صيف ساخن يطارد مشردي مخيم العزة في خيامهم البائسة
عدنان
لم يكترث المسن علي أبو جلهوم( 77 عاما) لحالة الطقس الجوية الحارة التي نقلها مذياعه الصغير نهاية النشرة الإخبارية، فلا يوجد أمامه مفرا من جحيم الصيف سوى الاستظلال تحت خيمته المتواضعة في مخيم العزة لإيواء مشردي العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة
أبو جلهوم الذي يقطن مع زوجته داخل خيمة القماش تفتقر لأدنى وسائل الراحة، لا يشعر بالوحدة مع جيرانه الذين لا يزيد عددهم عن أصابع اليد الواحدة في مخيم العزة الذي كان أرضا زراعية حولتها الجرافات الإسرائيلية لصحراء قاحلة.
ضيق الحال دفعه للتحايل على ظروفه السيئة التي تحيط به من كل حدب وصوب، فخيمته التي حصل عليه بشق النفس حولها إلى غرفة نوم ومطبخ صغير، لكنه يعجز حتى اللحظة عن إمدادها بالكهرباء رغم مناشدته للمسئولين عن المخيم.
ويشهد مخيم العزة الكائن بمنطقة التوأم شمال غرب مدينة غزة، هجرة قسرية لسكانه ، بسبب موجة الحر الشديد التي هبطت على خيامه البيضاء، بالإضافة إلى هجران مؤسسات الإغاثة التي كانت تخفف من معاناة 1500 مشرد عاشوا في 65 خيمة.
ولم يبق في المخيم سوى ثلاث عائلات من بينهم أسرة أبو جلهوم التي عجزت عن توفير مسكن لها، فيما رحلت باقي العائلات المشردة للعيش في شقق سكنية، أو لدى أقربائهم.
ويبدد أبو جلهوم مسكنه الموحش ببيع بعض السكاكر والحلويات وأدوات التنظيف قبالة خيمته للمساكن التي نجت من القصف والتدمير.
أزمة الشقق السكنية دفعت أبو جلهوم للعيش حياة البرية بين أروقة المخيم قبل ثلاثة شهور، فلا يوجد عيادة صحية تعتني بصحتهم، ودورات المياه حدث ولا حرج، والمساعدات الإنسانية التي شاهدوها عند افتتاح المخيم ولى زمانها بخلاف مؤسسة الأعمال الخيرية التي تقدم لهم وجبة غذاء يوما بعد يوم.
ويصف أبو جلهوم وجبة الغذاء التي تقدمها المؤسسة بالسيئة، ولا تكفي لغذاء طفل صغير، فهي لا تزيد عن علبة سردين أو صنف من البقوليات.
ويزدحم المخيم بسكانه عند توزيع وجبة الغذاء التي ينتظرونها لساعات طويلة، ويطفو على أحاديثهم إعادة اعمار منازلهم التي أصبحت حلما صعب المنال، وقبل أن يحل الظلام يغادر الجميع المخيم الذي يسوده ظلام دامس.
انخفاض سعر الأسمنت المهرب لم يحرك ساكنا في أبو جلهوم الذي فقد تعويضاته المالية في استئجار شقة سكنية صغيرة لأولاده المتزوجين بالكاد تتسع لهم ، كما لم تدغدغ عواطفه الوعود المتكررة بإعادة اعمار منزله المدمر.
وتتفاقم معاناة أبو جلهوم يوما بعد يوم جراء الحرب الظالمة، التي حرمته من العيش تحت سقف واحد مع أولاده الأربعة وزوجته، وجعلت حياته جحيما لا يطاق ويقول بعيون يغزوها الألم: نعيش في مأساة حقيقية بين السماء والطارق، نفترش الأرض ونلتحف السماء، متسائلا إلى متى سيبقى هذا الحال.
مجموعة من الصبية تعيش في المخيم جلست بجانب أبو جلهوم وقد لوحت أشعة الشمس بشرتهم السمراء، وغزت عيونهم علامات البؤس والحرمان.
ودفع غلاء الأسمنت أصحاب البيوت المدمرة إلى ابتداع وسائل بدائية للتغلب على معاناتهم، فبنوا بيوتا من الطين الأحمر، يستر عائلاتهم، فيما فضل الآخرون المكوث في مخيمات الإيواء.
يقول رمضان الأقرع(14 عاما): سمعنا وعودات كثيرة من جمعيات الإغاثة والمسئولين، بمتابعة أوضاعنا التي لا تسر عدوا، وللأسف لم يتحقق منها شيئا، فمنذ ما يزيد عن شهر لم تصلنا مساعدات إنسانية، أو يزورنا أحد من المسئولين.
ويصف حياة المخيم بسجن مع فارق أن السجن يقدم ثلاث وجبات غذائية للمعتقلين، أما هم فيعتصرهم الجوع بانتظار الوجبات التي تصلهم بشكل غير يومي، ويسود توزيعها أجواء من الصخب وتهليل المشردين.
يقاطعه زميل له تميل بشرته للسمرة الداكنة، وتعلو شفتيه ابتسامة ساخرة متسائلا عن عدم استلامهم كرفان مزود بالكهرباء، حتى يلعبون ألعاب مسلية على الحاسوب تنسيهم آلامهم ومحنتهم.
بعيدا في باحة المخيم، دفع الجوع الشديد الطفل خضر للركض بين أروقة الخيام الناصعة البياض بحثا عن أعواد جافة ، لإنضاج بعض أكواز الذرة كوجبة غذاء قيمة غير مكترث لسخونة الحرارة التي ألهبت قدماه الحافيتان.
لهفته الشديدة لأكل الذرة المسلوقة لم تجعل قدماه تصمدان كثيرا تحت الرمال الساخنة، والموقدة فأطلق ساقيه للريح ليغرق رأسه وجسده بالمياه للتخفيف من حدة الشمس.
صحيح أن خضر لم يتحدث" للرسالة" كزملائه، لكن وجه الطفولي وعيونه البريئة أبرقت رسالة للمسئولين أن يرحموا حالهم.
جدير ذكره أن نحو خمسة آلاف أسرة بقطاع غزة لا تزال مشتتة بعد أن فقدت مساكنها عقب الحرب التي شنها الاحتلال على غزة أواخر العام الماضي، ويحتاج قطاع غزة إلى نحو 20 ألف وحدة سكنية لإيواء مشردي الحرب، إضافة إلى المباني والمؤسسات الحكومية والأهلية التي دمرت.
مخيمات الإيواء لا تزال عامرة بسكانها الذين ينتظرون من يجدهم من لهيب الشمس ويعيد آمالهم باعمار بيوتهم المدمرة. فهل من منجد لآلامهم.