الرئيسية
سأتناول في هذا الموضوع المواقف الغامضة للبشر تجاه البحر وعلاقتهم به واستجابتهم له , فمن ناحية هناك الرهبة , والخوف من المجهول الذي لا يمكن التنبؤ بما يخبئه , واستحالة السيطرة على قواه المدمرة , ومن ناحية أخرى هناك التحدي والمغامرة والإبداع والخيال والقصص العاطفية , والبحر كعنصر لا غنى عنه في الحياة ومصدر للغذاء والطاقة وجسر بين أناس وثقافات متباعدة , ومن منا لم يمر في حياته لهذا الشعور المتضارب عندما يبحر في أعالي البحار ؟ ولقد عبر الشاعر الساخر أركيبوس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد عن ذلك بقوله :
لكم هو رائع أن ترقبي البحر من البر
إيه ...إياك والأبحار في السفن !
ومحاولة الكشف عن علاقة الإنسان بالبحر تقودنا إلى الإسطورة والخرافة , وينبغي لنا أن نتبع القاعدة الثابتة في الأساطير وهي أنه (أيا كان ما يحدث بين الآلهة في السماء , فإنه يمثل انعكاسا لأحداث الأرض) , ففي التفكير الشعري الأسطوري للشرق الأدنى القديم كان عنصر الماء يفهم على أنه محيط أولي – أي مكون رئيسي في خلق العالم يرتبط بالعالم السفلي , وهذه المياه التي تشكلت من عالم الفوضى هي التي خرجت منها الحياة في كل مكان , والبحر أحد مظاهرها , وكان ينظر إليه على أنه تهديد دائم للأرض ومكانها , ولكنه يتمتع ببعض الخصائص الإيجابية التي يتعين وضعها في الحسبان , وبالمثل فإن المياه العذبة تسقط من السماء وعلى الرغم من أنها ترافقها السحب والعواصف الخطرة والصواعق فإنها تجلب البركة للنمو وتنشر الخضرة وتوفر القوت وضروريات الحياة .
ولسوف تساعدنا بعض المقتطفات المأخوذة من الكتابات المتعلقة بهذا الموضوع في تعريف القارئ بالمصادر التي استمدت منها والأمثلة التي أوردتها عنل مستمدة من الثقافات الشرقية في مصر وما بين النهرين وكنعان وفلسطين , وقد تجنبت الحديث عن اليونان نظرا لاتساع نطاق البحر المحيط بها وتشعب الكتابات الكثيرة التي تعبر عن ذلك , بحيث اصبحت فئة مستقلة بذاتها , آمل في دراستها على نحو مستقل في المستقبل , ومن بين الثقافات الأربع فأن الثقافتين الأوليين نهريتان , حيث النيل في مصر ودجلة والفرات فيما بين النهرين تمثل جميعا شريان الحياة , في حين كانت الثقافة الثالثة كنعان (فينيقيا) في وقت لاحق ثقافة بحرية بمعنى الكلمة , أما فلسطين فقد كانت على النقيظ من الثقافتين النهرية والبحرية حيث نشأت على حافة الصحراء بتاريخها الذي تحيط له بيئة جبلية أرضية بعيدة عن البحر .
والسجلات القديمة في مصر عن الكتابات الأسطورية المتعلقة على نحو واضح بالبحر قليلة , ولا يبدو ذلك باعثا على الإستغراب , على الرغم من أن صعيد مصر , حيث أرسيت أسس الدين , لم يكن منعزلا تماما عن العالم الخارجي , فقد كانت المناطق الآهلة بالسكان تقع على ضفاف النيل تحيط بها الصحراء من الجانبين وكان البحر ككيان مادي متواريا عن الأنظار , وهناك وثيقة مصرية من نوع آخر – قصة تتضمن عناصر أسطورية شعرية – وهي قصة الملاح ذو السفينة الغارقة والتي تبدو لأول وهلة كسلف قديم لحكاية (ربنسون كروزو) وهي حكاية عن رحلة بحرية في البحر الأحمر لبعثة يقودها مبعوث للملك لم تنجح في الوصول إلى نهايتها نظرا لأن عاصفة مريعة حطمت السفينة قبالة أحدى الجزر ولم ينج من ركابها سوى شخص واحد.
وتحكي القصة مغامرة نجاته , والمقتطفات التالية سوف تزودنا ببعض التفاصيل (إيرمان 1927) :
(بدأت الرحلة إلى مناجم الملك وتوجهت إلى البحر حيث ركبت سفينة يبلغ طولها مائة وعشرين ذراعا وعرضها أربعين ذراعا , وكان على متنها نحو مائة وعشرين بحارا من صفوة رجال مصر , جابوا مختلف البقاع في السماء والأرض وقلوبهم أشجع من قلوب الأسود , وكانوا قد تنبأوا بهبوب عاصفة قبل أن تهب وبأن الرياح قد تأتي , وهبت العاصفة عندما كنا في البحر قبل أن نصل إلى البر , وانطلقنا بسرعة أمام الريح ...وجتاءت بموجة ارتفاعها ثماني أذرع .
ثم تحطمت السفينة , ولم ينج منها أحد , وألقت بي موجة على الجزيرة وعندها سمعت صوت الرعد , الذي ظننته موجة من أمواج البحر , وتحطمت الأشجار وزلزلت الأرض , وغطيت وجهي ووجدت أن ثعبانا اقترب مني , وكان طوله ثلاثين ذراعا , ورأسه أطول من ذراعين , وجسمه مطعم بالذهب , وحاجباه من اللازورد , وانثنى للأمام وقال لي : (ما الذي أتى بك إلى هنا أيها الضئيل؟) .
فانبطحت على بطني حتى لامست الأرض أمامه وقلت له : سوف اتحدث عنك مع الملك وأخبره بعظمتك – وعلى التو ضحك مما قلت وقال : (أنا أمير بونت ومر – ولكنك عندما ترحل من هذا المكان فلت يعود بإمكانك أن ترى هذه الجزيرة لأنها ستصبح ماء) , ثم أردف قائلا : (عد إلى بلدك بأمان أيها الضئيل لترى أطفالك وامنحني مقاما طيبا في مدينتك) .
واعطاني حمولة من (المر والهنكوت واليودينيب والبخور وسن الفيل وكلاب الصيد والقردة والنسانيس والأشياء الثمينة).
في هذه القصة التي حكاها الملاح الذي تحطمت سفينته تتضافر العناصر الأسطورية مع الوقائع العلمية , إذ يواجه الإنسان قوى البحر الخطرة فينكشف ضعفه , ولكن إلى جانب ذلك البعد الأسطوري يجد المرء إشارات إلى بحارة يتمتعون بالخبرة تعلموا كيف سيتخدمون الرياح والتيارات وممارسات أخرى مثل الإسترشاد بالأجرام السماوية , وكانوا متقدمين في بناء السفن واستخدامها في خدمة المشاريع التجارية البحرية.
كيف تفسر إذا تبني المصريين لأسطورة أو خرافة أو حكاية تدور حول البحر ؟ لقد كان مركز السلطة السياسية والإبداع الديني , في فجر التاريخ , يقع في صعيد مصر , وكانت ثمة كمية هائلة من المياه تنشأ عن فيضان النيل يمكن أن تثير الخيال الجماعي ليرى البحر في النهر , وفي ذلك الحين يكون عنصر الماء مهيمنا إلى حد أنه يوهم بأن النيل يشبه بحرا مفتوحا , ولقد شبه هيرودت هذه الأراضي التي يغطيها الفيضان ببحر إيجة , حيث جزره تشبه المدن المصرية التي تحاصرها المياه , فالبحر ذاته يصبح محسوسا مع استخدام المركب الشراعي وتزايد النشاط في البحر الأحمر , وعلى الرغم من أن الملاحة في البحر الأحمر بدأت في وقت مبكر فإنها بلغت ذروتها في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد , عندما كانت الرحلات البحرية المنتظمة تتوجه إلى بلاد بونت , ولاتزال الحكايات عن هذه الرحلات البحرية إلى الأماكن البعيدة , والكتابات عنها , يكتنفها الغموض , وهي تفسر نشوء قصة الملاح الذي تحطمت سفينته , التي تجمع بين الواقع والخيال , وكيف أنه تسببت في خلق أحساس بالخوف مصحوب بالرغبة في استكشاف البحر الأحمر وتطوير طرق تجارية في مياهه .
لكم هو رائع أن ترقبي البحر من البر
إيه ...إياك والأبحار في السفن !
ومحاولة الكشف عن علاقة الإنسان بالبحر تقودنا إلى الإسطورة والخرافة , وينبغي لنا أن نتبع القاعدة الثابتة في الأساطير وهي أنه (أيا كان ما يحدث بين الآلهة في السماء , فإنه يمثل انعكاسا لأحداث الأرض) , ففي التفكير الشعري الأسطوري للشرق الأدنى القديم كان عنصر الماء يفهم على أنه محيط أولي – أي مكون رئيسي في خلق العالم يرتبط بالعالم السفلي , وهذه المياه التي تشكلت من عالم الفوضى هي التي خرجت منها الحياة في كل مكان , والبحر أحد مظاهرها , وكان ينظر إليه على أنه تهديد دائم للأرض ومكانها , ولكنه يتمتع ببعض الخصائص الإيجابية التي يتعين وضعها في الحسبان , وبالمثل فإن المياه العذبة تسقط من السماء وعلى الرغم من أنها ترافقها السحب والعواصف الخطرة والصواعق فإنها تجلب البركة للنمو وتنشر الخضرة وتوفر القوت وضروريات الحياة .
ولسوف تساعدنا بعض المقتطفات المأخوذة من الكتابات المتعلقة بهذا الموضوع في تعريف القارئ بالمصادر التي استمدت منها والأمثلة التي أوردتها عنل مستمدة من الثقافات الشرقية في مصر وما بين النهرين وكنعان وفلسطين , وقد تجنبت الحديث عن اليونان نظرا لاتساع نطاق البحر المحيط بها وتشعب الكتابات الكثيرة التي تعبر عن ذلك , بحيث اصبحت فئة مستقلة بذاتها , آمل في دراستها على نحو مستقل في المستقبل , ومن بين الثقافات الأربع فأن الثقافتين الأوليين نهريتان , حيث النيل في مصر ودجلة والفرات فيما بين النهرين تمثل جميعا شريان الحياة , في حين كانت الثقافة الثالثة كنعان (فينيقيا) في وقت لاحق ثقافة بحرية بمعنى الكلمة , أما فلسطين فقد كانت على النقيظ من الثقافتين النهرية والبحرية حيث نشأت على حافة الصحراء بتاريخها الذي تحيط له بيئة جبلية أرضية بعيدة عن البحر .
والسجلات القديمة في مصر عن الكتابات الأسطورية المتعلقة على نحو واضح بالبحر قليلة , ولا يبدو ذلك باعثا على الإستغراب , على الرغم من أن صعيد مصر , حيث أرسيت أسس الدين , لم يكن منعزلا تماما عن العالم الخارجي , فقد كانت المناطق الآهلة بالسكان تقع على ضفاف النيل تحيط بها الصحراء من الجانبين وكان البحر ككيان مادي متواريا عن الأنظار , وهناك وثيقة مصرية من نوع آخر – قصة تتضمن عناصر أسطورية شعرية – وهي قصة الملاح ذو السفينة الغارقة والتي تبدو لأول وهلة كسلف قديم لحكاية (ربنسون كروزو) وهي حكاية عن رحلة بحرية في البحر الأحمر لبعثة يقودها مبعوث للملك لم تنجح في الوصول إلى نهايتها نظرا لأن عاصفة مريعة حطمت السفينة قبالة أحدى الجزر ولم ينج من ركابها سوى شخص واحد.
وتحكي القصة مغامرة نجاته , والمقتطفات التالية سوف تزودنا ببعض التفاصيل (إيرمان 1927) :
(بدأت الرحلة إلى مناجم الملك وتوجهت إلى البحر حيث ركبت سفينة يبلغ طولها مائة وعشرين ذراعا وعرضها أربعين ذراعا , وكان على متنها نحو مائة وعشرين بحارا من صفوة رجال مصر , جابوا مختلف البقاع في السماء والأرض وقلوبهم أشجع من قلوب الأسود , وكانوا قد تنبأوا بهبوب عاصفة قبل أن تهب وبأن الرياح قد تأتي , وهبت العاصفة عندما كنا في البحر قبل أن نصل إلى البر , وانطلقنا بسرعة أمام الريح ...وجتاءت بموجة ارتفاعها ثماني أذرع .
ثم تحطمت السفينة , ولم ينج منها أحد , وألقت بي موجة على الجزيرة وعندها سمعت صوت الرعد , الذي ظننته موجة من أمواج البحر , وتحطمت الأشجار وزلزلت الأرض , وغطيت وجهي ووجدت أن ثعبانا اقترب مني , وكان طوله ثلاثين ذراعا , ورأسه أطول من ذراعين , وجسمه مطعم بالذهب , وحاجباه من اللازورد , وانثنى للأمام وقال لي : (ما الذي أتى بك إلى هنا أيها الضئيل؟) .
فانبطحت على بطني حتى لامست الأرض أمامه وقلت له : سوف اتحدث عنك مع الملك وأخبره بعظمتك – وعلى التو ضحك مما قلت وقال : (أنا أمير بونت ومر – ولكنك عندما ترحل من هذا المكان فلت يعود بإمكانك أن ترى هذه الجزيرة لأنها ستصبح ماء) , ثم أردف قائلا : (عد إلى بلدك بأمان أيها الضئيل لترى أطفالك وامنحني مقاما طيبا في مدينتك) .
واعطاني حمولة من (المر والهنكوت واليودينيب والبخور وسن الفيل وكلاب الصيد والقردة والنسانيس والأشياء الثمينة).
في هذه القصة التي حكاها الملاح الذي تحطمت سفينته تتضافر العناصر الأسطورية مع الوقائع العلمية , إذ يواجه الإنسان قوى البحر الخطرة فينكشف ضعفه , ولكن إلى جانب ذلك البعد الأسطوري يجد المرء إشارات إلى بحارة يتمتعون بالخبرة تعلموا كيف سيتخدمون الرياح والتيارات وممارسات أخرى مثل الإسترشاد بالأجرام السماوية , وكانوا متقدمين في بناء السفن واستخدامها في خدمة المشاريع التجارية البحرية.
كيف تفسر إذا تبني المصريين لأسطورة أو خرافة أو حكاية تدور حول البحر ؟ لقد كان مركز السلطة السياسية والإبداع الديني , في فجر التاريخ , يقع في صعيد مصر , وكانت ثمة كمية هائلة من المياه تنشأ عن فيضان النيل يمكن أن تثير الخيال الجماعي ليرى البحر في النهر , وفي ذلك الحين يكون عنصر الماء مهيمنا إلى حد أنه يوهم بأن النيل يشبه بحرا مفتوحا , ولقد شبه هيرودت هذه الأراضي التي يغطيها الفيضان ببحر إيجة , حيث جزره تشبه المدن المصرية التي تحاصرها المياه , فالبحر ذاته يصبح محسوسا مع استخدام المركب الشراعي وتزايد النشاط في البحر الأحمر , وعلى الرغم من أن الملاحة في البحر الأحمر بدأت في وقت مبكر فإنها بلغت ذروتها في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد , عندما كانت الرحلات البحرية المنتظمة تتوجه إلى بلاد بونت , ولاتزال الحكايات عن هذه الرحلات البحرية إلى الأماكن البعيدة , والكتابات عنها , يكتنفها الغموض , وهي تفسر نشوء قصة الملاح الذي تحطمت سفينته , التي تجمع بين الواقع والخيال , وكيف أنه تسببت في خلق أحساس بالخوف مصحوب بالرغبة في استكشاف البحر الأحمر وتطوير طرق تجارية في مياهه .
