هذا ما تفعله مصر!
ليس هناك أدني شك في أن الحرب العدوانية الشرسة التي تشنها إسرائيل ضد قطاع غزة علي مدي ثلاثة أسابيع متصلة قد فرضت واقعا جديدا علي منطقة الشرق الأوسط بأسرها, وأعادت طرح قضية الأمن القومي علي صدر أولويات الاهتمام العربي الإقليمي والتي تناولها البعض باستخفاف وسطحية تعكس من مشاعر الغضب والانفعال أكثر مما تقتضيه ضرورات الحساب الدقيق في مواجهة عدوان وحشي سافر لا يقتصر فقط علي إسرائيل وترسانتها العسكرية, وإنما دخلت فيه الولايات المتحدة الأمريكية علي الخط بشكل واضح ومستفز إلي حد تجاهل كل النداءات والمبادرات الدولية لوقف إطلاق النار ولجم العدوان الإسرائيلي.وللأسف الشديد فإنه بدلا من أن يسود الأمة العربية خطاب إعلامي يوحد الصفوف لجأت بعض وسائل الإعلام العربية إلي الدق علي وتر الفتنة ودق إسفين للفرقة اعتمادا علي كلمة قيلت هنا أو تصريح صدر هناك.
وكما هي العادة فإن مصر نالت النصيب الأكبر ـ للأسف الشديد ـ من هذا الرذاذ برغم كل ماصدر عن القاهرة من إدانات رسمية قوية وواضحة ضد العدوان الإسرائيلي ودون إدراك لخطورة الدق علي هذا الوتر الذي يصب في خانة المزيد من الصدع في بنيان الأمن القومي العربي.
والحقيقة أنه ليس هناك من يستطيع أن يتحدث عن الأمن القومي لمصر بعيدا عن الأمن القومي العربي, مثلما يستحيل تصور إمكانية نشوء أمن قومي عربي في غيبة من وجود مصري مؤثر وفعال.
وإذا كنا نعترف ونقر بصعوبة إدراك هدف البناء الكامل لأمن قومي عربي شامل في المنظور القريب بسبب تعقيدات ومصاعب وحساسيات عديدة, إلا أننا لابد أن نسلم بأن ذلك ليس بالأمر المستحيل, ولعل في سلسلة التحركات والاتصالات المصرية الأخيرة وما استتبعها من مواقف قومية واضحة, ما يعزز الأمل في إمكانية تخطي هذه الصعوبات والتعقيدات إذا خلصت نوايا الأشقاء في التعامل مع آليات الدور المصري الذي يتحرك في إطار منظومة ثلاثية تراعي المصلحة الوطنية أولا, والمصلحة العربية ثانيا, والاعتبارات الإقليمية والعالمية ثالثا!
وإذا كانت بعض الأطراف الإقليمية قد أسلمت نفسها للهواجس عقب العدوان الإسرائيلي ضد قطاع غزة فإن ذلك كان مرجعه إلي استمرار الوقوع في وهم خاطئ بأن دور مصر قد انكمش وتقلص في ضوء المتغيرات العالمية والإقليمية ونشوء مراكز وأوضاع اقتصادية وعسكرية وسياسية في المنطقة, ومن ثم كان رد الفعل مزيجا من التخبط والقلق الذي وصل إلي حد التشكك والتحريض بدعوي أن مثل هذه الدعوة للاحتكام للعقل وحسن قراءة الموقف تعكس مؤشرا لدور مصري جديد تتحلل فيه من التزاماتها القومية.
ولم يكن ذلك أمرا صحيحا بأي مقياس!
إن مصر لم تقدم علي شيء جديد لأن توجهها العربي والتزامها القومي لم يهتزا لحظة واحدة, وربما يتحتم أن نعيد علي مسامع أولئك الذين أوهموا أنفسهم ويحاولون إيهام الآخرين بأن هناك محورا جديدا في المنطقة تشارك فيه مصر لتبريد الحماس القومي تجاه العدوان الإسرائيلي بالتأكيد علي أن مصر لم تخلع أبدا رداءها العربي, وأن مرحلة حكم الرئيس مبارك شهدت العديد من علامات الالتزام الواضح بمسئولية مصر الكاملة تجاه الأمن القومي لأمتها ودون أن يؤثر هذا الالتزام علي التزامها أيضا بدعم مسيرة السلام.
وإذن فإنه عندما تتحرك مصر بالأسلوب الذي تراه مناسبا وتطرح مبادرة عملية لإيجاد صيغة موضوعية تؤدي لوقف نزيف الدم في غزة وتحفظ للأمة العربية أمنها وسيادتها, فإنها لا تقدم علي شيء جديد يدعو إلي افتعال الغضب والقلق, وإعادة الدق علي طبول التحريض والمغالطات المكشوفة في مواجهة تحركات محسوبة تدعو إلي اعمال العقل والحكمة والأخذ بكل أدوات الحساب السياسي والاستراتيجي الصحيح.
ثم أعود مرة أخري إلي ما يهمنا وبصرف النظر عما يتقول به الآخرون علينا!
إن مصر لم يكن بمقدورها أن تمضي وحدها إلي نهاية الشوط في غيبة من دعم عربي واضح ـ رسميا وشعبيا ـ يساند تحركاتها وتوجهاتها لحماية الأمن القومي وبناء القدرة علي مجابهة تحديات اللحظة الراهنة.
وليت أولئك الذين يريدون مجرد إبراء ذمتهم بالدعوة إلي قمم دعائية أن يدركوا أن الأمن القومي ليس مجرد جيوش وعتاد ومعاهدات واتفاقيات, ولكن الأمن القومي يحتاج إلي صيغ متعددة للتعاون العربي الشامل ومد جسور الانفتاح مع المجتمع الدولي بروح الرغبة في المشاركة ضمن المنظومة الدولية كرقم صحيح يعكس حقائق القوة التي تملكها الأمة.
هكذا تفعل الأمم الحية دون أن تغرق نفسها في تشنجات تضر أكثر مما تفيد!
وأكتفي بذلك حرصا علي عدم الانجرار في خطيئة الآخرين.. فهذه ليست لحظة التراشق بالاتهامات وإنما هي لحظة المواجهة المحسوبة بكل أدوات الحساب السياسي والاستراتيجي الصحيح!
وهذا هو ما تفعله مصر بضمير حي وبوعي كامل لكي تجنب نفسها وتجنب القضية الفلسطينية مخاطر العودة مرة أخري لكي تكون مجرد ورقة يستثمرها أحد لحسابات اقليمية أو دولية زائلة!
لقد أرادت مصر من خلال حركتها السياسية الواعية أن تضع المجتمع الدولي بأسره أمام مسئولياته, وان توجه لإسرائيل رسالة حازمة وحاسمة مفادها أن مافعلته في غزة لم يكن له مايبرره مرعبا ومقززا ومثيرا للشكوك في مقاصدها وأهدافها ومدي مصداقية استعدادها للسلام!
وأيضا فقد أرادت مصر من خلال حركتها السياسية الواعية أن تقول ـ بأمانة وصدق ـ انه في لحظات معينة من تاريخ أي أمة عندما تصبح قضايا المصير عرضة للخطر, فإنه يتحتم ترتيب الاولويات واعادة الحسابات وفق فهم دقيق للأوضاع وتحت مظلة من استعداد صادق للتوحد والعطاء بعيدا عن أي جدل عقيم أو ترخص لايليق أو تزيد مبتذل من نوع ما تردد علي بعض الشفاه في اجتماعات الدوحة أمس, لكي يصب في الاتجاه المعاكس, ويعمق الانقسام الفلسطيني