قال الله عز وجل:﴿ ألَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ لَئِن أُخرِجتُم لَنَخرُجَنَّ مَعَكُم وَلانُطِيعُ فِيكُم أَحَدًا أَبدًَا وَإِن قُوتِلتُم لَنَنصُرَنَّكُم وَاللَّهُ يَشهَدُ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ * لَئِن أُخرِجُوا لا يَخرُجُونَ مَعَهُم وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُم وَلَئِن نَّصَروهُم لَيُوَلُّنَّ الأَدبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ * لأَنتُم أَشَدُّ رَهبَةً في صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَومٌ لا يَفقَهُونَ * لاَ يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيم * كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ للإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِنكَ إِنّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴾(الحشر: 11- 17)
أولاً- هذه الآيات الكريمة من سورة الحشر، وهي سورة مدنية تعنى بجانب التشريع شأن سائر السور المدنية. والمحورُ الذي تدور عليه أحداث السورة كلها هو الحديث عن غزوة بني النضير. وبنو النضير هم اليهود الذين نقضوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتآمروا على قتله، فأجلاهم عليه الصلاة والسلام عن المدينة المنورة بأمر من الله تعالى، ولهذا كان ابن عباس- رضي الله عنهما- يسمِّي هذه السورة: سورة بني النضير، إذ فيها مبدأ قصتهم، ومنتهاها. وحين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، صار الكفار معهثلاثة أقسام: قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه، ولا يظاهروا عليه، ولا يوالوا عليه عدوه، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم. وقسم حاربوه،ونصبوا له العداوة. وقسم لم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه، وكان من هؤلاء من دخل معه في الظاهر، وهو مع عدوه في الباطن، ليأمن الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون. وقد عامل عليه الصلاة والسلام كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى، فصالح يهود المدينة، وكتب بينهم، وبينه كتاب أمن، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة: بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة. فحاربه بنو قينقاع بعد ذلك بعد بدر، وأظهروا له البغي والحسد. وكان من حديثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم بسوق بني قينقاع، ثم قال:« يا معشر يهود ! احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم، وعهد الله إليكم ». فقالوا:« يا محمد ! إنك ترى أنا قومك، لا يغرَّنك أنك لقيت قومًا لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، إنَّا والله لئن حاربناك، لتعلمن أنا نحن الناس »، فسارت إليهم جنود الله، يقدمهم عبد الله ورسوله، وكانوا حلفاء عبد الله بن أُبَيٍّ بنِ سلول رئيس المنافقين، وكانوا أشجع يهود المدينة، وحامل لواء المسلمين يومئذ حمزة بن عبد المطلب، فحاصرهم أشد الحصار خمس عشرة ليلة، وهم أول من حارب من اليهود، وتحصنوا في حصونهم، وقذف الله في قلوبهم الرعب الذي إذا أراد خذلان قوم وهزيمتهم، أنزله عليهم، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم، فأمر بهم فكتفوا. وكلم عبد الله بن أُبَيٍّ بنِ سلول فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وألحَّ عليه، فوهبهم له، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه فيها، فخرجوا إلى أذرعات من أرض الشام، فقلَّ أن لبثوا فيها حتى هلك أكثرهم.
ثم نقض بنو النضير العهد، وكان ذلك في أوائل السنة الرابعة من الهجرة بعد غزوة أحد، وقبل غزوة الأحزاب. وسبب ذلك أنه خرج إليهم في نفر من كبار أصحابه، منهم أبو بكر، وعمر، وعلي- رضي الله عنهم- وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيَّيْن اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضُّمَّري، بحكم ما كان بينه، وبينهم من عهد، فقالوا: نفعل يا أبا القاسم ! اجلس ها هنا حتى نقضي حاجتك. وخلا بعضهم ببعض، وسوَّل لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم، فتآمروا بقتله. وكان صلى الله عليه وسلم جالسًا إلى جدار من بيوتهم، فقال بعضهم لبعض: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فمَنْ رجلٌ منكم يعلو هذا البيت , فيلقي عليه صخرة , فيريحنا منه ? فقال عمرو بن جُحاش بن كعب: أنا لذلك. فقال لهم سلام بن مشكم: لا تفعلوا، فوالله ليخبرن بما هممتم به، وإنه لنقض العهد الذي بيننا، وبينه. وجاء الوحي على الفور إليه من ربه تبارك وتعالى بما هموا به، فنهض مسرعًا، وتوجَّه إلى المدينة، ولحقه أصحابه، فقالوا: نهضت ولم نشعر بك، فأخبرهم بما همَّت يهود به.
وكان قد سبق هذا إقذاع كعب بن الأشرف- وهو منهم- في هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأليبه الأعداء عليه، وما قيل من أن كعبًا هذا، ورهطًا من بني النضير اتصلوا بكفار قريش اتصال تآمر وتحالف وكيد ضد النبي صلى الله عليه وسلم، مع قيام ذلك العهد بينهم، وبينه، مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن لمحمد بن مسلمة في قتل كعب بن الأشرف، فقتله. فلما كان التبييت للغدر به، لم يبق مفرٌّ من نبذ عهدهم إليهم، وفق القاعدة الإسلامية:﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ ﴾(الأنفال: 5)
فتجهز عليه الصلاة والسلام لحربهم، وبعث إليهم أن اخرجوا من المدينة، ولا تساكنوني فيها، وقد أجلتكم عشرًا، فمن وجدت بعد ذلك منكم فيها، ضربت عنقه، فأقاموا أيامًا يتجهزون. وأرسل إليهم المنافق عبد الله بن أُبَيٍّ بنِ سلول أن لا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم، فيموتون دونكم، وتنصركم قريظة، وحلفاؤكم من غطفان. وطمع رئيسهم حُيَيُّ بْنُ أخطبَ فيما قال له المنافق عبد الله بن أبي سلول، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنَّا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك. فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بقطع نخيلهم والتحريق فيها، فنادوه: أنْ يا محمد ! قد كنت تنهَى عن الفساد، وتعيبه على من صنعه: فما بال قطع النخيل وتحريقها؟ وفي الرد عليهم نزل قوله تعالى:﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِي الْفَاسِقِينَ﴾ (الحشر: 5).
ولما بلغ الحصار ستًا وعشرين ليلة , يئس اليهود من صدق وعد المنافقين لهم, واعتزلتهم قريظة وحلفاؤهم من غطفان، وقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب, فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم، ويكف عن دمائهم- كما سبق إجلاء بني قينقاع- على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن خشبة بابه، فيحمله على ظهر بعيره، أو يخربه حتى لا يقع في أيدي المسلمين، وكان المسلمون قد هدموا بعض الجدران التي اتخذت حصونًا في أيام الحصار، واستولى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أراضهم وديارهم وأموالهم، وقال:« هؤلاء في قومهم بمنزلة بني المغيرة في قريش ». وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ * وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(الحشر: 2- 4).
وبهذا تتم حكاية ما وقع ليهود بني النضير في تلك الصورة الموحية , وهذه الحركة المصورة المعبرة، وكان منهم من سار إلى خيبر , ومنهم من سار إلى الشام.. وكان من أشرافهم الذين ساروا إلى خيبر سلامُ بنُ أبي الحقيق , وكنانةُ بنُ الربيع بنِ أبي الحقيق , وحُيَيُّ بنُ أخطب , ممَّن ورد ذكرهم بعد ذلك في تأليب المشركين على المسلمين في غزوة الأحزاب، ووقعة بني قريظة، وكان لبعضهم كذلك ذكر في فتح خيبر.
وكانت أموال بني النضير فيئًا خالصًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يخمِّسها، لأن المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل، ولا ركاب، وخمَّس قريظة. قال مالك:« خمَّس رسول الله قريظة، ولم يخمِّس بني النضير، لأن المسلمين لم يوجفوا بخيلهم، ولا ركابهم على بني النضير، كما أوجفوا على قريظة ». فقسمها صلى الله عليه وسلم على المهاجرين خاصة دون الأنصار عدا رجلين من الأنصار فقيرين، وذلك أن المهاجرين لم يكن لهم مال بعد الذي تركوه في مكة، وتجردوا منه كله لعقيدتهم، وكان الأنصار قد أنزلوهم دورهم وشاركوهم مالهم في أريحية عالية , وأخوة صادقة , وإيثار عجيب. فلما واتت هذه الفرصة سارع رسول الله صلى الله عليه وسلم لإقامة الأوضاع الطبيعية في المجتمع
الإسلامي، كي يكون للفقراء مال خاص بهم، وكي لا يكون المال متداولاً في الأغنياء وحدهم. وقال عليه الصلاة والسلام للأنصار:« إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم , ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة ». فقالوا:« بل نقسم من أموالنا وديارنا، ونؤثرهم بالغنيمة، ولا نشاركهم فيها ». وهذا ما تحدثت عنه السورة الكريمة في مقطعها الثاني.
أولاً- هذه الآيات الكريمة من سورة الحشر، وهي سورة مدنية تعنى بجانب التشريع شأن سائر السور المدنية. والمحورُ الذي تدور عليه أحداث السورة كلها هو الحديث عن غزوة بني النضير. وبنو النضير هم اليهود الذين نقضوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتآمروا على قتله، فأجلاهم عليه الصلاة والسلام عن المدينة المنورة بأمر من الله تعالى، ولهذا كان ابن عباس- رضي الله عنهما- يسمِّي هذه السورة: سورة بني النضير، إذ فيها مبدأ قصتهم، ومنتهاها. وحين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، صار الكفار معهثلاثة أقسام: قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه، ولا يظاهروا عليه، ولا يوالوا عليه عدوه، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم. وقسم حاربوه،ونصبوا له العداوة. وقسم لم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه، وكان من هؤلاء من دخل معه في الظاهر، وهو مع عدوه في الباطن، ليأمن الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون. وقد عامل عليه الصلاة والسلام كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى، فصالح يهود المدينة، وكتب بينهم، وبينه كتاب أمن، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة: بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة. فحاربه بنو قينقاع بعد ذلك بعد بدر، وأظهروا له البغي والحسد. وكان من حديثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم بسوق بني قينقاع، ثم قال:« يا معشر يهود ! احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم، وعهد الله إليكم ». فقالوا:« يا محمد ! إنك ترى أنا قومك، لا يغرَّنك أنك لقيت قومًا لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، إنَّا والله لئن حاربناك، لتعلمن أنا نحن الناس »، فسارت إليهم جنود الله، يقدمهم عبد الله ورسوله، وكانوا حلفاء عبد الله بن أُبَيٍّ بنِ سلول رئيس المنافقين، وكانوا أشجع يهود المدينة، وحامل لواء المسلمين يومئذ حمزة بن عبد المطلب، فحاصرهم أشد الحصار خمس عشرة ليلة، وهم أول من حارب من اليهود، وتحصنوا في حصونهم، وقذف الله في قلوبهم الرعب الذي إذا أراد خذلان قوم وهزيمتهم، أنزله عليهم، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم، فأمر بهم فكتفوا. وكلم عبد الله بن أُبَيٍّ بنِ سلول فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وألحَّ عليه، فوهبهم له، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه فيها، فخرجوا إلى أذرعات من أرض الشام، فقلَّ أن لبثوا فيها حتى هلك أكثرهم.
ثم نقض بنو النضير العهد، وكان ذلك في أوائل السنة الرابعة من الهجرة بعد غزوة أحد، وقبل غزوة الأحزاب. وسبب ذلك أنه خرج إليهم في نفر من كبار أصحابه، منهم أبو بكر، وعمر، وعلي- رضي الله عنهم- وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيَّيْن اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضُّمَّري، بحكم ما كان بينه، وبينهم من عهد، فقالوا: نفعل يا أبا القاسم ! اجلس ها هنا حتى نقضي حاجتك. وخلا بعضهم ببعض، وسوَّل لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم، فتآمروا بقتله. وكان صلى الله عليه وسلم جالسًا إلى جدار من بيوتهم، فقال بعضهم لبعض: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فمَنْ رجلٌ منكم يعلو هذا البيت , فيلقي عليه صخرة , فيريحنا منه ? فقال عمرو بن جُحاش بن كعب: أنا لذلك. فقال لهم سلام بن مشكم: لا تفعلوا، فوالله ليخبرن بما هممتم به، وإنه لنقض العهد الذي بيننا، وبينه. وجاء الوحي على الفور إليه من ربه تبارك وتعالى بما هموا به، فنهض مسرعًا، وتوجَّه إلى المدينة، ولحقه أصحابه، فقالوا: نهضت ولم نشعر بك، فأخبرهم بما همَّت يهود به.
وكان قد سبق هذا إقذاع كعب بن الأشرف- وهو منهم- في هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأليبه الأعداء عليه، وما قيل من أن كعبًا هذا، ورهطًا من بني النضير اتصلوا بكفار قريش اتصال تآمر وتحالف وكيد ضد النبي صلى الله عليه وسلم، مع قيام ذلك العهد بينهم، وبينه، مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن لمحمد بن مسلمة في قتل كعب بن الأشرف، فقتله. فلما كان التبييت للغدر به، لم يبق مفرٌّ من نبذ عهدهم إليهم، وفق القاعدة الإسلامية:﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ ﴾(الأنفال: 5)
فتجهز عليه الصلاة والسلام لحربهم، وبعث إليهم أن اخرجوا من المدينة، ولا تساكنوني فيها، وقد أجلتكم عشرًا، فمن وجدت بعد ذلك منكم فيها، ضربت عنقه، فأقاموا أيامًا يتجهزون. وأرسل إليهم المنافق عبد الله بن أُبَيٍّ بنِ سلول أن لا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم، فيموتون دونكم، وتنصركم قريظة، وحلفاؤكم من غطفان. وطمع رئيسهم حُيَيُّ بْنُ أخطبَ فيما قال له المنافق عبد الله بن أبي سلول، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنَّا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك. فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بقطع نخيلهم والتحريق فيها، فنادوه: أنْ يا محمد ! قد كنت تنهَى عن الفساد، وتعيبه على من صنعه: فما بال قطع النخيل وتحريقها؟ وفي الرد عليهم نزل قوله تعالى:﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِي الْفَاسِقِينَ﴾ (الحشر: 5).
ولما بلغ الحصار ستًا وعشرين ليلة , يئس اليهود من صدق وعد المنافقين لهم, واعتزلتهم قريظة وحلفاؤهم من غطفان، وقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب, فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم، ويكف عن دمائهم- كما سبق إجلاء بني قينقاع- على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن خشبة بابه، فيحمله على ظهر بعيره، أو يخربه حتى لا يقع في أيدي المسلمين، وكان المسلمون قد هدموا بعض الجدران التي اتخذت حصونًا في أيام الحصار، واستولى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أراضهم وديارهم وأموالهم، وقال:« هؤلاء في قومهم بمنزلة بني المغيرة في قريش ». وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ * وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(الحشر: 2- 4).
وبهذا تتم حكاية ما وقع ليهود بني النضير في تلك الصورة الموحية , وهذه الحركة المصورة المعبرة، وكان منهم من سار إلى خيبر , ومنهم من سار إلى الشام.. وكان من أشرافهم الذين ساروا إلى خيبر سلامُ بنُ أبي الحقيق , وكنانةُ بنُ الربيع بنِ أبي الحقيق , وحُيَيُّ بنُ أخطب , ممَّن ورد ذكرهم بعد ذلك في تأليب المشركين على المسلمين في غزوة الأحزاب، ووقعة بني قريظة، وكان لبعضهم كذلك ذكر في فتح خيبر.
وكانت أموال بني النضير فيئًا خالصًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يخمِّسها، لأن المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل، ولا ركاب، وخمَّس قريظة. قال مالك:« خمَّس رسول الله قريظة، ولم يخمِّس بني النضير، لأن المسلمين لم يوجفوا بخيلهم، ولا ركابهم على بني النضير، كما أوجفوا على قريظة ». فقسمها صلى الله عليه وسلم على المهاجرين خاصة دون الأنصار عدا رجلين من الأنصار فقيرين، وذلك أن المهاجرين لم يكن لهم مال بعد الذي تركوه في مكة، وتجردوا منه كله لعقيدتهم، وكان الأنصار قد أنزلوهم دورهم وشاركوهم مالهم في أريحية عالية , وأخوة صادقة , وإيثار عجيب. فلما واتت هذه الفرصة سارع رسول الله صلى الله عليه وسلم لإقامة الأوضاع الطبيعية في المجتمع
الإسلامي، كي يكون للفقراء مال خاص بهم، وكي لا يكون المال متداولاً في الأغنياء وحدهم. وقال عليه الصلاة والسلام للأنصار:« إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم , ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة ». فقالوا:« بل نقسم من أموالنا وديارنا، ونؤثرهم بالغنيمة، ولا نشاركهم فيها ». وهذا ما تحدثت عنه السورة الكريمة في مقطعها الثاني.