الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : اعلموا إخواني وفقكم الله تعالى لكل خير أَنَّ الرسول المذكور في آيات سورة الدخان يكون الجدال مع مكذبي هذه الدعوة فيه على مقامين :
المقام الأول : أنه لابد أن يسلموا أَنَّ الدخان يخرج في آخر الزمان وليس كما قال ابن مسعود ومَنْ قلّده منَ التابعين فإن الآيةَ نصٌ في أنه دخان حقيقة فإذا أقروا بذلك انتقل إلى المقام الذي يليه .
المقام الثاني: وهو أن الأسلوب الذي جاء في معرضه ذكر الرسول في آيات سورة الدخان يدل مطابقة على أنَّ الرسول المذكور موجود بين ظهراني أهل الدخان بذاته وشخصه لأَنَّ الله عز وجل قال : ﴿ ثم تولوا عنه ﴾ . فالشاهد أنه لم يقل : ( عما جاء به ) بل قال : ( عنه ) . ليدل على أنهم تولوا عن شخصه الموجود بينهم .
وهذا الأسلوب في اللغة يعبر به عن التولي عن الأشخاص ولايُعبر به عن التولي عما جاء به الأشخاص , فإذا هما حقيقتان ولكل حقيقة اسلوب يخصُّه ، فالتولي عن الأشخاص له اسلوب يخصُّه والتولي عما جاء به الأشخاص له اسلوب يخصُّه , ولو كان لكلتا الحقيقتين اسلوب واحد لحصل اللبس ولم يحصل البيان وهذا لايكون في كلام الله ورسوله , وإن كان في كلام الناس والكلام المعصوم هو ماكان من وحي الله وذلك لأنَّ كلام الناس يدخل فيه كثير من الباطل والتجوز بخلاف كلام الله وكلام رسوله الثابت عنه المُحرَّرة ألفاظه التي لم يتصرف فيها الرواة فلو كان المعنى الذي نثبته نحن باطلاً وجاء به نص كلام الله عز وجل وظاهره لكان قد دخل على كلام الله عزَّ وجلَّ الباطلُ , والله سبحانه وتعالى قال : ﴿ لا يأتيه الباطل﴾ ووصف كتابه بأنه حكيم يعني مُحكم فلا يكون ظاهرُه باطلاً أبداً بل ظاهرُه حقٌ, وهذا هو المطلوب , فظاهر القران حق لا يكون باطلاً , والمعنى الذي نثبته هو نص القرآن , وظاهرُه فيكون حقاً لا محالة .
وكذلك نقول إنَّ هذا الإسلوب نتفق نحن وأنتم على أن مَوْضِعَهُ التولي عن الشخص أصلا الموجود في وقت التولي وَصَرْفُه إلى المعنى الذي تذهبون إليه خلاف الأصل وَيَلْزَم منه الكفر بالكتاب والطعن في بيان الله فإنه إما يكون هذا الأسلوب يُستعمل في بيان حقيقتين بلفظ واحد على حدٍ سواء فيلزم مِنْ ذكره احتمال معنيين لاترجيح لأحدهما على الآخر فعند ذلك ينعدم البيان فإن مقصود المتكلم ــ لاشك أنه ــ أحد الأمرين , فهو إذاً عاجز عن البيان وعن أَنْ يأتي بلفظٍ ليس فيه لبس يحصل به البيان المقصود , وهذا يجب تنزيه الله عنه ، بقي أن يكون هذا الأسلوب يستعمل في حقيقة واحدة فحيث استعمل هذا الاسلوب فُهمت حقيقته والمراد منه ، وأنَّ هذا الاسلوب إلى حقيقة أُخرى غير الحقيقة التي تفهم منه يكون مِنْ تحريف الكَلِم عن موضعه , وهذا عابه الله عز وجل على خلقه فكيف يكون في كلامه ما يوجب تحريف الكَلِم عن مواضعه , وهؤلاء المخالفين أصَّلوا أصلاً جَرَّهم إلى تحريف كلام الله فأصّلوا أنَّ الرسول المذكور في آيات سورة الدخان هو النبي صلى الله عليه وسلم وفي نفس الوقت هم يعتقدون أن الدخان من الآيات المرتقبة التي تخرج في آخر الزمان وخَطَّأوا ابن مسعود حين قال : أنَّه قد خرج في عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فاضطرهم ذلك إلى تحريف قوله تعالى : ﴿ ثم تولوا عنه ﴾ . فحرفوا وقالوا : ( ثم تولوا عما جاء به ) والله سبحانه وتعالى لم يقل تولوا عما جاء به بل قال سبحانه: ﴿ تولوا عنه ﴾ . لأنهم لو لم يحرفوها لكان فيها إبطال لمِاَ أصّلوا مِن أنَّ المذكور في آيات الدخان هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأنها تدل نصاً على التولي عن شخص ذلك الرسول وذاته في نفس وقت التولي فيلزم وجوده بين أهل الدخان وأصّلوا من قبلُ : ( أن كل رسولٍ نبيَّ ).
ومن المعلوم أنه لا نبي بعد النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك قالوا : فلا رسول بعده . فأجملوا ولم يفصلوا وهي كلها أصول واهية مِن حيث الإجمال , فهم في الحقيقة أثبتوا أن في كلام الله ما يجب صَرْفه عن ظاهره وهذا هو عين التحريف في كلام الله كما فعل اليهود والجهمية والمعتزلة والأشاعرة وأضرابهم فكل هؤلاء جعلوا ظاهر كلام الله باطلاً ، تعالى الله عما يقولون فلذلك صرفوا ما أحسَّوا أنه لايبقى على ظاهره وفزنا نحن بظاهر كلام الله تعالى ولم نحرفه بل نقول كما قال مولانا : ﴿ ثم تولوا عنه ﴾ . لا كما يقولون .
هذه أدلة في آيات سورة الدخان من جهة ألفاظ آياتها وأساليبها وتراكيب الكلام فيها ما يقويك أخي المؤمن على خصومك ويُظهرك عليهم في الحجة والسلطان والبيان ولسان العرب الذي نزل به القرآن .
واعلم أن الله إذا أراد أن يرفع درجة عبده في العلم والإيمان جمع له بين معرفة الحق والفرقان بينه وبين الباطل والسبيل الهادي إلى بيان الحق والباطل فخذ الحق أخي بقوة وكن من الشاكرين , واعلم أني سأبين دلالة قوله تعالى : ﴿ مُعلَّم ﴾ . في لسان العرب وفي الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .
وسأبيِّن دلالة هذا التركيب الوارد في قوله تعالى : ﴿ إنا مؤمنون ﴾ . وكذلك أُبيّن الظرف المقدر في قوله تعالى : ﴿ أنى لهم الذكرى ﴾ . وكذلك أُبيّن الحال الواردة في قوله تعالى : ﴿ وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون ﴾ . وتحديد زمنها .
وكذلك قوله تعالى: ﴿ يوم نبطش ﴾ . ومعنى البطشة في عرف القرآن، لأن القرآن له عرف يخصه كما قرره اهل التفسير وأئمة التحقيق كابن القيم رحمه الله .
وكذلك دلالة قوله تعالى : ﴿ تأتي السماء بدخان ﴾ . وقوله تعالى : ﴿ يغشى الناس ﴾ . بإذن الله ومشيئته سبحانه وتعالى .
أقول أولا : اعلم أخي المؤمن أن لفظة ( مُعلَّم ) اسم مفعول ويستعمل في لغة العرب في معنيين مختلفين ويدل على تحديد أحد المعنيين من الآخر الإطلاق لهذا اللفظ والتقييد له , فإذا أُطلق هذا اللفظ كأن يُقال : هذا رجل مُعلَّم . أو هذا كلب مُعلَّم . فإنه حينئذ يدل على الوصف واللزوم والثبوت كصفة الجمال والحسن , تقول : هذا رجل جميل . وهذه امرأة حسناء . فإن هذا وصف لازم للموصوف أين ما ذهب وعلى أي حال كان فالجمال والحسن لازم للموصوف بمعنى أنه لايكون مؤقت وشيء عارض يحدث له ثم يزول وربما يعود مثال ما ليس بصفة لازمة مثل القيام والضرب : هذا رجل قائم و : مررت برجل مضروب .
فإن هذا المخُبر عنه بهذان الخبران ليس في كل أحواله متصف بالقيام أو الضرب , ويقرّب لك هذه المسألة لفظ اسم الفاعل ( مُعلِّم ) بكسر اللام ، فإنه كذلك يستعمل كما استعمل لفظ ( مُعلَّم ) وهو كذلك أعني مُعلِّم يُميَّز بين معنيين ، الإطلاق والتقييد تقول ( هذا مُعلِّم ) . فإنه لايدل في هذا التركيب عند الإطلاق الا على معنى واحد وهو اللزوم والثبوت مثل الجمال والحسن فهو أين ما ذهب متصف بأنه مُعلِّم وعلى أي حال فهو متصف بها لأنها أصبحت بالنسبة له ملكة وطبيعة لازمة وثبتت ثبوت الصفات اللازمه مثل الكرم والشجاعة والجمال ونحوها .
وأما المعنى الغير لازم لزوم الصفات فلا يُستعمل الاَّ مقيد على سبيل المثال لو مررت برجل ليس بمدرس مثلاً اعرابي لا يقرأ ولا يكتب وهو يُعلم ولده وينصحه بعض ما ينفعه فإنه لا يصح أن تقول : مررت بمُعلّم . فإنه يدل على معنى غير المعنى الذي تُريد أن تخبر عنه من صدور مجرد التعليم لابنه ولكن يصح أن تقول : إني مررت برجل مُعلِّم ابنه نصائح . فإن هذا الخبر موافق للحال التي تريد أن تخبر عنها .
وكذلك لو قلت : إن زيداً مُعلَّم ماكنا قد تكلمنا عنه . فإن هذا التركيب يدل على أن زيداً عُلِّم ذلك الكلام ولا يدل أن له صفة لازمة لزوم الصفات مثل الحسن ونحوها بُني عليها ذلك التعليم العارض كالقاعدة لَمَا يأتي بعدُ من التعليم بخلاف لو قلت : إن زيداً مُعلَّم . وأنت تريد أن تخبر عنه أنه حدث له مجرد تعليم عارض لم يكن قبله متصف بصفة التعليم فإن خبرك لايكون صادقاً على هذا التركيب لأنه يدل أعني التركيب المطلق على المدح والثناء والوصف اللازم الثابت الذي لايزول عن الموصوف , وهذا التعليم الذي يلزم منه الثناء والمدح الثابت اللازم لزوم الصفات هو القاعدة لما يأتي بعدُ من التعليم العارض المؤقت بحيث يكون الشخص المُعلَّم تهيأ بسبب ثبوت هذه الصفة لما يأتي بعد من التعليم الذي هو قدر زائد على تعليم البشر ويوضح الكلام على التعليم الثابت للمُعلَّم صفة النبوة الثابتة للنبيّ ، فإن النبوة قاعدة قد ثبتت للنبي استعد بها لما يأتي بعد من إنباء الله له وليس كل من أُنبئ يكون نبيّاً الاّ من ثبتت له صفة النبوة قبل ذلك فالعبرة بالصفة اللازمة الثابتة قبل الإنباء المؤقت العارض فإن النبي لايزال يخبر بالأنباء حيناً بعد حين وليس بهذه الأنباء العارضة صار نبياً وإنما صار نبياً باتصافه بصفة النبوة قبل هذه الأنباء , وتلك الأنباء هي من لوازم النبوة الثابتة من قبل بفعل الله ووحيه لذلك الشخص الذي اصطفاه الله نبياً .
وكذلك اسم المُعلَّم أي المحدث شرعاً قد اتصف قبل التعليم المؤقت العرض الذي يُعلَّمه المُعلَّم المُحدَّث حيناً بعد حين بصفة التحديث والتعليم الثابتة اللازمة قبل ذلك التعليم العارض والصفة الثابتة للتعليم العارض هي القاعدة التي استعد بها المُحدَّث المُعلَّم للتعليم الذي يأتي بعد , فاتضح أن هناك فرق بين الإطلاق والتقييد لهذا اللفظ أعني ( مُعلَّم ) , وكذلك جاء في الشرع , فاعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رتِّب على التركيب المطلق لهذا اللفظ أحكاماً عظيمة في التحريم والتحليل اتفق عليها الصحابة والتابعون وكل علماء الملة المحمدية كل ذلك تأييدا للمهدي عليه السلام واعلائه واظهار علمه وعلم مَن اتبعه .
واعلم كذلك أن أدلة المهدي الشرعية تضرب في أعماق الشريعة وأعماق اللغة العربية لا زوال لجذورها الضاربة في أعماق الدين واللسان العربي وكذلك يُؤيد الله رسله ويُظهرهم على المكذبين فلا ينفون دليلاً أو دلالة أو تركيباً أو أسلوباً من أدلة المهدي إلاَّ هدموا الشرع واللسان العربي وثبتت الحُجة عليهم وظهر التناقض والجهل فيهم , فهذا حديث أبي ثعلبة الخشني وعدي بن حاتم رضي الله عنهما في باب الصيد أصل متفق على صحته ودلالته من أُصول الأحكام العظيمة , فقد أخرج الشيخان والنسائي وابو داود عن أبي ثعلبة قال : قلت يارسول الله إني أَصيد بكلبي المُعلَّم وبكلبي الذي ليس بمُعلَّم ؟ قال : ماصدت بكلبك المُعلَّم فاذكر الله وكُلْ , وماصدت بكلبك الذي ليس بمُعلَّم فأدركت ذكاته فكُلْ .
المقام الأول : أنه لابد أن يسلموا أَنَّ الدخان يخرج في آخر الزمان وليس كما قال ابن مسعود ومَنْ قلّده منَ التابعين فإن الآيةَ نصٌ في أنه دخان حقيقة فإذا أقروا بذلك انتقل إلى المقام الذي يليه .
المقام الثاني: وهو أن الأسلوب الذي جاء في معرضه ذكر الرسول في آيات سورة الدخان يدل مطابقة على أنَّ الرسول المذكور موجود بين ظهراني أهل الدخان بذاته وشخصه لأَنَّ الله عز وجل قال : ﴿ ثم تولوا عنه ﴾ . فالشاهد أنه لم يقل : ( عما جاء به ) بل قال : ( عنه ) . ليدل على أنهم تولوا عن شخصه الموجود بينهم .
وهذا الأسلوب في اللغة يعبر به عن التولي عن الأشخاص ولايُعبر به عن التولي عما جاء به الأشخاص , فإذا هما حقيقتان ولكل حقيقة اسلوب يخصُّه ، فالتولي عن الأشخاص له اسلوب يخصُّه والتولي عما جاء به الأشخاص له اسلوب يخصُّه , ولو كان لكلتا الحقيقتين اسلوب واحد لحصل اللبس ولم يحصل البيان وهذا لايكون في كلام الله ورسوله , وإن كان في كلام الناس والكلام المعصوم هو ماكان من وحي الله وذلك لأنَّ كلام الناس يدخل فيه كثير من الباطل والتجوز بخلاف كلام الله وكلام رسوله الثابت عنه المُحرَّرة ألفاظه التي لم يتصرف فيها الرواة فلو كان المعنى الذي نثبته نحن باطلاً وجاء به نص كلام الله عز وجل وظاهره لكان قد دخل على كلام الله عزَّ وجلَّ الباطلُ , والله سبحانه وتعالى قال : ﴿ لا يأتيه الباطل﴾ ووصف كتابه بأنه حكيم يعني مُحكم فلا يكون ظاهرُه باطلاً أبداً بل ظاهرُه حقٌ, وهذا هو المطلوب , فظاهر القران حق لا يكون باطلاً , والمعنى الذي نثبته هو نص القرآن , وظاهرُه فيكون حقاً لا محالة .
وكذلك نقول إنَّ هذا الإسلوب نتفق نحن وأنتم على أن مَوْضِعَهُ التولي عن الشخص أصلا الموجود في وقت التولي وَصَرْفُه إلى المعنى الذي تذهبون إليه خلاف الأصل وَيَلْزَم منه الكفر بالكتاب والطعن في بيان الله فإنه إما يكون هذا الأسلوب يُستعمل في بيان حقيقتين بلفظ واحد على حدٍ سواء فيلزم مِنْ ذكره احتمال معنيين لاترجيح لأحدهما على الآخر فعند ذلك ينعدم البيان فإن مقصود المتكلم ــ لاشك أنه ــ أحد الأمرين , فهو إذاً عاجز عن البيان وعن أَنْ يأتي بلفظٍ ليس فيه لبس يحصل به البيان المقصود , وهذا يجب تنزيه الله عنه ، بقي أن يكون هذا الأسلوب يستعمل في حقيقة واحدة فحيث استعمل هذا الاسلوب فُهمت حقيقته والمراد منه ، وأنَّ هذا الاسلوب إلى حقيقة أُخرى غير الحقيقة التي تفهم منه يكون مِنْ تحريف الكَلِم عن موضعه , وهذا عابه الله عز وجل على خلقه فكيف يكون في كلامه ما يوجب تحريف الكَلِم عن مواضعه , وهؤلاء المخالفين أصَّلوا أصلاً جَرَّهم إلى تحريف كلام الله فأصّلوا أنَّ الرسول المذكور في آيات سورة الدخان هو النبي صلى الله عليه وسلم وفي نفس الوقت هم يعتقدون أن الدخان من الآيات المرتقبة التي تخرج في آخر الزمان وخَطَّأوا ابن مسعود حين قال : أنَّه قد خرج في عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فاضطرهم ذلك إلى تحريف قوله تعالى : ﴿ ثم تولوا عنه ﴾ . فحرفوا وقالوا : ( ثم تولوا عما جاء به ) والله سبحانه وتعالى لم يقل تولوا عما جاء به بل قال سبحانه: ﴿ تولوا عنه ﴾ . لأنهم لو لم يحرفوها لكان فيها إبطال لمِاَ أصّلوا مِن أنَّ المذكور في آيات الدخان هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأنها تدل نصاً على التولي عن شخص ذلك الرسول وذاته في نفس وقت التولي فيلزم وجوده بين أهل الدخان وأصّلوا من قبلُ : ( أن كل رسولٍ نبيَّ ).
ومن المعلوم أنه لا نبي بعد النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك قالوا : فلا رسول بعده . فأجملوا ولم يفصلوا وهي كلها أصول واهية مِن حيث الإجمال , فهم في الحقيقة أثبتوا أن في كلام الله ما يجب صَرْفه عن ظاهره وهذا هو عين التحريف في كلام الله كما فعل اليهود والجهمية والمعتزلة والأشاعرة وأضرابهم فكل هؤلاء جعلوا ظاهر كلام الله باطلاً ، تعالى الله عما يقولون فلذلك صرفوا ما أحسَّوا أنه لايبقى على ظاهره وفزنا نحن بظاهر كلام الله تعالى ولم نحرفه بل نقول كما قال مولانا : ﴿ ثم تولوا عنه ﴾ . لا كما يقولون .
** فصل **
من الأدلة المتعلقة بألفاظ آيات سورة الدخان
من الأدلة المتعلقة بألفاظ آيات سورة الدخان
هذه أدلة في آيات سورة الدخان من جهة ألفاظ آياتها وأساليبها وتراكيب الكلام فيها ما يقويك أخي المؤمن على خصومك ويُظهرك عليهم في الحجة والسلطان والبيان ولسان العرب الذي نزل به القرآن .
واعلم أن الله إذا أراد أن يرفع درجة عبده في العلم والإيمان جمع له بين معرفة الحق والفرقان بينه وبين الباطل والسبيل الهادي إلى بيان الحق والباطل فخذ الحق أخي بقوة وكن من الشاكرين , واعلم أني سأبين دلالة قوله تعالى : ﴿ مُعلَّم ﴾ . في لسان العرب وفي الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .
وسأبيِّن دلالة هذا التركيب الوارد في قوله تعالى : ﴿ إنا مؤمنون ﴾ . وكذلك أُبيّن الظرف المقدر في قوله تعالى : ﴿ أنى لهم الذكرى ﴾ . وكذلك أُبيّن الحال الواردة في قوله تعالى : ﴿ وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون ﴾ . وتحديد زمنها .
وكذلك قوله تعالى: ﴿ يوم نبطش ﴾ . ومعنى البطشة في عرف القرآن، لأن القرآن له عرف يخصه كما قرره اهل التفسير وأئمة التحقيق كابن القيم رحمه الله .
وكذلك دلالة قوله تعالى : ﴿ تأتي السماء بدخان ﴾ . وقوله تعالى : ﴿ يغشى الناس ﴾ . بإذن الله ومشيئته سبحانه وتعالى .
أقول أولا : اعلم أخي المؤمن أن لفظة ( مُعلَّم ) اسم مفعول ويستعمل في لغة العرب في معنيين مختلفين ويدل على تحديد أحد المعنيين من الآخر الإطلاق لهذا اللفظ والتقييد له , فإذا أُطلق هذا اللفظ كأن يُقال : هذا رجل مُعلَّم . أو هذا كلب مُعلَّم . فإنه حينئذ يدل على الوصف واللزوم والثبوت كصفة الجمال والحسن , تقول : هذا رجل جميل . وهذه امرأة حسناء . فإن هذا وصف لازم للموصوف أين ما ذهب وعلى أي حال كان فالجمال والحسن لازم للموصوف بمعنى أنه لايكون مؤقت وشيء عارض يحدث له ثم يزول وربما يعود مثال ما ليس بصفة لازمة مثل القيام والضرب : هذا رجل قائم و : مررت برجل مضروب .
فإن هذا المخُبر عنه بهذان الخبران ليس في كل أحواله متصف بالقيام أو الضرب , ويقرّب لك هذه المسألة لفظ اسم الفاعل ( مُعلِّم ) بكسر اللام ، فإنه كذلك يستعمل كما استعمل لفظ ( مُعلَّم ) وهو كذلك أعني مُعلِّم يُميَّز بين معنيين ، الإطلاق والتقييد تقول ( هذا مُعلِّم ) . فإنه لايدل في هذا التركيب عند الإطلاق الا على معنى واحد وهو اللزوم والثبوت مثل الجمال والحسن فهو أين ما ذهب متصف بأنه مُعلِّم وعلى أي حال فهو متصف بها لأنها أصبحت بالنسبة له ملكة وطبيعة لازمة وثبتت ثبوت الصفات اللازمه مثل الكرم والشجاعة والجمال ونحوها .
وأما المعنى الغير لازم لزوم الصفات فلا يُستعمل الاَّ مقيد على سبيل المثال لو مررت برجل ليس بمدرس مثلاً اعرابي لا يقرأ ولا يكتب وهو يُعلم ولده وينصحه بعض ما ينفعه فإنه لا يصح أن تقول : مررت بمُعلّم . فإنه يدل على معنى غير المعنى الذي تُريد أن تخبر عنه من صدور مجرد التعليم لابنه ولكن يصح أن تقول : إني مررت برجل مُعلِّم ابنه نصائح . فإن هذا الخبر موافق للحال التي تريد أن تخبر عنها .
وكذلك لو قلت : إن زيداً مُعلَّم ماكنا قد تكلمنا عنه . فإن هذا التركيب يدل على أن زيداً عُلِّم ذلك الكلام ولا يدل أن له صفة لازمة لزوم الصفات مثل الحسن ونحوها بُني عليها ذلك التعليم العارض كالقاعدة لَمَا يأتي بعدُ من التعليم بخلاف لو قلت : إن زيداً مُعلَّم . وأنت تريد أن تخبر عنه أنه حدث له مجرد تعليم عارض لم يكن قبله متصف بصفة التعليم فإن خبرك لايكون صادقاً على هذا التركيب لأنه يدل أعني التركيب المطلق على المدح والثناء والوصف اللازم الثابت الذي لايزول عن الموصوف , وهذا التعليم الذي يلزم منه الثناء والمدح الثابت اللازم لزوم الصفات هو القاعدة لما يأتي بعدُ من التعليم العارض المؤقت بحيث يكون الشخص المُعلَّم تهيأ بسبب ثبوت هذه الصفة لما يأتي بعد من التعليم الذي هو قدر زائد على تعليم البشر ويوضح الكلام على التعليم الثابت للمُعلَّم صفة النبوة الثابتة للنبيّ ، فإن النبوة قاعدة قد ثبتت للنبي استعد بها لما يأتي بعد من إنباء الله له وليس كل من أُنبئ يكون نبيّاً الاّ من ثبتت له صفة النبوة قبل ذلك فالعبرة بالصفة اللازمة الثابتة قبل الإنباء المؤقت العارض فإن النبي لايزال يخبر بالأنباء حيناً بعد حين وليس بهذه الأنباء العارضة صار نبياً وإنما صار نبياً باتصافه بصفة النبوة قبل هذه الأنباء , وتلك الأنباء هي من لوازم النبوة الثابتة من قبل بفعل الله ووحيه لذلك الشخص الذي اصطفاه الله نبياً .
وكذلك اسم المُعلَّم أي المحدث شرعاً قد اتصف قبل التعليم المؤقت العرض الذي يُعلَّمه المُعلَّم المُحدَّث حيناً بعد حين بصفة التحديث والتعليم الثابتة اللازمة قبل ذلك التعليم العارض والصفة الثابتة للتعليم العارض هي القاعدة التي استعد بها المُحدَّث المُعلَّم للتعليم الذي يأتي بعد , فاتضح أن هناك فرق بين الإطلاق والتقييد لهذا اللفظ أعني ( مُعلَّم ) , وكذلك جاء في الشرع , فاعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رتِّب على التركيب المطلق لهذا اللفظ أحكاماً عظيمة في التحريم والتحليل اتفق عليها الصحابة والتابعون وكل علماء الملة المحمدية كل ذلك تأييدا للمهدي عليه السلام واعلائه واظهار علمه وعلم مَن اتبعه .
واعلم كذلك أن أدلة المهدي الشرعية تضرب في أعماق الشريعة وأعماق اللغة العربية لا زوال لجذورها الضاربة في أعماق الدين واللسان العربي وكذلك يُؤيد الله رسله ويُظهرهم على المكذبين فلا ينفون دليلاً أو دلالة أو تركيباً أو أسلوباً من أدلة المهدي إلاَّ هدموا الشرع واللسان العربي وثبتت الحُجة عليهم وظهر التناقض والجهل فيهم , فهذا حديث أبي ثعلبة الخشني وعدي بن حاتم رضي الله عنهما في باب الصيد أصل متفق على صحته ودلالته من أُصول الأحكام العظيمة , فقد أخرج الشيخان والنسائي وابو داود عن أبي ثعلبة قال : قلت يارسول الله إني أَصيد بكلبي المُعلَّم وبكلبي الذي ليس بمُعلَّم ؟ قال : ماصدت بكلبك المُعلَّم فاذكر الله وكُلْ , وماصدت بكلبك الذي ليس بمُعلَّم فأدركت ذكاته فكُلْ .