صبية غزة... حفارو أنفاق في العطلة الصيفية
عدنان
" اللهم ارفع عنا كيد الأعداء، واحفظنا يا مولانا من كل بلاء"، تناقلت تلك الألحان الروحانية إلى مسامعي عند نزولي إلى نفق في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، على "شياطة" مثبتة ببكرة حديدية، برفقة زعيم الوردية الشاب العشريني "عمر" بصدره العاري وسرواله القصير.
وزحفا على الأقدام داخل ممر ضيق بالكاد يتسع لمرور شخص نحيف- غطته ألواح خشبية، وبدد ظلمته الشبيهة بالقبر أضواء خافتة على جانبي النفق- تعالى صوت الأنشودة المنبعثة من جوال الطالب الجامعي "عماد" الذي دأب مع اثنين من زملائه على تدعيم الألواح الخشبية الضعيفة خشية من انهيار مفاجئ يسلب حياتهم.
لم يشعر عماد(21 عاما) تخصص لغة عربية في الجامعة الإسلامية بشيء من الرهبة تحت باطن الأرض، فهو يشحذ همته كل يوم مع قدر مجهول، في طريق ذو مسلكين، إما العودة إلى أهله غانما، أو الموت في عتمة الأنفاق.
ودفع به ضيق الحال الذي يكتنف عائلته نتيجة الفقر المدقع للعمل في العطلة الصيفية على أمل بكسب مبلغ مالي يمكنه من التسجيل للفصل الدراسي القادم، ليخفف عن والده جزءا من الهموم اليومية.
وتشع العزيمة في عينيه الغير مكترثة بالمخاطر المحدقة التي تنتظره بالمرصاد، ولا للا لعدد الضحايا والجرحى جراء الانهيارات المتكررة لشبكة الأنفاق، رغم كل الأحاديث التي سمعها من أصدقائه.
يقول عماد الذي لا يملك سبيلا: أحفر قبري بيدي كل يوم، فلا مناص لي سوى العمل في أنفاق الموت، علها تساعدني في حلم والدي بالتخرج ،والنيل بوظيفة تنهي متاعبنا.
ويصف الغزيون الأنفاق بطوق النجاة ، الذي خفف من وتيرة حصار مطبق فرضته "إسرائيل" عقب سيطرة حركة حماس على القطاع الساحلي في منتصف حزيران الماضي ، ما انعكس سلبا على حياة 1.5مليون ونصف المليون نسمة يعيشون في سجن كبير.
نفس المشاعر ارتسمت على ملامح الشاب أيمن الذي انشغل في تعبئة الطين الناتج عن أعمال الصيانة بنصف جالون بلاستيكي أزرق، وحمل عماد راحته على يده، مقررا العمل في الأنفاق بعد إقصاء والده الذي كان يعمل موظفا مدنيا في حكومة رام الله قبل عام.
وتعلق أيمن(17عاما) بمهنته كي ينشل أشقائه السبعة من الجوع والحرمان، ويقول بلا مبالاة وهو ينفث دخان سيجارته: مرات عديدة نصحني والدي بالعزوف عن تلك المهنة، لكن سرعان ما تذوب نصائحه مع أدراج الرياح عندما أعطيه مبلغا من المال . وأفلت عماد بأعجوبة من عدة انهيارات ترابية وكاد يلقي حتفه خنقا في عتمة الأنفاق.
ويعاني عماد من آلام شديدة في مفاصله وركبتيه لزحفه ما يزيد عن 700 مترا ، لا سيما بعد تشديد الأمن المصري الرقابة على عمل الأنفاق، وزيادة مالكوها طول الحفريات.
وبالرغم من أن حفر الأنفاق مهنة خطيرة وشاقة، إلا أن نسبة كبيرة من القاصرين، والشبان العاطلين عن العمل يعملون فيها لتوفير متطلبات الحياة في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية.
ويتقاضى الصبية يومية لا تزيد عن 100 شيكل، ويضطر الذين يقطنون في مدينة غزة للعمل ورديتن أحيانا، وهجران منازلهم لعدة أيام.
شدة الحر دفعتنا للخروج مع الزعيم عمر والجلوس في ركن خارجي من خيمته الثلجية التي تخفي النفق عن الأنظار، ويشير عمر إلى أن حالة الفقر المستشرية في قطاع غزة أجبرت الفتية الصغار على مزاولة تلك المهنة، لكنه لا يخفي أن الانهيارات المتكررة في الأنفاق، وسقوط ضحايا من العاملين يثير الهلع والفزع لديهم فترة طويلة، تدفع البعض إلى ترك مهنتهم لا سيما إذا مات لهم صديق، ويعود بعضهم للعمل بحذر إذا طاردهم شبح الفقر.
ويتوجب على أولئك الصبية الحفاظ على أرواحهم، والعمل بحرص شديد فعمل الأنفاق لا يضمن السلامة والتعويضات من مالكيها. ونادرا ما تأتي الرياح بما تشتهيه السفن –كما قال.
وحدث انهيار لنفق ملاصق لهم خلال الشهر الماضي ، وسمع عمر استغاثة شاب انهار عليه جداري طيني فأخذ يجرف بيده أكوام الطين عن وجهه وصدره، وتمكن بعد ساعة من انتشاله بمساعدة وحدات الدفاع المدني وقد أصيب بكسور ورضوض في أنحاء متفرقة من جسده.
ورغم تحذيرات وزارة الداخلية شديدة اللهجة لمالكي الأنفاق، وعدم تشغيل القاصرين، إلا أن النسبة تزايدت مع بدء العطلة الصيفية.
وكان آخر ضحايا الأنفاق الشاب احمد عاطف زعرب ( 18 عاما) الذي توفى جراء انهيار نفق في حي السلام برفح جنوب قطاع غزة
ويبقى العاملون في الأنفاق يرون بصيصا من الأمل للخروج من أوضاعهم المتردية التي عصفت بها براثن الفقر في مغامرة قد تقصيهم عن مقاعد الدراسة.