريق عام أو طريق خاص . وحق المسيل ، الذي هو : حق صرف الماء الزائد عن الحاجة أو غير الصالح ، بإرساله في مجرى على سطح الأرض أو في أنابيب حتى يصل مستقرّه (الصرف) . وحق الشِّرب - بالكسر- و هو : النصيب المستحق من الماء ، أو نوبة الانتفاع بالماء لسقي الشجر والزرع ؛ ويلحق به : حق الشُّرب ، بضم الشين أو حق الشَّفه ، الذي يراد به : حق الإنسان والدَّواب في الشرب من الماء ، والاستغلال المنزلي على وجه العموم .
    فائدة : ذكر الشيخ عبد الكريم زيدان أنَّ تسمية هذه الحقوق بـ " حقوق الارتفاق " ، تسمية حادثة ، أطلقها صاحب مرشد الحيران قدري باشا .
    (2) وبيان هذه ذلك : أنَّ لهذه المسألة شبهان :
    - شبه بالبيع بجامع الخروج من الملك في كلٍ - من ملك البائع بالبيع ، ومن ملك الواقف بالوقف - وهو القياس الظاهر المتبادر ؛ ومقتضى ذلك عدم دخول الحقوق الارتفاقية ما لم ينصّ الواقف على ذلك ؛ كالبيع .
    - وشبه بالإجارة بجامع ملك الانتفاع بالعين – إذ الوقف يفيد ملك الانتفاع بالعين الموقوفة بالنسبة للموقوف عليه ، و الإجارة تفيد ملك الانتفاع بالعين المؤجَّرة بالنسبة للمستأجر ، وذلك مع عدم ملكهما للعين المؤجَّرة أو الموقوفة - ؛ ومقتضى ذلك دخولها في الوقف ولو لم ينص الواقف عليه ؛ فقد رآى هؤلاء أنَّ هذا الشبه يصلح علَّة لإلحاق الوقف بالإجارة ، مع كونه قياساً خفيَّاً لا يتبادر إلى الذهن كسابقه ؛ بل يحتاج إلى مزيد تأمُّل وتعمُّق في تصور المسألة بجميع جوانبها ؛ ومع خفائه إلا أنَّهم رجحوه ؛ لقوته وتحقق المصلحة به ؛ لأنَّ الغرض من وقف الأرض الزراعية انتفاع الموقوف عليه بها ، وهذا لا يتحقق إلا بانضمام الحقوق الارتفاقية إلى الأرض في الوقف ، كما أنَّ المستأجر لا يتحقق غرضه من الاستئجار إلا بذلك .
    فالاستحسان هنا ترجيح المجتهد للقياس الخفيّ على القياس الجلي ؛ ووجهه وسنده : أنَّ القياس الخفي هنا أقوى تأثيراً في الحكم من القياس الجلي ؛ لأنَّ المقصود بالوقف الانتفاع من الموقوف لا تَمَلّك عينه ، وحيث إنَّ الانتفاع لا يَتَأَتَّى بدون الحقوق الارتفاقية ؛ فيلزم دخولها في الوقف تبعاً ، كما هو الحكم في الإجارة .
    (3) والقسم الأول داخل في القسم الثاني ؛ لأنه استثناء من القياس الظاهر ، وإنما أُفرد ؛ لأهميته بالنسبة للفقه الحنفي . ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، لشيخنا د. يعقوب الباحسين : 296 .
    (4) الاستصناع : طلب الصنع وسؤالـه . وصورة المراد به : أن يقول شخص لآخر من أهل الصنائع : اعمل لي خفاً أو آنية من أديم أو نحاس – أو غيرها – من عندك ، بثمن كذا ، ويبين نوع ما يعمل ، وقدره وصفته ؛ فيجيبه الصانع بأن يفعل له ما طلب .
    (5) الضرورة هي : هي الحالة التي تطرأ على الإنسان بحيث لو لم تراع لجُزِم أو خِيْفَ أن تضيع مصالحه الضرورية ؛ التي لابد منها في حفظ الأمور الخمسة . ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، ليعقوب الباحسين : 438 ففيه بحث قيم جدا في بيان معنى الضرورة.
    (6) ينظر : المنخول ، للغزّالي : 478-479 ؛ وأصول السرخسي : 2/200 وما بعدها ؛ والاعتصام ، للشاطبي : 2/ 139 وما بعدها ؛ وتعليل الأحكام ، د.محمد شلبي :354 وما بعدها ؛ ورفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، لشيخنا د. يعقوب الباحسين : 315 وما بعدها ؛ والاستحسان بين النظرية والتطبيق ، د. شعبان محمد إسماعيل : 75 وما بعدها ؛ والمصادر السابقة .

    يتبع
    ادهم الشرقاوى
    ادهم الشرقاوى
    عضو ماسي
    عضو ماسي


    ذكر

    الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية - صفحة 2 Empty رد: الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية

    مُساهمة من طرف ادهم الشرقاوى الخميس سبتمبر 04, 2008 5:20 pm

    أسس السياسة الشرعية (5) الاستحسان / 1


    د. سعد بن مطر العتيبي | 26/9/1427


    الطريق الثانية : الاستـحســان
    ومن أهم أسس السياسة الشرعية أيضا : الاستـحســان .
    والاستحسان في اللغة : عدُّ الشيءِ حسناً ؛ قاله في القاموس ؛ والحَسَنُ : ضد القبيح ، وهو : عبارة عن كلِّ مُبْهِجٍ مرغوبٍ فيه .
    وأمَّا في اصطلاح الأصوليين فقد عُرِّف الاستحسان بتعاريف عدَّة وفسِّر بتفاسير مختلفةٍ ، يوهم اختلافها الاختلاف في
    صحة الاستدلال بالاستحسان ؛ غير أنها عند التأمل والتحقيق ، لا تُسَلَّمُ سبباً لما تُوهِمُهُ ؛ حيث يتضح أنَّ النزاع المُتَنَاقل فيها ، لا يعدو كونه لفظياً ، أدَّى إليه عدمُ تحرير المحلّ ، أو فهمه على غير ما قُصد به ، كما نبَّه إليه و نصَّ عليه غيرُ واحد من العلماء (1) ؛ يُجَلِّي ذلك تحرير المسألة ؛ وذلك أنَّ كلام العلماء في الاستحسان لا يكاد يخرج عن معنيين :
    الأول : الاستحسان بمعنى : ما يستحسنه الإنسان بعقله ، أو تشتهيه نفسُه ، من غير مستند شرعي معتبر ؛ وهذا باطلُُ بالإجماع (1)

    والثـاني : الاستحسان الأصولي ، المبنيُّ على مستند من الشرع معتبرٍ ؛ فهذا الذي يعنيه العلماءُ عند التعليل به .
    وقد نصَّ غيرُ واحد من العلماءِ على أنَّ هذا مما لا ينكره أحد .
    و من أجود ما عرف به الاستحسان الأصولي ، أنَّه : العدول بحكم المسألة عن حكم نظائرها ؛ لدليلٍ شرعيٍّ خاصٍّ بتلك المسألة .
    وعرَّفه شيخنا يعقوب الباحسين مبينا حكمته ، بأنَّه : " العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه ، لوجه يقتضي التخفيف ، ويكشف عن وجود حرج عند إلحاق تلك الجزئية بنظائرها في الحكم " (3) .

    ومن هنا يتضح أن الاستحسان هو في حقيقة الأمر استثناء بوجه شرعيٍّ .
    فالعدول ، هو : الاستثناء . والوجه المقتضي ، هو : الدليل الأقوى .
    فالاستحسان ، يعني الاستثناء من أصل المنع غالباً ؛ فيقضي بالإباحة ، أو من الواجب يرفعه أو يرخِّص فيه (4) ؛ كلُّ ذلك بناءً على المستند الأقوى ؛ لا على الرأي المجرَّد ، ولا على أمر خفيٍّ لا يمكن التعبير عنه ؛ " لأنّ المجتهد ليس له الاستناد إلى مجرَّد عقله في تحسين شيءٍ ، وما لم يعبِّر عنه لا يمكن الحكم له بالقبول حتَّى يظهر" (5) ؛ والمستند الأقوى ينتظم أوجهاً متعدِّدة ، حرص الأصوليون على إبرازها ؛ دفعاً لتوهم قيام الاستحسان على غير مستند شرعي ؛ حيث يُعَدِّدُون هذه الأوجه ، ويُنَوِّعُون الاستحسان بالنَّظر إليها .

    فإذا عرضت للمجتهد مسألة تندرج تحت قاعدة عامَّة أو يتناولها أصلٌ كليٌّ ، و وجد المجتهد دليلاً خاصَّاً يقتضي استثناء هذه الجزئية من الأصل الكلي ، والعدول بها عن الحكم الثابت لنظائرها إلى حكم آخر ؛ للدليل الخاص الذي ظهر له ؛ فإنَّ هذا العدول الاستثنائي يعبَّر عنه بـ " الاستحسان " ، والدليل الذي اقتضاه هو : وجه الاستحسان ، والحكم الثابت به هو : الحكم المستحسن ، أي : الثابت على خلاف القياس ، والقياس هنا يراد به الأصل الكلي أو القاعدة العامَّة
    (6)
    ومن أمثلتهِ : الاستحسانُ بقاعدة الضرورة ، ويتحقق هذا النوع في كل جزئية يكون الأخذ بها وفق الأصل العام أو القواعد المقررة أو القياس أمرا متعذِّراً ، أو ممكناً لكنه يلحق بالمكلَّف مشقة وعسراً شديدين ؛ فيعدل بها عن مثل ما يحكم به في نظائرها استحساناً ؛ رفعاً لهذا الحرج ، ودفعاً لهذه الضرورة ؛ والضرورة هي : هي الحالة التي تطرأ على الإنسان بحيث لو لم تراع لجُزِم أو خِيْفَ أن تضيع مصالحه الضرورية ؛ التي لابد منها في حفظ الأمور الخمسة . ذكره شيخنا يعقوب الباحسين .

    ومثّل له بعض أهل الأصول بقولهم : الأصل أنَّ المرأة كُلَّها عورة ؛ لكن أبيح للطبيب النظر إلى ما تدعو الضرورة إلى النَّظر إليه منها ، وذلك استحساناً ؛ لأجل الضرورة ؛ فيكون أرفق بالنَّاس .

    قال السرخسي : " الحرج مدفوع بالنَّص ، وفي موضع الضَّرورة يتحقّق معنى الحرج لو أُخِذَ فيه بالقياس ؛ فكان متروكاً بالنَّص " (7) ، وقوله بالنص ، أي : النصوص الواردة في رفع الحرج عموماً .

    وهذا أمر متقرِّر عند العلماء ، بل هو من مزايا الشريعة الإسلامية الظاهرة .
    قال عزّ الدين ابن عبد السلام _رحمه الله_ في قواعد الأحكام : " اعلم أنَّ الله شرع لعباده السعي في تحصيل مصالح عاجلة و آجلة تجمع كل قاعدة منها علَّة واحدة ، ثم استثنى منها ما في ملابسته مشقَّة شديدة أو مفسدة تربى على تلك المصالح ؛ وكذلك شرع لهم السعي في درءِ مفاسد في الدَّارين أو في إحداهما تجمع كلّ قاعدة منها علَّة واحدة ، ثم استثنى منها ما في اجتنابه مشقَّة شديدة أو مصلحة تربى على تلك المفاسد ؛ وكلّ ذلك رحمة بعباده ونظر لهم ورفق بهم . ويعبَّر عن ذلك كلِّه بما خالف القياس ، وذلك جارٍ في العبادات و المعاوضات وسائر التصرُّفات " (Cool .

    فالاستحسان في حقيقته : منع إدراج بعض الفروع فيما يظنُّ اندراجها فيه من الكليات والقواعد العامّة ؛ لدلالة تترجّح
    عند الموازنة بين الأدلة مع اعتبار مقاصد الشرع وعلله وجوداً وعدماً ؛ وهي علامة فقه الفقيه ، لذلك وصفه الإمام مالك بأنه تسعة أعشار العلم ؛ لخفائه على من لم يتأنَّ من الفقهاء ، ولأثره في بيان أحكام المسائل التطبيقية ، من حيث هو نتيجة من نتائج الاجتهاد في تحقيق المناط فيها .

    وفي الحكمة من هذا الطريق الاستدلالي يقول الأستاذ محمد فتحي الدريني : " نظرية الاستحسان شرعت ؛ لدرء التعسف في الاجتهاد عن طريق الاستثناء ، والاستحسان ضرب من النظر في المآل ، جرياً على سنن الشارع في اعتبار المسببات عند تشريع الأسباب " .
    وإلى بقية بحث هذه المسألة في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .

    ----------------------
    (1) منهم : ابن السمعاني في : قواطع الأدلة ، والإسمندي في : بذل النظر ، وابن الهمام في : التحرير ، مع شرحه ، لأميرباد شاه ، وأبو العباس ابن تيمية في : المسوَّدة ، لآل تيمية ، وابن عبد الشكور في : مسلم الثبوت ، مع شرحه : فواتح الرحموت ، لابن نظام الدين الأنصاري ، والزركشي في : البحر المحيط ، و الشاطبي في : الاعتصام ، و الشوكاني في : إرشاد الفحول .
    (2) ينظر مثلاً : إحكام الأصول في أحكام الفصول ، لأبي الوليد الباجي : 688-689 ؛ وقواطع الأدلة ، لابن السمعاني :4/214 ؛ والمستصفى ، للغزّالي :1/410 ؛ والمصادر السابقة .
    (3) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، لشيخنا يعقوب الباحسين : 288 ،293 . وقد أفاد الناحية الموضوعيَّة من بيان السرخسي لها في : المبسوط : 10/ 145.
    وقد أفرد شيخنا حفظه الله كتابا في الاستحسان استقرأ فيه ما علل بالاستحسان استقراء فريدا ، كعادته في مؤلفاته ، وهو تحت الطبع .
    (4) ينظر : المناهج الأصوليَّة في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي ، د. محمد فتحي الدريني : 486 .
    (5) مذكرة في أصول الفقه ، للشيخ / محمد الأمين الشنقيطي : 200 .
    (6) تنبيه مهم : القياس في استعمالات العلماء في مواضع الاستحسان تشمل القياس الأصولي ، والقواعد العامَّة المأخوذة من مجموع الأدلة الواردة في نوع واحد ، أو ما يقتضيه الدليل العام ؛ خلافاً لما قد يتبادر من ظواهر عبارات بعضهم ؛ فإذا قيل القياس في هذه المسألة كذا ، والاستحسان فيها كذا فلا يتعين أنَّ المراد به القياس الأصولي ؛ بل قد يكون بمعنى مقتضى القاعدة ، أو الدليل العام الوارد في هذا النَّوع ، أو القياس الأصولي ( المعنى الخاص ) ، وفي كلٍّ أُخرجت الصورة المستحسنة من عموم ما يُشبهها لمقتضٍ آخر .
    (7) أصول السرخسي : 2/ 203 .

    يتبع
    ادهم الشرقاوى
    ادهم الشرقاوى
    عضو ماسي
    عضو ماسي


    ذكر

    الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية - صفحة 2 Empty رد: الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية

    مُساهمة من طرف ادهم الشرقاوى الخميس سبتمبر 04, 2008 5:22 pm

    أسس السياسة الشرعية (4) المصالح المرسلة / 3


    د. سعد بن مطر العتيبي | 18/9/1427


    الاستدلال بالمصالح المرسلة وضوابطه

    جاء في ختم الحلقة السابقة أنَّ الاستدلال بالمصالح المرسلة ليس أمراً هيناً ، ولا هو بالمركب السهل ؛ وليس هو حقّاً لكل أحد ؛ إذ هو من أضنك مواقع الاجتهاد ، وأحراها بما يشترط في أهله من شروط دونها خَرْطُ القتاد .
    وبيان ذلك أنَّ للمصلحة جانب نظر عقلي ، وهي كما مرّ طريق استدلال لا مصدر الحكم ، ومن ثم فإنَّ دور العقل فيها لا يصح ولا يجوز أن يكون معارضا لمصدري التشريع الإسلامي ( الكتاب والسنة ) ، وإنَّما تنحصر وظيفته في أمور من مثل :
    1) فهم النص الشرعي ، والبحث في مقاصد المصالح التي روعيت فيه أو به .
    2) استنباط الأحكام من النصوص ، بناء على ما تم الوصول إليه من العلل المعتبرة والمقاصد المشروعة .
    3) تنزيل الأحكام على الواقع بتحقيق مناطاتها فيه .
    4) الاجتهاد المستند إلى ضوابط الشرع فيما ليس فيه نص معين .
    5) النظر في المآلات المستقبلية ومراعاتها أثناء النظر في الأحكام .
    وهكذا كل أمر يخدم الأحكام أو القرارات مما لا يعود على النص الشرعي أو التقعيد الكلي بالإبطال .
    وهذا كله يقتضي وجود شروط في ولي الأمر أو من يستند إليه ولي الأمر في تنفيذ الأحكام ورعاية المصالح . وهذا ما أكَّده عدد من العلماء المحققين ، وحذَّروا من تجاوزه .
    قال القرافي _رحمه الله_ : " فإنَّ مالكاً يشترط في المصلحة أهليّة الاجتهاد ؛ ليكون الناظر متكيفاً بأخلاق الشريعة ، فينبو
    عقله وطبعه عمَّا يخالفها ، بخلاف العالم بالسياسات إذا كان جاهلاً بالأصول ، فيكون بعيد الطبع عن أخلاق الشريعة ، فيهجم على مخالفة أخلاق الشريعة من غير شعور " .
    وقال ابن بدران _عليه رحمة الله_ : " والمختار عندي اعتبار أصل المصالح المرسلة ، ولكن الاسترسال فيها وتحقيقها
    يحتاج إلى نظر سديد وتدقيق " .
    و قال الشنقيطي _رحمه الله_ : "… ولكن التحقيق : أنَّ العمل بالمصلحة المرسلة أمر يجب فيه التحفظ وغاية الحذر حتى يتحقق صحة المصلحة ، وعدم معارضتها لمصلحة أرجح منها أو مساوية لها ، وعدم تأديتها إلى مفسدة في ثاني حال " .
    وقال أيضاً : " … لكن يجب في هذه المسألة كما حققه غير واحد من المحققين أن ينتبه للنظر في مآلات الأمور
    وعواقبها ، فلا يحكم المجتهد على فعل من أفعال المكلفين بالإقدام عليه أو الكف عنه إلا بعد نظره فيما يؤول إليه ، فربما يظهر في فعل أنه مشروع لمصلحة تستجلب أو منهي عنه لمفسدة تنشأ عنه لكن مآلـه خلاف ذلك .
    واعلم أنَّ التحقيق أن المصلحة المذكورة تنخرم باستلزامها مفسدة راجحة عليها أو مساوية لها … " .
    ثم هو مزلّة قدم للمبتدع في الدين ، وهاوية ذمم للمقننين والسياسيين - نسأل الله العافية والسلامة - وقد نبه إلى ذلك بعض أهل العلم .

    وأمثلة المصالح المرسلة في الجملة كثيرة جدا ، ومنها : كل مستحدث عصري ينتفع به الناس من التنظيمات والتراتيب
    الإدارية ، مما لم يرد فيه دليل نصي و لا يخالف الشريعة الإسلامية . كسن الأنظمة المصلحية ، وهيكلة الدوائر الحكومية ، فتنظيم أمور التقاضي ، وتصنيفات الموظفين ، وتقدير رواتبهم ، ونحوها ، هي في الحقيقة أمثلة لإعمال المصالح .
    بل إن مدار بقية طرق الاستدلال هو في الحقيقة على قاعدة المصالح المعتبرة دون غيرها مما هو مُتَخيّل أو موهوم .
    ومن هنا نبَّه بعض الأصوليين إلى أنه لا توجد مصلحة لم يثبت لها علاقة اعتبار شرعية ، لا بدليل خاص ولا عام . وهي التي توصف عند الأصوليين بأنَّها غير ملائمة ، وقد يُعَبَّر عنها بالمناسب الغريب . فهذه " في حكم المصلحة الملغاة ؛ إذ ليس إهمال هذا النوع من الاعتبار إلَّا دليلاً على أنّه في حكم الملغي ، وإلا لكان النّاس متروكين سدى ، وهذا ما قامت النصوص الشرعية على نفيه " (1)
    وَقد مثّل بعض الأصوليين لهذا النوع : بحرمان القاتل من الميراث لو لم يرد فيه نص ، لمعارضتـه بنقيض قصده . وهذا المثال افترضه الغزالي ، وتبعه فيه الشاطبي ؛ لأنَّه افتراض اقتضته القسمة العقلية ، لا وجود له في الواقع .
    ولهذا قال أبو حامد الغزالي : " فأمَّا المناسب الغريب الذي لا يلائم ، ولا يشهـد له أصل معين ؛ فهو مردود ، لا يعرف فيه خلاف " (2) ، وقال : "… فلا يقبل قطعاً عند القائسين ، فإنَّه استحسان ووضع للشرع بالرأي" (3) ؛ بل يمكن القول إنَّ هذا النوع من المصالح وهميٌّ فرضيٌّ ، لا وجود له في الواقـع ؛ لأنَّه ما من مسألة تفرض إلَّا وفي الشرع دليل عليها إما بالقبول أو بالردِّ ؛ إذ من المسَّلم استحالة خلو واقعة عن حكم الله _تعالى_ (4) .
    وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي : " ما لم يدل عليه دليل خاص ولا عام لا يصح أن يكون حكما شرعياً " (5) .
    وعلى كلٍّ فهذه الحال كالقِسْم الملغى ، مطَّرَحة غير معتبرة بالإجماع ؛ بل لا وجود لها في الواقع .
    وللمصالح اتصال وثيق بفقه الموازنة الشرعية بين درجاتها ، وبينها وبين المفاسد ، ودرجاتها .
    وقد قعّد العلماء لفقه الموازنة هذا عند التزاحم (6) ، بقواعد وضوابط تنتظم الموازنة بين المنافع ، والموازنة بين المفاسد ، والموازنة بين المنافع والمفاسد ، منها : قاعدة درء المفاسد أولى من جلب المصالح . وقاعدة : الضرورات تبيح المحظورات . وقاعدة : يُتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام . وقاعدة : يُحمل الضرر الأخف لدفع الضرر الأشد . وقاعدة : إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما ومثّل له بعض علماء السياسة الشرعية بمشروعية القتال مع الفاسق لإقامة ولايته دفعا للأفسد .
    ويُجري الفقيه الموازنة بالنظر من أوجه منها على سبيل المثال : مدى التحقق : قطعيّة أو ظنيّة أو وهميّة ، ومدى الشمول : عامة أو خاصة ، ومدى الأهمية : ضرورية أو حاجية أو تحسينية .
    ولهذه القواعد معايير تضبط إعمالها ، منها على سبيل التوضيح :
    - إذا تعارضت المصلحة الضرورية مع الحاجية أو التحسينية ، قُدِّمت الضرورية لأنها أكثر أهمية .
    - إذا تعارضت مصلحة حماية الحياة مع حماية مصلحة المال ، قُدِّمت مصلحة حماية الحياة .
    وهذه القواعد والمعايير الشرعية مراعاة في كثير من القوانين الوضعية أيضا .

    ولقاعدة المصالح في الجملة صلة قوية بقواعد المقاصد ، وسيتم التعرض له _إن شاء الله تعالى_ في تطبيقات السياسة الشرعية عند العلماء .
    وأختم الحديث عن المصلحة ببيان علاقتها القوية بالسياسة الشرعية " فإنَّ السياسة الشرعية هي المجال الذي يضفي الطابع العملي أو التطبيقي على المفهوم الأصولي للمصلحة ... إضافة إلى كون المصلحة أداة استدلالية في بناء الحكم الفقهي " (7) على مرّ من بيان .
    ----------------------------
    (1) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية لشيخنا د.يعقوب الباحسين : 254-255 .
    (2) شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل ، لأبي حامد الغزالي : 188 ، مطبعة الإرشاد : بغداد .
    (3) المستصفى : 2/313 ؛ وينظر : الاعتصام ، للشاطبي : 2/ 115، بعناية الشيخ / محمد رشيد رضا ، المكتبة التجارية الكبرى : مصر .
    (4) ينظر : المنخول من تعليقات الأصول ، للغزالي : 460 ، ط3-1419، ت/ محمد حسن هيتو ، دار الفكر المعاصر و دار الفكر : بيروت ؛ ورفع الحرج في الشريعة الإسلامية ،لشيخنا د.يعقوب الباحسين : 255 .
    (5) رحلة الحج إلى بيت الحرام ، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي :181 ، ط1-1403 ، دار الشروق :جدة .
    (6) من المراجع التي عالجت هذه القضية إضافة إلى جملة ما كتب في علم القواعد والأصول ، اطروحة علمية في قسم أصول الفقه بجامعة بغداد ، لنيل الدرجة العلمية العالية ، بعنوان : الموازنة بين المصالح دراسة تطبيقية في السياسة الشرعية ، د. أحمد عليوي حسين الطائي . وقد أفدت منها في هذه المسألة .
    (7) المصلحة العامة من منظور إسلامي ، د. فوزي خليل :123 .

    يتبع
    ادهم الشرقاوى
    ادهم الشرقاوى
    عضو ماسي
    عضو ماسي


    ذكر

    الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية - صفحة 2 Empty رد: الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية

    مُساهمة من طرف ادهم الشرقاوى الخميس سبتمبر 04, 2008 5:23 pm

    أسس السياسة الشرعية (3) المصالح المرسلة / 2


    د سعد بن مطر العتيبي | 12/9/1427


    حجية الاستدلال بالمصالح المرسلة

    حجية الاستدلال بالمصالح المرسلة ثابتة بالكتاب ، والسنة ، والإجماع ، واستقراء الشريعة ؛ ومن أدلَّة حجيتها - إضافة إلى ما سبق من الأدلَّة العامَّة على اعتبار الاحتجاج بالاستدلال ما يأتي :

    فمن الكتاب ما حكى الله تعالى في سورة الكهف ، من أعمال الخضر التي اعترض عليه بها موسى - عليهما الصلاة والسلام - لِمَا ظهر له من مخالفتها للشرع ؛ فلما نبَّأه بتأويلها وبين له ما قصده فيها من المصلحة سلَّم له .

    قال أبو العباس ابن تيمية _رحمه الله_ : " … ما فعله الخضر لم يكن مخالفا لشريعة موسى عليه السلام ، وموسى لم يكن عَلِمَ الأسباب التي تبيح ذلك ، فلما بينها له وافقه على ذلك ؛ فإنَّ خَرْقَ السفينة ثم ترقيعها لمصلحة أهلها خوفا من الظالم أن يأخذها إحسان إليهم وذلك جائز ، وقتل الصائل جائز وان كان صغيرا ، ومن كان تكفيره لأبويه لا يندفع إلا بقتله جاز قتله … " .

    وقال في موضع آخر : " … قصة الخضر مع موسى لم تكن مخالفة لشرع الله وأمره ، … بل ما فعله الخضر هو مأمور به في الشرع بشرط أن يعلم من مصلحته ما علمه الخضر ؛ فإنَّه لم يفعل محرما مطلقا ، ولكن خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار ؛ فان إتلاف بعض المال لصلاح أكثره هو أمر مشروع دائما وكذلك قتل الإنسان الصائل لحفظ دين غيره أمر مشروع … فهذه القضية تدل على أنَّه يكون من الأمور ما ظاهره فساد ؛ فيحرِّمه من لم يعرف الحكمة التي لأجلها فعل ، وهو مباح في الشرع باطناً وظاهراً لمن علم ما فيه من الحكمة التي توجب حسنه وإباحته " .

    ومن السنة أدلَّة ، منها : تولي خالد بن الوليد _رضي الله عنه_ إمرة المسلمين في غزوة مؤتة ، مع أنَّ النبي _صلى الله عليه وسلم_ لم يؤمِّره فيها ؛ وإنَّما مستنده في ذلك المصلحة الشرعية ؛ إذ كانت تقتضي وجود قيادة للجيش ، وليس ثم نص يُرجع إليه ؛ وقد أثنى عليه النبي _صلى الله عليه وسلم_ مع ذكره تأمُّرَه من غير تأمير منه [1] . وأمثلة ذلك كثيرة ، لمن تأمَّل .

    وأمَّا الإجماع ؛ فقد أجمع الصحابة _رضي الله عنهم_ إجماعاً سكوتياً على العمل بالمصالح المرسلة ، في وقائع كثيرة بانضمام بعضها إلى بعض يحصل القطع ؛ من مثل : جمع المصحف ( كما عند البخاري ) ؛ وعهد أبي بكر بالخلافة إلى عمر - رضي الله عنهما – (وهو في الصحيحين ) ؛ وتدوين الدواوين ( وهو في الموطأ والطبقات الكبرى وغيرها ) ؛ وعقوبة شارب الخمر بثمانين ( وهو في الصحيحين ) .

    قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي _رحمه الله_ : " وأمثال هذا من أصحاب النبي _صلى الله عليه وسلم_ كثير جداً ، من غير نكير ولا معارض ؛ وهذا يدل دلالة واضحة على العمل بالمصالح المرسلة " .

    و يمكن الاحتجاج لها بالإجمـاع مطلقاً ؛ فـإنَّ العلماء قد اتفقوا على العمل بها ، عند تحقق شروطها في الواقعة ؛ وقد حكى الاتفاق على ذلك غير واحد من العلماء منهم الغزَّالي ، وابن دقيق العيد ، و الزركشي ؛ والقرافي ، والطوفي ، و الشنقيطي ، وغيرهم .

    ويؤكِّد ذلك جملة ما عورض به القائلون بالمصالح المرسلة من حُجج ، حيث يتضح أنَّها خارجة عن المراد بالمصالح المرسلة عنـد القائلين بها ؛ ومن ثمَّ فهي واردة على غير محلِّ ما نازعوا فيه ؛ وعليه فإن الاستدلال بالمصالح المرسلـة سالم من المعارضـة ؛ فإنَّ المنظِّرين لها قد ضبطوا القول بها بضوابط تزيل ما خشيه المعارضون للقول بها ؛ فقد اشترطوا للاستدلال بها شروطاً تدرجهـا تحت النصوص الشرعية ، ومن المتفق عليه من هذه الشروط :

    1) أن لا تعارض نصاً - من الكتاب أو السنة - ولا إجماعاً .

    2) أن تكون ملائمة لتصرفات الشارع . بأن يثبت للمصلحة المستدلِّ بها علاقة اعتبار شرعية ، بدلالة أصل كلي ؛ بأن اعتبر الشارع جنسها في الجملة . وقد يعبر عنه بعض العلماء بقوله : أن تعود على مقاصد الشريعة بالحفظ والصيانة .

    وطريقة معرفة ذلك قيدها القرافي بقوله : إنَّا نعتبر من النصوص الأصول ما هو خاصٌّ بذلك الباب في نوعه دون ما هو أعم منه ؛ فإذا كانت المَصلَحة في الإجارات ، اعتبرنا نصوص الإجارات ، أو في الجنايات اعتبرنا نصوص الجنايات ؛ أمَّا نصٌّ يشمل ذلك الباب وغيره ، فلا عبرة به ؛ لأنَّ هذه المصلحة أخص منها ، والأخصّ مقدمٌ على الأعم - لاسيما - إذا كان النصّ يشمل جميع الشريعة ، فقد كثر تخصيصه ، فضعف التمسك به "

    ومن هنا اعتبر بعض علماء الأصول هذين الشرطين داخلين في مفهوم المصلحة المرسلة وحقيقتها ، وليسا مجرد شرطين للعمل بها .

    وعلى هذا إنَّما تكون حجج المعارضين صحيحة في معارضـة ما فُهِم عن الطوفي من شذوذ - تعلق به بعض المنحرفين العصريين - من القول بالمصالح الملغاة التي سبق ذكر الاتفاق على إلغائها ، بتقديمه رعاية المصلحة على النصوص والإجماع ، بما سمّاه طريق البيان ، زاعماً أنَّها أقـوى من النصِّ والإجماع ، مع اعترافه بعد ذلك بأنَّ النصَّ لا يخالف المصلحة .

    وأمَّا استقراء الشريعة ، فقد قال عزّ الدين بن عبد السلام رحمه الله : " ومن تتبّع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد ، حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان ، بأنَّ هذه المصلحة لا يجوز إهمالها ، وأنَّ هذه المفسدة لا يجوز قُربانها ، وإن لم يكن فيها نصّ و لا إجماع ولا قياس خاص ؛ فإنَّ فَهْمَ نفس الشّرع يوجب ذلك " .

    ثم إنَّ الاستدلال بالمصلحة المرسلة مِمّا لا يتم الواجب إلا به ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .

    وعلى كل حال فهي من طرق الاستدلال التي لا تستقل ببيان الأحكام دون أصل كلي ، قال الغزَّالي – رحمه الله تعالى - : " … من ظنّ أنه أصل خامس فقد أخطأ ؛ لأنّا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع ، ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع . فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فُهِمَ من الكتاب والسنة والإجماع ، وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع ، فهي باطلة مطَّرحة ، ومن صار إليها فقد شرَّع ، كما أن من استحسن فقد شرع . وكل مصلحةٍ رجعت إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصوداً بالكتاب والسنة والإجماع ؛ فليس خارجاً من هذه الأصول ، لكنه لا يسمى قياساً ، بل مصلحة مرسلة ، إذ القياس أصلٌ معين . وكون هذه المعاني مقصودةً عُرِف لا بدليل واحد ، بل بأدلةٍ كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال ، و تفاريق الأمارات ؛ فسُمّي لذلك مصلحة مرسلة . وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع ، فلا وجه للخلاف في اتباعها ، بل يجب القطع بكونها حجة ، وحيث ذكرنا خلافاً فذلك عند تعارض مصلحتين ومقصودين ، وعند ذلك يجب ترجيح الأقوى " .

    ومع هذا ؛ فإنَّ الاستدلال بالمصالح المرسلة ليس أمراً هيناً ، ولا هو بالمركب السهل ؛ وليس هو حقّاً لكل أحد ؛ إذ هو من أضنك مواقع الاجتهاد ، وأحراها بما يشترط في أهله من شروط دونها خَرْطُ القتاد .

    وهذا ما سيأتي بيانه في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .


    --------------------------------------------------------------------------------

    [1] ينظر ذلك فيما رواه البخاري : ك/ الجهاد والسير ، ب/ تمني الشهادة ، ح(2798) ؛ و ك/ المغازي ، ب/غزوة مؤته من أرض الشام ، ح(4262) ؛ قال الحافظ ابن حجر – مبيناً ما يفيده هذا الحديث - : " فيـه جواز التأمُّر في الحرب بغير تأمير ، قال الطحاوي : هذا أصل يؤخذ منه أنَّ على المسلمين أن يقدموا رجلا إذا غاب الإمام يقوم مقامه إلى أن يحضر ، وفيه جواز الاجتهاد في حياة النبي _صلى الله عليه وسلم_ " . فتح الباري : 7/586 .
    يتبع
    ادهم الشرقاوى
    ادهم الشرقاوى
    عضو ماسي
    عضو ماسي


    ذكر

    الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية - صفحة 2 Empty رد: الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية

    مُساهمة من طرف ادهم الشرقاوى الخميس سبتمبر 04, 2008 5:24 pm

    أسس السياسة الشرعية (2) الاستدلال : المصالح المرسلة /1


    د. سعد بن مطر العتيبي | 3/9/1427


    ثانياً : أسس السياسة الشرعية الاستنباطية ( الاستـدلال ) .

    يراد بالاستدلال : ما كان مستنداً للحكم غير النص والإجماع والقياس ، مما هو عائد إليها .
    أو هو : محاولة الدليل الشرعي من جهة القواعد ، لا من جهة الأدلة المعلومة (1)

    وحقيقته : الاجتهاد الشرعي في استنباط حكم لم ينص عليه بعينه .
    ومنه تتجلَّى النَّاحية التنظيريَّة للمستجدات في السياسة الشرعية ، كغيرها من المجالات الفقهية . إذ إنَّ جلّ الأحكام السياسية يرجع في الأصل إلى صورة الاجتهاد فيما لم يتعيّن له أصل معيّن ، وصاحب الأمر يفعله بحكم الولاية العامة له أو لمن ولَّاه .
    وأدلة الاستناد إلى " الاستدلال " كثيرة ، إجمالية وتفصيلية .
    فمن أدلة الاستدلال الإجمالية ما يلي :
    1) قول الله _تعالى_ في سورة النساء : {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً } ؛ قال القرطبي : فيها دليل على الاجتهاد عند عدم النص والإجماع .
    وقال النووي - رحمه الله - مستدلاً بهذه الآية على وجوب الاستنباط ، وعدم الاتكال على ما نُصًّ عليه صريحاً - : "… فالاعتناء بالاستنباط من آكد الواجبات المطلوبة ؛ لأن النصوص الصريحة لا تفي إلا بيسير من المسائل الحادثة فإذا أُهْمِلَ الاستنباطُ فات القضاءُ في معظم الأحكام النازلة ، أو في بعضها والله أعلم " .
    وقال أبو جعفر الداوودي _رحمه الله_ : " أنزل _سبحانه وتعالى_ كثيراً من الأمور مجملاً ؛ ففسَّرَ نبيُّه ما احتيج إليه في وقته ؛ وما لم يقع في وقته وكَلَ تفسيرَه إلى العلماء ، بقوله _تعالى_ : {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً } " . ونصوص العلماء في بيان هذا المعنى كثيرة .
    2) قول الله _تعالى_ في سورة المائدة :{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } ، فالوقائع التي لم يُنص عليها : إمَّا أن تترك لأهواء الناس ، وإمَّا أن ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي ، وهذان فساد وإعراض عن الحق مناف لكمال الدين وإتمام النعمة ؛ فلزم أن يكون هناك طرق تعرف بها أحكام الله تعالى في هذه المسائل ؛ ففي الآيـة دلالة على العمل بالاستدلال ، ورعاية الأحوال والأزمان ؛ فهذه الآية تؤكد النص على العقائد وأصول الشرع وتؤكد قواعد الاجتهاد ، دون أن يعني ذلك النص المعين على كل حادثة في كل عصرٍ في القرآن .

    وأمَّا الأدلة التفصيلية الدالّة على الاستناد إلى الاستدلال في الاستنباط ؛ فهي أدلةُ طرقِ الاستدلال ، ومستندات كلٍّ منها ، وهي التي قُصِدَ إجمالُها تحت مُسَمَّى الاستدلال (2) ؛ ذلك أنَّ الاستدلال يندرج تحته عدد من طرق الاستنباط والمستندات الكلِّيَّة للأحكام ، التي سيكون في الحديث عنها شيءٌ من التفصيل الذي تقتضيه قوَّة العلاقة بينها وبين السياسة الشرعية من جهة استنادها عليها ؛ وقِلَّة وجود أبحاثٍ محـرَّرة مقرَّبة لعموم طلاب العلم ؛ مع محاولة كثير من أهل الباطل والظلمِ ، التشغيبَ بمصطلحاتها على أهل الحق والعدل ، لذا لم يكن بدٌّ من بيان أهم هذه الطرق حسب ما يحتمله المقام ، بما يُفيد الباحث وينفع غيره من الباحثين ؛ على نحو يُبَيِّنُ حقيقة المراد بهذه الطرق والمستنداتِ التي لها الصلة الأقوى في تأصيل السياسة الشرعية (3) ، ويضبط كيفيَّة الإفـادة منها في الناحية التطبيقية .
    وذلك على النحو الآتي :

    الطريق الأولى : المصـالـح المرسلـة (4)
    المصالح جمع مصلحة ، ضد المفسدة ، وهي : جلب المنفعة أو دفع المضرّة .

    والمصالح من جهة اعتبار الشرع لها وعدمه ، لا تخلو عن ثلاث حالات :

    الحال الأولى : أن يدل دليل خاص من الشرع على اعتبار تلك المصلحة ، وعدم إهدارها ؛ فهذه لا إشكال في صحتها ، ولا خلاف في إعمالها . ولهذا تسمى المصلحة المعتبرة . ويصح مثالاً لها كلّ منفعة مادية أو معنوية دنيوية أو أخروية ، يجنيها المكلف من عمله بما هو واجب أو مندوب أو مباح ، أو يدرؤها بالامتناع عن العمل بما هو محرم أو مكروه . كمصلحة حفظ مال الصغير بمشروعية الولاية على ماله . ومصلحة حفظ العقل بتحريم كل مسكر .

    الحال الثانية : أن يدل دليل خاص من الشرع على إهدارها وعدم اعتبارها ؛ وهذه مردودة برد الشرع لها لا سبيل إلى قبولها و إعمالها ، وما رَّده الشرع فهو مردود باتفاق المسلمين ؛ ولهذا تسمى المصلحة الملغاة .
    ويمثل لها الأصوليون : بما لو ظاهر مَلِكٌ من امرأته ؛ فقد يُرى أن مصلحة الزجر والردع تقتضي تخصيص تكفيره بالصوم ؛ لأنَّه يردعه ، بخلاف الإعتاق والإطعام فإنَّ الملوك لا يبالون بهما ؛ لخفتهما عليهم . ولكن الشارع الحكيم أهمل هذه المصلحة ؛ باشتراطه الترتيب في كفارة الظهار ، بقول الله تعالى في سورة المجادلة : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } ؛ وذلك لتحصيل مصلحة أخرى أهّم من هذه ، هي أن عتق الرقبة من الرِّقِّ أهم عند الشارع من التضييق على المَلِك ونحوه بالتكفير بالصوم ؛ لينزجر ؛ وهذه قاعدة الشرع ؛ فهو لا يلغي مصلحة ويحكم بإهدارها ، إلا لتحصيل مصلحة أخرى أعظم عند الشارع من التي أهملها .

    ومن أمثلته العصرية : كل ما يستند إليه دعاة الفكر المنحرف من تعليلات ينسبونها للمصالح مع أنها تتناقض مع أحكام الشريعة وقواعدها الكلية ، علموا ذلك أو لم يعلموا ؛ كالترويج للفكر المنابذ للدين تحت اسم الحرية الفكرية ، و تسويغ الربا بحجة الضرورة ، والمطالبة بالاختلاط بين الجنسين في التعليم ، بدعوى انتفاء المفاسد بالاعتياد ، ومحاولة إيهام الناس بوجود مصالح في ذلك . فكل ما ينادي به العلمانيون وغيرهم من أمور يعدونها مصالح وربما كان فيها منافع لكنها مما يناقض أحكام الإسلام فهي من قبيل المصالح الملغاة في أحسن أحوالها .

    الحال الثالثة : أن لا يدل دليل خاص على اعتبار مناسبة ذلك الوصف ولا على إلغائها وإهدارها . ويُعَبَّر عنها
    بالمصلحة المسكوت عنها ، أي : التي سكت عنها الشارع فلم يشهد لها منه دليل معين ولا إجماع ، لا بالإلغاء ولا بالاعتبار . .
    ومثاله : أن تثبت لهذه المصلحة علاقة اعتبار شرعية ، بشهادة أصل كُلِّيٍّ ؛ بأن يكون الوصف المَصْلَحيُّ داخلاً ضمن معنى وأصلٍ قامت على صحته الأدلَّة الشرعية ، دون أن يـَرِدَ بشأنه في ذاته حكم معين .
    وهذا النوع هو المعبّر عنه عند التحقيق ، بـ " المصلحة المرسلة " ؛ وهي الطريق المراد بيانها هنا .
    وعليه فالمصلحة المرسلة هي : " كلُّ منفعةٍ ملائمةٍ لتصرفاتِ الشارع ، دون أن يَشْهَدَ لها بالاعتبارِ أو الإلغاءِ أصلٌ مُعَيَّن " . أي : لكن شهد لها أصل كلي ( من مثل : مبدأ رفع الحرج وأصل مآلات الأفعال ، و نفي الضرر في الإسلام ) ؛ بأن اعتبر الشارع جنس المعنى في الجملة ، بغير دليل معين .
    قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي _رحمه الله_ : " فتولية أبي بكر لعمر- رضي الله عنهما - و إن لم يدل على خصوصها دليل ، فقد دلَّ الدليل على وجوب حفظ نظام المسلمين والإسلام ، بتولية الأحق بذلك من المسلمين ؛ و كتابة المصحف ونقطه وشكله وإن لم يدل عليها دليل خاص فقد دلَّ الدليل العام على وجوب حفظ القرآن من الذهاب والتصحيف ، وهكذا في جميع المصالح المرسلة ، والعلم عند الله ".
    وقوله : " كلُّ منفعةٍ ملائمةٍ " ، يؤكِّد ما اتَّفَقَ عليه المُنَظِّرُون للاستدلال بالمصلحة المرسلة ، من أنَّه لا مدخل لها في التَّعَبُّدَات ، و مَا جَرى مجراها من الأمور الشرعية ؛ كالحدود و الكفَّاراتِ ، والمُقَدَّرَات ؛ لأنّ عامَّة التَّعَبُّدَاتِ لا يُعْقَلُ لها معنىً على التفصيل ، كالوضوء والصيام في زمان مخصوص دون غيره ، والحجِّ ، والأذكار المعدودة ، ونحو ذلك ؛ فهذه ليست من مجالات الاستدلال بالمصالح المرسلة .
    وقوله : " دون أن يَشْهَدَ لها بالاعتبارِ أو الإلغاءِ أصلٌ مُعَيَّن " ، يُخْرِجُ ، من مجالات الاستدلال بالمصالح المرسلة - ما كان داخلاً في دلالةٍ مستفادةٍ من النص الشرعي الجزئي ، و ما كان مشروعاً من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به ، أو كان راجعاً إلى أصل الإباحة ، ونحو ذلك مما له صلة بالمصالح المرسلة ، و ليس هو داخلاً فيها عند التدقيق ؛ وإنَّما ترجع مستنداته إلى أصول السياسة الشرعية الأخرى .
    وأما بيان حجية الاستدلال بها ففي الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .

    -------------
    (1) ولهذا المصطلح مدلولات أخر غير ما ذكر تعرف من نوع الفن ؛ فليتنبّه لذلك .
    (2) و طرق الاستدلال ليست أدلة مُنشِئة ، وإنَّما هي أدلة بيانية ، وتسميتها ( أدلة ) عند التعبير عنها بمصطلح ( الأدلة المختلف فيها ) تجوز في التعبير ليس إلَّا ؛ ومن هنا كان وضعها تحت مسمَّى ( الاستدلال ) ردَّاً لها في المسمّى إلى الحقيقة ؛ دفعاً لما قد يَرِد من اللبس ، الذي قد وقع فيه بعض القانونيين ؛ حيث ظنُّوا أنَّ طرق الاستدلال مُنشِئة للأحكام ، كنصوص الوحي ودلالاتها ؛ ومن ثمَّ ربَّما قدَّمها بعضهم على النص فجعلوها قاضية عليه .
    (3) وصلة طرق الاستنباط - أو طرق استثمار النصوص كما يعبِّر بعض الأصوليين – بالسياسة الشرعية من صلة الأصل بالفرع ، حتى كان من مصنِّفات السياسة الشرعية ما اختصّ ببيانها ، ككتاب : الغصون المياسة اليانعة بأدلة أحكام السياسة ، لابن حبش الصنعائي .
    (4) الحديث عن المصالح واسع ومتشعِّب ، وقد اجتهدت في إثبات ما رأيته مهما في موضوعنا ، وإن كان في مباحث المصالح سواه ما يستحق الذكر والبيان . ومما يمهِّد لغير المختص مما لم أر وضعه في الأصل : بيان المصالح التي عليها مدار التشريع الإلهي ، ويقسمها جمهور الأصوليين إلى ضروريات وحاجيات وتحسينيات .
    فالأولى : حفظ الضروريات بدرء المفاسد عنها ؛ ويشمل جميع : ما شرع حماية للضروريات الخمس – الدين والنفس والعقل و النسب أو العرض والمال - التي يحصل بتفويتها ضرر على الإنسان في شيء منها ؛ كتحريم القتل ، و وجوب القصاص .
    والثانية : حفظ الحاجيات بجلب المصالح وفتح أبوابها ؛ ويشمل جميع : ما شرع لتحصيل ما يحتاجه الناس من المنافع التي يحصل بتفويتها الضيق والمشقة والحرج عليهم ؛ كتحليل البيع والشراء والإجارة .
    والثالثة : الجري على مكارم الأخلاق ، وأحسن العادات ؛ وهي دون رتبة الحاجيات ؛ كتحريم النجاسات ، واستحباب أخذ الزينة ، والعمل بخصال الفطرة ، وسائر الآداب الشرعية .
    ويتعلق بكل قسم من هذه الأقسام ما يجري منها مجرى التكملة والتتمة لها ، و مثاله : إيجاب القصاص يدرأُ الضرر عن النفوس فيحافظ به عليها ، ورعاية المماثلة في القصاص يجري مجرى التتمة والتكملة لهذه المرتبة .
    ( يراجع للمزيد على سبيل المثال : المستصفى ، للغزالي : 1/416-420 ؛ والبحر المحيط ، للزركشي : 5/213 وما بعدها ؛ و الموافقات ، للشاطبي : 3/263 ؛ و شرح الكوكب المنير ، للفتوحي : 4/159-168 ؛ و روضة الناظر ، لابن قدامة : 1/412-414 ؛ و المصالح المرسلة ، لمحمد الأمين الشنقيطي : 6 ؛ وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ، له : 2/237 ) .

    يتبع
    ادهم الشرقاوى
    ادهم الشرقاوى
    عضو ماسي
    عضو ماسي


    ذكر

    الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية - صفحة 2 Empty رد: الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية

    مُساهمة من طرف ادهم الشرقاوى الخميس سبتمبر 04, 2008 5:26 pm

    أسس السياسة الشرعية (1) الأدلة : الكتاب والسنة والإجماع والقياس


    د.سعد بن مطر العتيبي | 26/8/1427


    أسس السياسة الشرعية ومستنداتها الشرعية ، هي أسس بقية المسائل الشرعية ؛ غير أنه يكثر استناد مسائلها على الاستدلال ( طرق الاستنباط ) ؛ ولما كان الأمر كذلك ؛ فيحسن المرور على الأدلة الشرعية الرئيسة 1 ؛ ثم بيان أهم طرائق الاستنباط ( ما يعرف مجازاً بالأدلة المختلف فيها ) ، على نحو تطبيقي موجز يبين كيفية الإفادة منها في مسائل السياسية الشرعية العملية إن شاء الله تعالى . وبيان ذلك كله على النحو الآتي :
    أولا : أسس السياسة الشرعية الرئيسة :
    الأول : الكتـاب ( القران الكريم ) .
    وهـو : كلام الله _تعالى_ حقاً ، لفظاً ومعنى ، نزل به جبريل على محمد _صلى الله عليه وسلم_ بلسان عربي مبين ، المعجز بنفسه ، المتعبد بتلاوته .
    قال الله تعالى : {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195) } [الشعراء ] .

    الثاني : السنّـة النبويـة .
    وهي في اصطلاح علماء أصول الفقه : ما صدر عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ ، غير القرآن ، من قول ، أو فعل ، أو تقرير . وإن شئت فقل هي : ما شرعه النبي _صلى الله عليه وسلم_ ، بياناً أو تأكيداً لما جاء في القرآن الكريم ، أو تأسيساً لما لم يرد فيه .
    حكم الرد إلى الكتاب والسنّة :
    والـرَّدُّ إلى الكتاب والسُّنَّة في تأصيل الأحكام ، من المُسَلَّمات ؛ بل هو من مستلزمات الإيمان ، التي اتفق على وجوبها أهلُ الإسلام ، سُنِّيِّهم و بِدْعِيِّهم ، وقد حكى هذا الاتفاق أبو العباس ابن تيمية رحمه الله .
    وهذان المصدران ظاهران ؛ وما سواهما من الأدلة متفرعة عنهما .

    الثالث : الإجمــاع .
    وهو في الاصطلاح الأصولي : " اتفاق مجتهدي عصرٍ ، من أمَّة محمد _صلى الله عليه وسلم_ بعد وفاته ، على أمرٍ دينيّ ". وقولهم : " على أمرٍ ديني " : المراد به أن يتعلق الإجماع بمسألة شرعيّة ، في أيّ مجال من المجالات : عبادات أو معاملات أو عقوبات ، أو غير ذلك من الأمور 2 وحجِّيَّة الإجماع ثابتة بالكتاب ، والسّنَّة ؛ يُكتفى بذكر دليل واحد منها ، وهو قول الله _سبحانه وتعالى_ : {فإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59 ] ؛ لأنَّه تعالى شرط في الرد إلى الكتاب والسنة وجود التنازع ؛ فدلَّ على أنَّ دليل الحكم عند عدم التنازع هو الإجماع ، وعلى أنَّ رد الحكم إلى الإجماع ردٌّ إلى الكتاب والسنة . ذكره أبو المظفر في قواطع الأدلة .

    الرابع : القيــاس (الميـزان) كما يعبر بعض العلماء :
    والقياس في الاصطلاح الأصولي : " إلحاق واقعة لا نصّ على حكمها ، بواقعة ورد النّصُّ بحكمها ، في الحكم لاشتراكهما في علّة ذلك الحكم " .
    وقد لخص الإمام الشافعي-رحمه الله تعالى- حقيقة القياس و كيفيّته في قوله : " كلّ حكم لله ورسوله وجدت عليه دلالة فيه أو في غيره من أحكام الله أو رسوله بأنّه حُكِم به ؛ لمعنىً من المعاني ، فنزلت نازلةٌ ليس فيها نصُّ حكمٍ - : حُكِمَ فيها حُكمَ النّازلة المحكوم فيها ، إذا كانت في معناها " ( الرسالة : 512 ) .
    وموضوعه : طلب أحكام الفروع المسكوت عنها ، من الأصول المنصوصة بالعلل المستنبطة من معانيها لِيُلحق كلّ فرع بأصله " قاله الروياني .
    وأمّا حجِّيَّته فثابتةٌ بالكتاب ، والسنَّة ، والآثار ، والإجماع .
    فمن الكتاب أدلة منها ، قول الله تعالى : {إِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] ؛ إذ ليس يخلو أمر الله تعالى بالرد إلى كتابه وسنة رسوله _صلى الله عليه وسلم_ عند التنازع ، من أحد ثلاث معانٍ :
    - إمّا أن يكون أمراً برد المتنازع فيه إلى ما قد تولى الله ورسوله الحكم فيه نصاٌ ، فهذا لا معنى له ؛ إذ أيُّ اختلاف يقع في هذا .
    - وإمّا أن يكون أمراً برده إلى ما ليس له بنظير ولا شبيه ، ولا خلاف أنّ ذلك لا يجوز .
    - وإما أن يكون أمراً بردِّه إلى جنسه ونظيره مما قد تولى الله ورسوله الحكمَ فيه نصَّاً فيستدلّ بحكمه على حكمه ، وهذا هو المعنى المتعيّن ؛ و هو القياس الشرعي .
    ومن السنَّة : قصة المرأة الجهنيّة التي جاءت النبي _صلى الله عليه وسلم_ ، فقالت : ( إنَّ أُمِّي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت ، أفأحج عنها ؟ ) قال : (( نعم حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء )) ؛ فهذا نص صحيح عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ ، صريح في مشروعيَّة إلحاق النظير بنظيره المشارك له في علَّة الحكم ؛ لأنَّه _صلى الله عليه وسلم_ بين إلحاق دَين الله تعالى بدَين الآدمي بجامع أن الكلَّ حق مطالب به تسقط المطالبة به بأدائه إلى أهله ، وهو واضح في الدّلالة على القياس .
    وأمَّا الإجماع ؛ فقد أجمع الصَّحابة رضي الله عنهم ، على العمل بالقياس في وقائع كثيرة اختلفوا فيها فصار كل واحد منهم إلى نوع من القياس ، فلم ينكر صاحبه ذلك منه ، مع إنكاره عليه قضيّة حكمه ، كمسألة الجدّ ، والمشتركة ، وميراث ذوي الأرحام ؛ فإن الاختلاف بينهم في هذه المسائل مشهور ، واحتجاجهم فيها من طريق القياس مذكور.
    وقد نقل الإجماع على حجيته والاتفاق على الرجوع إليه عند عدم النص ، غيرُ واحد من العلماء ؛ منهم : أبو حامد الغزَّالي ، وابن عبد البر ، وبدر الدين الزركشي ، وغيرهم .
    وقال أبو المظفَّر : " ذهب أكثر الأمَّة من الصَّحابة والتَّابعين وجمهور الفقهاءِ والمتكلِّمين إلى أنَّ القياس الشَّرعيَّ أصل من أُصول الشَّرع ويستدلُّ به على الأحكام الَّتي لم يرد بها السّمع " .
    ولهذا يُعدّ القياس رابع الأدلَّة المتفق عليها ، لأنَّ الخلاف فيه ضعيف جداً ، هذا إن لم يكن لفظيَّاً.
    والقياس الصحيح مُظْهِرٌ لحكم الله تعالى - الذي يحمله عموم معنى النص المَقِيْسِ عليه - لا مُثْبِتٌ له ابتداءً ؛ لأنّ مُثْبِتَ الحُكْمِ هو الله عز وجل ؛ فليس هو دليلاً مستقلاًّ ، وإنما هو طريق من طرق استثمار الأحكام من الأدلة السمعية ؛ للوصول إلى معنى اللفظ و معقوله ؛ و هو مما تعبدنا الله به كما مرّ .

    ثانياً : أسس السياسة الشرعية الاستنباطية ( الاستـدلال ) .
    الاستدلال يراد به : ما كان مستنداً للحكم غير النص والإجماع والقياس ، مما هو عائد إليها .
    وإن شئت فقل هو : محاولة الدليل الشرعي من جهة القواعد ، لا من جهة الأدلة المعلومة .
    وحقيقته : الاجتهاد الشرعي في استنباط حكم لم ينص عليه بعينه .
    هكذا عرفه في هذا الباب بعض من عبَّر به من علماء الأصول . والتعبير به تعبير بالحقيقة ، بخلاف التعبير بالأدلة المختلف فيها فهو تعبير مجازي عند أهل الأصول .
    وببيانه يتجلَّى المستند الشرعي التنظيريُّ للمستجدات في السياسة الشرعية ، كغيرها من المجالات الفقهية .
    وأدلة أصل " الاستدلال " كثيرة ، إجمالية وتفصيلية .
    وسيأتي ذكر بعضها ، مع جملة من أهم هذه الطرائق والمستنداتِ التي لها الصلة الأقوى في تأصيل السياسة الشرعية في عدد من الحلقات القادمة _إن شاء الله تعالى_ .


    ---------------
    1- حتى لا يُظن أنها ليست مستندا للمسائل السياسية الشرعية كما يظن بعض الباحثين ، ذلك أن من الباحثين من يظن أن أسس السياسة الشرعية هي ما يعرف بالأدلة المختلف فيها . وهذا ما يمنعه واقع العلم بمسائل السياسة الشرعية وطرق استنباطها ، كما سيتبيّن _إن شاء الله تعالى_ في الحلقات القادمة . وقد سبق ذكر بعض الشواهد السياسية التي استند فيها إلى الكتاب والسنة . مما يؤكِّد بطلان استبعاد كونها من أسس السياسة الشرعية أيضا .

    2- وعلماء الإسلام يريدون به إخراج ما لا يصح أن يكون موضوعاُ للإجماع ؛ كالاتفاق على حكم مسألة لُغَوِيَّة أو فلكيّة أو هندسية أو نحو ذلك من المسائل التي ليس الاتفاق عليها اتّفاقاً على حكم شرعيّ . وبهذا يظهر فساد ما زعمه بعض أساتذة القانون - ممن يَرجِعُ إلى كتبه كثيرٌ من الباحثين في القوانين وأصولها - من أنَّ هذا القيد يفيد إخراج أمور الدنيا ، موضحاً مراده بتمثيله لأمور الدنيا بالأحكام الدستورية ، وهذه لوثة من الفكر الغربي ، لم يَدُرْ بخلد علماء الإسلام أنَّ أحداً يظنه بهم فضلاً عن أن ينسبه إليهم .
    يتبع
    ادهم الشرقاوى
    ادهم الشرقاوى
    عضو ماسي
    عضو ماسي


    ذكر

    الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية - صفحة 2 Empty رد: الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية

    مُساهمة من طرف ادهم الشرقاوى الخميس سبتمبر 04, 2008 5:27 pm

    حجية العمل بالسياسة الشرعية


    د. سعد العتيبي | 18/8/1427


    من خلال ما سبق في بيان مدلولي السياسة الشرعية ، يتضح أنَّ أحكامها تقوم على الأدلة الشرعية النصيّة والاجتهادية والأصول الاستنباطية ؛ ولذلك فإنَّ من أهم أدلتها أدلّة أصولها ؛ إذ هي في حقيقة الأمر تنظيرٌ من تلك الأدلَّة تُرَاعَى فيه مقاصد الشريعة ، وتطبيقٌ تُرَاعَى فيه الظروف والأحوال والأعراف ؛ يتأكَّد ذلك بالنظر فيما ساقه العلماء من أدلَّة السياسة الشرعية بمدلولها الخاص وهو الذي سيركّز عليه في هذه الحلقات بشكل أظهر إن شاء الله تعالى ، وهي أدلَّة كثيرة جدّاً ؛ ويمكن إجمال ما استُدِل به في مناهج على النحو الآتي :
    النهج الأول : الاستدلال بشواهد السياسة الشرعيَّة من القرآن العظيم ، والسنَّة النبويَّة ، وسنَّة الخلفاء الراشدين ، وما جرى عليه عمل العلماء من أهل الفقه والدِّين ؛ وهذه من الكثرة بمكان ؛ لذا يكتفى بذكر بعضها :
    فمن شواهد السياسة الشرعية من القرآن العظيم :
    1- ما حكى الله تعالى في سورة الكهف ، من أعمال الخضر التي اعترض عليه بسببها موسى - عليهما الصلاة والسلام - لِمَا ظهر له من مخالفتها للشرع ؛ فلما نبَّأه بتأويلها وبين له ما قصده فيها من السياسة المبنيّة على المصلحة سلَّم له .
    قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله : " … قصة الخضر مع موسى لم تكن مخالفة لشرع الله وأمره ، … بل ما فعله الخضر هو مأمور به في الشرع بشرط أن يعلم من مصلحته ما علمه الخضر ؛ فإنَّه لم يفعل محرما مطلقا ، ولكن خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار ؛ فان إتلاف بعض المال لصلاح أكثره هو أمر مشروع دائما ، وكذلك قتل الإنسان الصائل لحفظ دين غيره أمر مشروع … فهذه القضية تدل على أنَّه يكون من الأمور ما ظاهره فساد ؛ فيحرِّمه من لم يعرف الحكمة التي لأجلها فعل ، وهو مباح في الشرع باطناً وظاهراً لمن علم ما فيه من الحكمة التي توجب حسنه وإباحته "1

    2- قول الله عز وجل في سورة يوسف : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } ؛ ففي هذه الآيات دلالة على صحة الاعتبار بالقرائن ، ودلالة الحال ، في القضايا السياسية الاستنباطية ؛ حيث ذكر الله عز وجل شهادة هذا الشاهد ، أي الشخص الذي شهد ليوسف صلى الله عليه وسلم بذكره شاهد الحال ، الذي هو قدّ القميص من دبر ؛ لأنَّ فيه تقديرا : شهد شاهد فقال أو ضمنت الشهادة معنى القول ؛ وذلك أنَّ العادة جرت في القميص أنَّه إذا جذب من جهة ( الخلف مثلاً ) تمزق من تلك الجهة ، ولا يجذب القميص من خلف لابسه إلا إذا كان مدبراً ؛ فكون القميص مشقوقاً من هذه الجهة دليل واضح على أنّه هارب عنها ، وهي تنوشه من خلفه ، ولم ينكر عليه ولم يَعِبْه ؛ بل حكى ذلك مقرِّراً له .
    3- قــول الله عز وجل في سورة الأنبياء : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) } ؛ فهـذان الحكمان صحيحان في الظاهر ؛ غير أنَّ الله تعالى أثنـى على الحكم المبني على السياسة الشرعية ، والفائدة الزائدة ؛ حيث قال الله عز وجل : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } .
    4- قول الله سبحانه وتعالى في سورة التوبة : { وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) } ؛ فإنَّ عقاب الثلاثة بالهجر على تخلفهم عن الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك ، ومنعهم من قربان نسائهم وهو منع من أمور مباحة لهم في الأصل ، مع الاكتفاء بقبول اعتذار غيرهم من المتخلفين ، هو من مقتضيات السياسة الشرعية .
    قال ابن العربي : " فيه دليل على أنَّ للإمام أن يُعاقب المذنب بتحريم كلامه على النَّاس أدباً له … وعلى تحريم أهله عليه " .
    ومن شواهد السياسة الشرعية في السنَّة النبوية :
    1- قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها : (( لَوْلا حَدَاثَةُ عَهْدِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ وَلَجَعَلْتُهَا عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّ قُرَيْشًا حِينَ بَنَتِ الْبَيْتَ اسْتَقْصَرَتْ وَلَجَعَلْتُ لَهَا خَلْفًا )) متفق عليه ؛ فتأسيس البيت على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم أمر مطلوب ، لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم ؛ خوفاً من مفسدة أعظم من مصلحته ؛ وهذا من أحكام السياسة الشرعية .
    2- تولي خالد بن الوليد رضي الله عنه إمرة المسلمين في غزوة مؤتة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، مع أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يُؤَمِّرْه فيها ، بل أثنى عليه ، مع ذكره تأمُّرَه من غير تأمير منه ، والحديث رواه البخاري ؛ وإنَّما مستند خالد بن الوليد رضي الله عنه ومن معه من الصحب الكرام : اقتضاء السياسة الشرعية المبنية على المصلحة الشرعية لذلك ؛ إذ كانت السياسة الشرعية تقتضي وجود قيادة للجيش ، وليس ثَمَّ نص يُرجع إليه .
    3- وقوله صلى الله عليه وسلم : (( لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاةِ فَتُقَامَ ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى مَنَازِلِ قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ )) متفق عليه ؛ وهذا من السياسة الشرعية .
    4- قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما استأذنه في قتل عبد الله بن أبي رأس المنافقين : (( دَعْهُ لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ )) متفق عليه ؛ حيث مُنِعَ من قتل المنافقين في ابتداء الإسلام ؛ لأنَّ مصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل .
    ومن شواهد السياسة الشرعية من سنَّة الخلفاء الراشدين :
    1- جمع أبي بكر الصديق رضي الله عنه للمصحف رواه البخاري ؛ لمَّا كثر القتل في القراء .
    2- أمر عمر رضي الله عنه بجلد شارب الخمر ثمانين جلدة ، وكان شارب الخمر يجلد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر رضي الله عنه ، وصدراً من خلافة عمر رضي الله عنه ، أربعين . متفق عليه ؛ فهذا من السياسة الشرعية . قال النووي - مُبَيِّناً حجة الشافعي ومن وافقه في أنَّ حدَّ الخمر أربعين ، وما زاد تعزير - : " وأمَّا زيادة عمر ، فهي تعزيرات ، والتعزير إلى رأي الإمام : إن شاء فعله وإن شاء تركه ؛ بحسب المصلحة في فعله وتركه ؛ فرآه عمر ففعله ، ولو يره النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا علي فتركوه .
    3- تحريق عثمان رضي الله عنه للمصاحف المخالفة للمصحف الذي جمع النَّاس عليه ؛ فهذا عمل بمقتضى السياسة الشرعية .
    4- تحريق علي رضي الله عنه للزنادقة ؛ فهذا من السياسة الشرعية . قال ابن القيم : " ومن ذلك [ السياسة الشرعية ] تحريق علي رضي الله عنه الزنادقة والرّافضة ، وهو يعلم سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل الكافر ؛ ولكن لمَّا رأى أمراً عظيماً ، جعل عقوبته من أعظم العقوبات ؛ ليزجر النَّاس عن مثله " .
    وشواهد ذلك كثيرة جدّاً . هذا مجمل ما استدلَّ به العلماء على حجيَّة العمل بالسياسة الشرعية ، وهذه بعض شواهده ، من القرآن العظيم ، ومن السنَّة النبوية ، وسنَّة الخلفاء الراشدين ؛ وغيرها من الأدلَّة والشواهد كثير ؛ وما عُرِض من تطبيقاتٍ ، كافٍ في تأكيد حجيَّة العمل بها ، وأنَّها من مستندات الفقه الشرعي ، التي يلتزمها أولوا الأمر العادلون ؛ والأمر في ذلك بيِّنٌ و لله الحمد والمنَّة .
    النهج الثاني : الاستدلال بـ( أدلَّة أصول السياسة ، ومستنداتها ) وهذه ستأتي مفردة إن شاء الله تعالى في موضوع : أسس السياسة الشرعية .
    النهج الثالث : الاستدلال بما ورد من النصوص في إثبات قاعدة ( رفع الحرج ) ؛ التي لها تعلق بجميع أصول السياسة الشرعية ، وسيُكتَفي بما يُنثر من أدلتها في الاستدلال لأسس السياسة الشرعية ، إذ إنَّها لا تنفك عنها .
    النهج الرابع : الاستدلال بسنَّة الله عز وجل في التشريع منذ بدء الخلق ؛ من حيث مراعاتها في اختلاف الأحكام والشرائع ، واختلافَ الأزمان والأحوال ؛ فظهر أنَّها سنَّة الله U في سائر الأمم ؛ وأنَّ شرع من قبلنا شرع لنا ، ما لم يرد شرعنا بخلافه ؛ فيكون في ذلك تنبيه إلى اختلاف الأحكام عند اختلاف الأحوال في زماننا ؛ وأنَّها من قواعد الشرع ، وأصول القواعد ؛ وليست بدعاً عما جاء به الشرع .
    وإلى الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى عن أسس السياسة الشرعية بطريقة تنظيرية تطبيقية .
    --------------
    1- وهناك توضيح لهذا الحكم ، سيأتي إن شاء الله تعالى في الحديث عن حجية المصلحة المرسلة ضمن أسس السياسة الشرعية .
    يتبع
    ادهم الشرقاوى
    ادهم الشرقاوى
    عضو ماسي
    عضو ماسي


    ذكر

    الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية - صفحة 2 Empty رد: الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية

    مُساهمة من طرف ادهم الشرقاوى الخميس سبتمبر 04, 2008 5:30 pm

    مدلول السياسة الشرعية / 2


    د. سعد بن مطر العتيبي | 17/8/1427


    ثانياً : المعنى الاصطلاحي للسياسة الشرعية :
    مصطلح السياسة الشرعية من المصطلحات التي لم تستعمل للدَّلالة على أمر واحد ، بل مرّ بمدلولات عدَّة ؛ نتيجة تَطّوُّر مفهومه عند الفقهاء ، تبعاً لمعاناة نقله من التطبيق العملي إلى التنظير العلمي ، التي استغرقت زمناً لا بأس به ، كما هو الشأن في العلوم التي تملي البحثَ فيها الحاجاتُ المُتجدِّدَة ، وتراخي المسائل المستجدَّة من حيث الزمن ، في القرون الماضية ، ونتيجة إطلاقه على أنواع من العلوم عند من كتبوا في غير الأحكام الفقهية ؛ فلفظ " السياسة " قد استعمل للدلالة على أكثر من معنى .
    وقد عرّف الفقهاء - المتقدمون والمتأخِّرون - السياسة الشرعية بتعريفات كثيرة منها العام ، ومنها الخاص ، وأضاف إليها عدد من الباحثين صياغات جديدة حاولوا فيها ضبط المفهوم .
    وسأكتفي بإيراد تعريفين منهما :
    الأول : تعريف ابن عقيل الحنبلي - رحمه الله - للسياسة الشرعية بأنَّها : " ما كان من الأفعال ، بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح ، وأبعد عن الفساد ، وإن لم يشـرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا نزل به وحي " .
    والثاني : تعريف ابن نجيم الحنفي - رحمه الله - للسياسة الشرعية بأنَّها " فعل شيء من الحاكم ؛ لمصلحة يراها ، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي " .
    وحتى لا يُستطرد بالدخول في شروح التعريفات وبيان ما لها وما عليها ؛ فإنه يُكتفى بذكر ما خلصت إليه الدراسة الاستقرائية من تعريف للسياسة الشرعية ، وذلك من بالنظر المستفاد من واقعِ التدوين السياسي الذي ألفه حَمَلَة العلوم الشرعية ، ومن طبيعةِ المسائل التي أفردها بالتدوين فقهاء الشريعة ؛ إذْ يتضح أنَّ ثمَّة منهجين في التدوين السياسي الشرعي :
    أحدهما : منهج يغلب عليه الجانب الخُلقي والاجتماعي .
    وثانيهما : منهج فقهي شرعي ؛ ينير للحكّام وأولي الأمر ، أحكام التدابير ، وآلياتها ، و ضوابط شرعيتها .
    ويمكن الخلوص بمدلول السياسة الشرعية من خلال استقراء مضامين المؤلفات الفقهية في السياسة الشرعية إلى معنيين :
    الأول : معنى عام ، مرادفـ لـ( الأحكام السلطانية ) ، التي هي : اسم للأحكام والتصرفات التي تدبر بها شؤون الدولة الإسلامية ، في الداخل والخارج ، وفق الشريعة الإسلامية ، سواء كان مستند ذلك نصاً خاصاً ، أو إجماعاً أو قياساً ، أو كان مستنده قاعدة شرعية عامة ؛ وعليه :
    فالسياسة الشرعية بالمعنى العام : تشمل الأحكام والتصرفات التي تدبّر بها شؤون الأمة في حكومتها ، وتنظيماتها ، وقضائها ، وسلطتها التنفيذية والإدارية ، وعلاقتها بغيرها من الأمم في دار الإسلام وخارجها ، سواء كانت هذه الأحكام مما ورد به نص تفصيلي جزئي خاص ، أو مما لم يرد به نص تفصيلي جزئي خاص ، أو كان من شأنه التبدل والتغير ، تبعاً لتغير مناط الحكم في صور مستجدة 1
    ومعنى خاص ، مندرج في السياسة الشرعية بالمعنى العام ( الأحكام السلطانية ) ؛ واندراجه فيها ، من جهة طبيعة الأحكام ، وأصول تشريعها 2 ؛ إذْ يلْمَحُ في إفراد مسائلها ، عدمُ ثبات الحكم ، تبعا لاختلاف مناطه 3
    فالسياسة الشرعية بالمعنى الخاص هي :
    ( كل ما صدر عن أولي الأمر، من أحكام وإجراءات ، منوطة بالمصلحة ، فيما لم يرد بشأنه دليل خاصّ ، متعيّن ، دون مخالفة للشريعة ) .
    وهذا تعريف يحتاج إلى شرح ، وبيان لمحترزاته ، وذلك على النحو التالي :
    - قوله : ( ما صدر عن أولي الأمر ) : تعريف للسياسة الشرعية ببيان جهة الاختصاص بالنظر في مسائلها ، والحكم بها ؛ وهم ( أولو الأمر ) : العلماء والأمراء ؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله : "… والتحقيق أنَّ الأمراء إنَّما يُطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم ؛ فطاعتهم تبع لطاعة العلماء ؛ فإنّ الطاعـة إنما تكون في المعـروف وما أوجبه العلم ؛ فكما أنّ طاعة العلمـاء تبع لطاعـة الرسول ، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء " ؛ فذكْرُهم هنا لبيان جانب السلطة في السياسة الشرعية ، وعلى فرض بلوغ الأمير درجة الاجتهاد تبقى السياسة في جانب الشورى وما يتفرع عنها من أحكام .
    وعليه ؛ فالسياسة الشرعية ليست محصورة فيما يصدر من حاكم ، بل تشمل بعض فتاوى المفتين من غير أهل الولاية المنصوبين ، فإنها قد تكون من باب السياسة الشرعية ، كما أشار إلى ذلك بعض العلماء ، ومن ذلك قول عبد الواحد بن الحسين الصيمري رحمه الله (ت/386) : " إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتي العامي بما فيه تغليظ ، وهو مما لا يعتقد ظاهره ، وله فيه تأويل ، جاز ذلك زجراً له " ( ذكره النووي في مقدمة المجموع ) ، وهذا من لبّ السياسة بمعناها الخاص كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
    - وقوله : ( من أحكام وإجراءات ) تعريف للسياسة ببيان شمولها لناحيتين : نظرية ، و تطبيقية .
    فالأولى : ما يلزم سياسةً من فِعْلٍ أو تَرْكٍ ، سواء كانت في شكل أنظمة وقوانين ، أو فتوى ، أو غيرها ؛ وهي المعبّر عنها بالـ( الأحكام ) .
    والثانية : ما كان محل فعل وتنفيذ ، وحركة وتدبير ؛ وهي المعبّر عنها بـ (الإجراءات) أو الآليات .
    - وقوله : ( منوطة بالمصلحة ) ، بيان لارتباط السياسة الشرعية بمراعاة المصلحة ، على اختلاف مستنداتها شرعاً ؛ وأنَّ مجالها : الأحكام المُعَلَّلَة ، ومن ثمَّ فلا بد أن تصدر عن اجتهاد شرعي ؛ وعليه ، فهو قيد يخرج به ما يلي :
    1) أحكام العبادات والمُقَدَّرات ومن باب أولى مسائل الاعتقاد ؛ فليست مجالاً للسياسة الشرعية ، من حيث هي .
    2) الأحكام والإجراءات الصادرة عن جهل وهوى ؛ فليست من أحكام السياسة الشرعية ، لكنها لو وافقت أحكام السياسة الشرعية ، جازت نسبتها إليها ، مع إثم مصدرهـا ؛ لتصرفه عن جهـل وهوى . ( ينظر : مجموع فتاوى ابن تيمية : 29/43 وما بعدها ) .
    - وقوله : ( فيما لم يرد بشأنه دليل خاص مُتَعَيِّن ) ، قيد يُخرج الأحكام التي ورد بشأنها دليل خاص مُتَعَيِّن ؛ فكلمة ( دليل ) تشمل النص ، والإجماع ، والقياس ؛ فالدليل هنا يقابل ( الاستدلال بطرائق الاستنباط أو ما يعرف بالأدلة المختلف فيها ) .
    وكلمة ( خـاص ) أي : بحكم المسألة محلَّ النظر ؛ بأن يثبت في حكمها دليل جزئي تفصيلي ؛ فما كان شأنه كذلك ، فليس من مسائل السياسة الشرعية .
    وكلمة ( مُتَعَيِّن ) تُخرج المسائل الثابتة اللازمة ، التي لا تتغير أحكامها بحال ؛ إذ إنَّها مُتَعَيِّنة الحكم ، ليس أمام أولي الأمر سوى تنفيذها . كما يدخل بهذه نوعان من المسائل هما :
    1) المسائل التي ثبت في حكمها أكثر من وجه ، لوجود دليل خاص لكل وجه ؛ بحيث يُخَيَّر أولوا الأمر بينها ، تبعاً للأصلح ؛ كالقتل والمنّ والفداء ، في مسألة الأسرى .
    2) المسائل التي ورد في حكمها دليل خاص ، لكنَّ مناط الحكم فيها قد يتغيَّر ، ومن ثم تتغيّر الأحكام تبعاً لذلك ؛ كالمسألة التي يجيء حكمها موافقاً لعرف موجود وقت تَنَزّل التَّشريع ، أو مرتبطاً بمصلحة مُعَيَّنة ؛ فيتغيّر العرف ، أو تنتفي المصلحة ؛ ومن ثم يتغيّر الحكم تبعاً لذلك ، لا تغيُّراً في أصل التشريع .
    - وقوله : ( دون مخالفة للشريعة ) قيد مهم ، يُخرج جميع أنواع السياسات المنافية للشريعة ؛ فليست من السياسة الشرعية في شيء .
    وعُبِّرَ بنفي المخالفة ؛ لأنَّه المعنى الصحيح لموافقة الشريعة ؛ فإنَّ ما جاءت به الشريعة ، وما ثبت عدم مخالفته لها ، هو في الحقيقة موافق لها : الأول من جهة النصوص ، والثاني من جهة القواعد والأصول ؛ فعدم مناقضة روح التشريع العامَّة والمقاصد الأساسية ، والأصول الكليَّة - ولو لم يرد بها نص خاص بعينه - هو ضابط السياسة الشرعية ، الذي يميزها عن غيرها من السياسات .
    بهذا تمَّ الحديث عن المعنى الاصطلاحي للسياسة الشرعية ، الذي دعت إلى إيضاحه وبيانه ، نظرة الاشتباه تجاهه ، حتى لدى بعض من لهم إليه انتماء ، فضلاً عن عامَّة طلاب العلم الشرعي ، بَلْه دارسي القوانين الوضعية ، ممن قلَّت بضاعتهم في علوم الشريعة الأساسية .

    ويليه - إن شاء الله تعالى – الحديث عن حجية العمل بالسياسة الشرعية .
    ------------------
    الهوامش
    1) وهذا المدلول مأخوذ من استقراء مؤلفات السياسة الشرعية ذات المنهج الفقهي الشرعي الشامل ، التي يمكن تقسيمها على النحو التالي :
    أ - الأحكام السلطانية الشاملة . ( التي تشمل أحكام الإمامة العظمى وما يتفرع عنها من ولايات داخل دولة الإسلام أو خارجها ) . والسياسة عند مؤلفي هذا الفنّ لها إطلاقات ، يمكن حصرها في ثلاثة معان :
    الأول : إطلاق السياسة على : ولاية شؤون الرعية ، وتدبيرها أمراً ونهياً ، سواء صدر ذلك من الإمام ، أو ممن دونه من الأمراء والوزراء والقضاة ، ونحوهم .
    الثاني : إطلاقها على : أحكام الإمامة العظمى أو الخلافة ؛ من حيث أهلية الحاكم ، وما يجب عليه ، وما يجب على الرعية نحوه ، والأحكام التي منحها الشارع الحكيم للوالي ليتمكن من رعاية من تحته .
    الثالث : إطلاقها على : التعزيرات الشرعية . فالأحكام السلطانية الشاملة ، تعالج السياسة الشرعية بهذا المفهوم الواسع .
    ومن المؤلفات في هذا المعنى كتاب : الأحكام السلطانية والولايات الدينية لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي ؛ ومثله : الأحكام السلطانية ، للقاضي أبي يعلى الحنبلي .
    ب - الأحكام السلطانية التي تحكم السياسة الداخلية . وقد يجيء فيها شيء من أحكام السياسة الخارجية ، غير أنَّه يكون مقتضباً . ومن المؤلفات في هذا المعنى كتاب : السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ، لأبي العبَّاس ابن تيمية ، وإن كان لا يقتصر على هذا المدلول من جهة المضمون .
    ج - الأحكام المتعلقة بطرق القضاء ، ووسائل تحقيق العدالة . ويكاد ينصبّ الحديث فيها على الأحكام التي لم يرد بشأنها نصوص خاصّة ، غيرَ أن البحث فيها لا ينحصر في ذلك .ومن المؤلفات في هذا المعنى كتاب : الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن قيم الجوزية . ويسمى هذا الكتاب أيضاً : الفراسة المرضية في أحكام السياسة الشرعية .


    2) وهذا مأخوذ من استقراء مؤلفات السياسة الشرعية ذات المنهج الفقهي الشرعي الخاص ، ويمكن التعبير عنه بالأحكام الفقهية للمسائل التي لم يرد بشأنها نص تفصيلي خاص يمكن إدراجها تحته ، أو التي من شأنها التَّغّيُر والتبدُّل في المناط . والأحكام في هذا القسم توجد ضمن الأقسام السابقة ، إضافة إلى كتب الفقه العامة لشمول موضوعاتها وتناثر تلك الأحكام بينها ، أو حتى الكتب السياسية المتقدمة المعنونة بما لا يوحي بالشمول ؛ فكتاب : ( الخراج ) ، لأبي يوسف – مثلا - من الكتب التي لا يجد الباحث عناء في استخراج كثير من هذه الأحكام منها .
    ولكن لعل من أشهر موضوعات السياسة الشرعية بهذا المعنى : أحكام التعزير ، ومن المؤلفات المفردة فيه : السياسة الشرعية ، لإبراهيم بن يحيى خليفة المشهور بـ"ددة أفندي"(ت/973) ؛ وكذلك طرق القضاء ، ومن المؤلفات فيها : الطرق الحكمية ، لابن قيم الجوزية ، المذكور آنفا .
    وقد ظهر في العصور المتأخرة الاعتناء بهذا القسم ، وظهرت دعوات بإفراد أحكامه ، وجمع تطبيقاته من المدونات الفقهية ، و ما يُظن وجودها فيه من مصنفات ، وصارت السياسة الشرعية في هذا العصر مقرر تخصص في عدد من المدارس العلمية النظامية من كليات ومعاهد ، بل خصصت له أقسام علمية في عدد منها تحت مسميات مختلفة .

    3) سيأتي بيان ذلك في شرح تعريف السياسة الشرعية بمدلولها الخاص وفي ذكر الشواهد والأمثلة إن شاء الله تعالى
    يتبع
    ادهم الشرقاوى
    ادهم الشرقاوى
    عضو ماسي
    عضو ماسي


    ذكر

    الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية - صفحة 2 Empty رد: الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية

    مُساهمة من طرف ادهم الشرقاوى الخميس سبتمبر 04, 2008 5:38 pm

    مدلول السياسة الشرعية / 1


    د. سعد بن مطر العتيبي | 30/7/1427


    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله، أما بعد ..
    فقد اقترح عدد من الأفاضل في موقع المسلم وغيره ، وضع مقالات في السياسة الشرعية : مدلولاً ومضموناً ، مع شواهد شرعية وتطبيقات عصرية ، للإفادة منها علماً وعملاً بعون الله وتوفيقه ؛ وذلك لما لفقه السياسة الشرعية من أهميَّة علميّة في صحة الاستنباط ، وضمان وسطيَّة المنهج ، والقدرة على استشراف مستقبل العمل الإسلامي ، حكومياً كان أو أهلياً ، وما يترتب على الإفادة من كل ذلك في مصلحة الإسلام والأمة الإسلامية ..
    وتحقيقُ هذا الاقتراح ، أمرٌ كان يتردّد في نفسي ، لما لا يَخفى من نقصٍ في إظهار هذا العلم ونشره ، مع أهميته وخطورةِ آثار استبعاده في الحياة الإسلامية العلميّة ثم العملية ، وكنت أطمح أن يكفيني خطورة الحديث فيه – على نحو ميسر - بعض أساتذة السياسة الشرعية الكبار ، ولكن يبدو أن لكل جيلٍ وسيلته ، كما أنَّ على كلٍ واجبه ..
    وقد استأذنت بعض مشايخي في هذا الفن في تنفيذ هذا المقترح ( وضع مقالات تعريفية بالسياسة الشرعية ونشرها تباعاً _إن شاء الله تعالى_ فوجدت تأكيداً على أهمية الفكرة ، و ترحيباً بتنفيذها ، مما شجّعني وجرّأني على عدم التَّأخر فيه .
    ومن هنا رأيت أن أبدأ هذه المقالات مستعينا بالله تعالى ، وأن يكون الحديث في ذلك – إن شاء الله تعالى – على نحو موجزٍ ، يفيد طالب العلم المتطلِّع نحو أُفق علميٍّ عمليٍّ وسطيّ المنهج ، يستنهضُ الهمّة ، ويدفع نحو مواصلة المهمَّة ، يستنير بالدليل ، ويدع شاذّ الأقاويل ، ويقوي الإيمان بالحقائق ، ولا ينسى تهذيب الرَّوح بالرقائق ، يستعين بالله ، ويقصد رضاه ..
    وإنِّي لأرجو أن لا يدّخر مُطّلعٌ على هذه المقالات ، يجد فيها ما يستوجب تصحيحاً أو ملاحظة أو نصحاً – جهداً في إيصال ذلك إليَّ ، عبر موقع المسلم ضمن نافذة التعليقات على هذه المقالات ، أو بواسطة البريد الرقمي الخاص ، أو غيره من وسائل الاتصال ، وليحتسب في ذلك أجر النصح و التصحيح إن وجد ما يتطلبه .
    ولمَّا كان كتاب الله _تعالى_ أصل علوم الدين وعماد علوم الشريعة الأول ، فلنبدأ الأضواء بآية من آياته ، نستلهم منها إرشاداً إلى الاهتمام بهذا العلم والعناية به .. قال الله _تعالى_ لنبيه محمد _صلى الله عليه وآله وسلم_ : "قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ "(يوسف108) .. ومن يتأمَّل هذه الآية يجدها قد شملت – فيما شملت - جوانب السياسة الإسلامية التي تندرج في أصل العلائق الإسلامية - التي مدارها على الدعوة بشمولها ، قولاً وعملاً - في كلمة ( بصيرة ) !
    فالسياسة الشرعية جزء من البصيرة التي نجدها حيَّة في سنّة النبي _صلى الله عليه وسلم_ وسيرته المباركة في الدّعوة وتصرفاته في الولاية بجميع مجالاتها الرئيسة ..
    فما هي السياسة الشرعية ، وكيف كانت جزءاً من البصيرة النبوية ، التي يسير عليها أتباعه النبي _صلى الله عليه وآله وسلم_ ؟
    هذا ما سيكون جوابه في المقالات التالية _إن شاء الله تعالى_ .
    أولاً : مدلول السياسة الشرعية
    مدخل : قبل بضع سنوات .. في يوم عرفة وعلى أرض عرفات ، سألني أحد الإخوة الأمريكيين ممن دخلوا في الإسلام ، ولم يكن من قبل من المسلمين قائلاً : سمعت عن السياسة الشرعية ! فهل في الإسلام سياسة ؟
    قلت له : أنت مسلم حاج ، فلا ينبغي أن يخفى عليك أنَّ الإسلام عقيدة وشريعة ، أي : عقيدة وقانون ! أليس هذا هو واقع الإسلام كما عرفته ؟!
    ثم أخذت أكشف شبهته بأمثلة يعلمها ، لكنه لا يدرك انتماءها العلمي لمفردات هذا الفن ، كما ذكرت له عدداً من مؤلفات بعض أعلام أمتنا القدماء - منذ القرن الأول الهجري - في السياسة الشرعية .
    أولاً : المعنى اللغوي للسياسة :
    تستعمل السياسة في اللغة بمعنى : الفساد ، أو الجبلة ، أو التدبير .
    والسياسة بمعنى : التدبير ؛ هي الاستعمال المقصود هنا .
    ومن شواهده قول النبي_صلى الله عليه وسلم_: (( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلّما هلك نبيّ ، خَلَفَه نبيّ ، وإنَّه لا نبيَّ بعدي )) رواه البخاري ح (3455) ، ومسلم ح (1842) ، قال النووي أي : " يتولون أمورهم كما تفعل الأمراء والولاة بالرعية " .
    وقول عمر بن الخطاب_رضي الله عنه_: ( قد علمت ورب الكعبة متى تهلك العرب ؟ إذا ساس أمرهم مَنْ لم يصحب الرسول ، ولم يعالج أمر الجاهلية ) رواه ابن سعد في : الطبقات ، ورجاله ثقات .
    ومنه قول عمرو بن العاص يصف معاوية - رضي الله عنهما - : ( إني وجدته … الحسن السياسة الحسن التدبير ) ذكره الطبري في تاريخه .
    وقول هند الصغرى بنت النعمان بن المنذر المعروفة بحُرَقة :
    فبينا نسوس الناس والأمر أمْرُنَـا إذا نحـن فيهم سوقـة نتنصف
    والعرب تقول : سُوِّس فلان أمْر بني فلان ، أي : كلِّف سياستهم ، وملك أمرهم .
    ومن هنا يتبين أنَّه لا عبرة بما قيل من أنها كلمة غير عربية الأصل (خلاصة هذا القول : أنَّ كلمة ( سياسة ) معرب ( سه يسا ) ، فـ ( سه ) بالفارسية تعني : ثلاثة و ( يسا ) بالمغولية تعني : التراتيب ، فكأنه قال : التراتيب الثلاثة ) ؛ ولهذا وصف شهاب الدِّين الخفاجي (975-1069) - القول بأنَّها مُعَرَّبة بقوله : " وهذا غلط فاحش ؛ فإنَّها لفظة عربيَّة مُتَصَرِّفة … وعليه جميع أهل اللغة " .
    والحديث في المعنى اللغوي لكلمة ( السياسة ) لا يخلو من فوائد وطرائف ولطائف ؛ لكنني حاولت الاكتفاء بما يكفي في بيان المراد .. وربما أضفت ما قد يُحتاج إليه منها عند وجود مناسبة له _إن شاء الله تعالى_ .
    ثانياً : المعنى الاصطلاحي للسياسة الشرعية :
    مصطلح السياسة الشرعية من المصطلحات التي لم تستعمل للدَّلالة على أمر واحد ، بل مرّ بمدلولات عدَّة ؛ نتيجة تَطّوُّر مفهومه عند الفقهاء ، تبعاً لمعاناة نقله من التطبيق إلى التنظير التي استغرقت زمناً لا بأس به ، كما هو الشأن في العلوم التي تملي البحثَ فيها الحاجاتُ المُتجدِّدَة ، وتراخي المسائل المستجدَّة من حيث الزمن ، في القرون الماضية ، ونتيجة إطلاقه على أنواع من العلوم عند من كتبوا في غير الأحكام الفقهية ؛ فلفظ " السياسة " قد استعمل للدلالة على أكثر من معنى .
    وهذا ما سيتم الحديث عنه في الحلقة التالية _إن شاء الله تعالى_ .

    00000000000

    مع خالص احترامى
    ادهم الشرقاوى

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 07, 2024 11:40 am