الأفكار الإبداعية: من الإشادة إلى التهميش
ما أن تلمع فكرة قد يظن صاحبها أنها إبداعية أو تحمل في طياتها شيئاً جديداً حتى يبدأ خيال عقله بالتحليق في سماء الفكر وأرض التطبيق متخيلاً مدى الجديد فيها ونتائج تطبيقها، حالماً بأن يراها واقعاً يلمس أثره على الناس من حوله. لكن هذه الأفكار الإبداعية كما غيرها من الكائنات لها دورة حياة تبدأ بها، فإما أن تنتهي مبكراً بوأدها أو تعيش فتعمر طويلاً. فأين تذهب معظم هذه الأفكار؟ وكيف نعمل على إبقاءها على قيد الحياة؟
إن أهم خطوة في حياة الأفكار الإبداعية هي ولادتها !! لأن الواقع والتاريخ يقولان أن أغلب الأفكار الإبداعية تموت في عقول أصحابها قبل أن تولد. فعقولنا بكل تأكيد حبلى بالأفكار الإبداعية والخلاقة ولكننا نأد معظمها بسكوتنا عن إطلاقها للعلن خشية الفشل أو الرد. لذلك أرى أن تدريب العقول والألسنة على طرح كل ما هو جديد وغريب سيؤدي إلى ما هو مبدع، فكل الإبداعات كانت أفكاراً غريبةً في مجتمعها، ثم ما لبثت أن أضحت أفكاراً واقعيةً قابلةً للتطبيق. فإذا اجتازت الأفكار هذه المرحلة بات على أصحابها مهمة صعبة أخرى تتمثل في حسن إداراتها وتسويقها للإستفادة منها كما يجب. وهنا لا بد من التعرض للطريقة التي تستقبل بها الأفكار الوليدة، والتي قد تكون الإعتراضَ والتهميشَ والإنتقاد – وهو أمر متوقع مع كل أمر جديد – أو قد تستقبل ب"الإشادة" والمديح.
إن الإشادة بالأفكار الإبداعية يدفع أصحابها للتفاؤل والمبالغة بتوقعاتهم بتبني أفكارهم وتطبيقها، لكن الواقع يشير إلى أن الإشادة لا تعدو أن تكون كلمات تخدير وامتصاص لإندفاعة صاحب الفكرة، الأمر الذي سينتهي إلى وعود وأماني لا تجد – في أغلب الأحيان – طريقها إلى أرض الواقع، وهو ما يعني عملياً تهميشها. وبالتالي تمسي الإشادة والتهميش وجهان لعملة واحدة غير رائجة هي "الأفكار الإبداعية". قد يبدو في هذا القول كثير من التشاؤم الذي يغذيه واقع الإبداع والمبدعين في عالمنا العربي ولكنها صعوبة تشخيص الداء لنبدأ رحلة البحث عن الدواء، والذي أجد أول الخيط فيه أن يعمل أصحاب الأفكار الإبداعية على أن يتم تقبل أفكارهم الجديدة بشكل مجتزأ بحيث يرضي الفئة المستهدفة من الفكرة من غير أن يمس ذلك جوهر الفكرة والجديد فيها، أي محاولة التدرج في تطبيقها بما يسمح به الواقع، الأمر الذي يمنح الآخرين فرصة استكشاف آفاق الفكرة الإبداعية ولمس بعض نتائج تطبيقها كاملةً على أرض الواقع.
وأخيراً وليس آخراً، تبقى همة صاحب الفكرة وإيمانه بها وسعيه ليراها حيةً بين الناس هو وحده الكفيل بأن ترى الفكرة النور ولو بعد حين، عندها سيعلم الذي ظلموها كم من الخير كانوا سيمنعون عن أمتهم في وقت هي أشد ما تحتاج فيه إلى ذلك.