ما إن تطأ قدماك ذاك المجمع الطبي القديم، مشفى الشفاء غربي مدينة غزة، حتى تعاجلك رائحة الدماء والموت، وتطن في أذنيك آهات الجرحى، وينتابك الحزن لوجوه المواطنين المعذبين قصفا ودمارا.
في المشفى الذي استعد لأيام عجاف دموية غاب عنها لون الحياة تجد الطواقم الطبية والمسعفين والمواطنين على حد سواء على أهبة الاستعداد لكل قصف غادر، يهيئون ذاتهم للقادم السيئ في حرب أعلنت دون سابق إنذار، أتت على أحبائهم ومنازلهم في استحداث للنازية الفاشية أبطالها الجدد صهاينة، يصبون جام حقدهم وقهرهم من نجاحات المقاومة حمما ورصاصا فوق رؤوس الآمنين في قطاع غزة في ما اسماه الاحتلال "الرصاص المسكوب".
في مشفى الشفاء الذي لا يتسع إلا لمئة وستين سريرا "وهو ما يقل عن عدد الشهداء بأضعاف" تم تحويل كافة الطوابق العليا فيه لغرف عناية مكثفة وأخلي المشفى من المرضى العاديين والمراجعين الدائمين، وقام الغزيون بتأجيل آلامهم وأمراضهم إلى ما بعد انتهاء حرب الصهاينة.
الممرض ابراهيم ابو غزالة الذي لا يتجاوز من العمر عقده الثالث استمر لأيام خمسة متواصلة دون نوم يراقب حالات عشرات الجرحى ذوي الحالات الحرجة، العديد منهم استشهد ولم يستطع انقاذ حياتهم بعد ان استنفدت كافة المحاولات وأجريت لهم العمليات الجراحية.
وكما ابو غزالة فإن المشافي في غزة عملت بكل طاقاتها وطواقمها وواصل المسعفون الليل بالنهار في ظل قصف متواصل لم يهدأ للحظة، فحين تتوقف الغارات الجوية تأخذ المدافع والزوارق الحربية زمام الأمور وتبدأ بصب حقدها على غزة.
الخطر محدق حتى بأماكن انقاذ الحيوات، فالمشافي الستة المنتشرة في قطاع غزة "مشفى الشفاء بغزة، كمال عدوان بيت لاهيا، العودة جباليا، شهداء الاقصى في وسط القطاع والأوروبي وابو يوسف النجار بمحافظة رفح" قد تكون جميعها هدفا مستباحاً للقصف الصهيوني الذي لا يفرق بين طفل وشيخ وبين مقاوم ومدني وبين مشفى ومسجد.
حتى ان المشافي تشققت جدرانها جراء القصف الصهيوني الذي استهدف مسجد البورنو القريب من مشفى الشفاء، وقد أتى القصف على المسجد بالكامل ودمره فوق رؤوس أربعة من المصلين اصيبوا بجراح خطرة، كما تهشمت نوافذ المشفى المقابل للمسجد وتشققت اكثر جدرانه لأنها بالأساس مبان قديمة لم يتم ترميمها جراء الحصار الاسرائيلي المستمر على قطاع غزة والذي منع اهالي القطاع من التزود بحاجياتهم الاساسية والسلع الحياتية اللازمة للبناء والغذاء على حد سواء.
المسعفون والأطباء هم هدف مستباح لغارات الموت الصهيونية فالاحتلال الذي لا يرحم أحدا يقوم بارسال صواريخ موته مرات متتالية نحو الهدف الواحد برغم توجه المسعفين لمحاولة انقاذ ضحايا القصف الأول، وهو ذاته ما ادى لاستشهاد الطبيب المسعف ايهاب المدهون وسائق الاسعاف محمود ابو حصيرة في قصف صهيوني استهدفهم لدى توجههم لإنقاذ مقاومين استهدفوا قبل دقائق قليلة بغارة على جبل الريس شرقي مخيم جباليا في اليوم الرابع للعدوان على غزة.
الاحتلال الذي يقوده جيش اهوج اعلن انه قد يستهدف المشافي أيضاً بذريعة اختباء افراد حماس وقادتها بداخلها، ويأتي هذا التهديد تمهيدا لشر قادم قد ينال من المشافي وطواقمها الطبية ومن فيها من شهداء وجرحى.
الشهداء الذين ارتفع عددهم عن المئتين في اليوم الأول للمجزرة الصهيونية لم يجدوا مكانا فسيحا بالمشفى الصغير والقيت اجسادهم الطاهرة في الممرات وعلى ارصفة المشفى، وبدأ الأهالي بالتوافد إلى المشافي للتعرف الى ابنائهم الشهداء.
وعلى سرير التشافي نجد فاطمة سالم من غزة وهي لأول مرة في حياتها تخلع حجابها، الأمر خارج عن ارادتها ولو كانت تعلم ذلك لأوصت بألا يرفع غطاء رأسها ولكانت تفضل بأن تستشهد كما عهدها الله تنفذ تعاليمه.
فاطمة الجريحة ذات الخمسين عاما والتي رقدت على سرير الشفاء في غرفة عناية مكثفة كانت سابقا غرفة للتعافي ولنقاهة المرضى، هي لا تعلم ان هناك خمسة من المرضى على أسرة بجانبها ومقابلة لها استشهدوا دون ان يتمكن الأطباء من إنقاذ ما تبقى من حياتهم.
في اليوم الأول للمجزرة الصهيونية "السبت الأسود" التي استهدفت مقار تابعة للحكومة المقالة في غزة بالتزامن وفي وقت واحد، كانت فاطمة التي تعمل في مؤسسة الأقصى للتراث تتوضأ استعدادا لصلاة الظهر، وفجأة انقلبت الدنيا الى سواد فمقر جمعيتها ملاصق لمقر الأمن والحماية او ما يعرف بالمشتل شمالي مدينة غزة، وهناك سقطت أعمدة الموت على فاطمة وتهشم رأسها وتهتك جزء كبير من دماغها كما استشهد العشرات بينهم خمسة عشر شهيدا من افراد الشرطة.
هي في حالة من الغيبوبة منذ ذاك الوقت يحاول مسعفوها والأطباء إنقاذ حياتها، ومؤخراً اضطروا لنقلها إلى مصر لعلّ هناك من ينقذ حياتها.
أما بجوارها وعلى سرير مقابل لها فقد استشهد إسماعيل حمدان الطفل ذو الأعوام العشرة والتحق بشقيقتيه لما وهيا بعد ان فشلت كافة المحاولات لإنقاذ حياته، ولحق بقافلة من الشهداء بلغت 400 شهيد على الاقل فيما يواجه ذات المصير ألفا جريح جلهم إصاباتهم خطرة.
في غزة لا يناقش الموت أحدا فقط يأتيه بغتة، بعضهم يطالب أحباءه بالتشهد كما فعلت الطفلة دينا بعلوشة التي دعت شقيقاتها الخمس للتشهد قبل ان يلفظن انفاسهن الأخيرة تحت ركام المنزل بجباليا، والبعض الآخر لا تسعفه الكلمات أسفل الأنقاض فيبقى قدر ما قدر الله له متشبثا بالحياة إلى أن يفارقها شهيدا، وهكذا يمضي الشهداء قوافل دون وصية تلفهم محبة الأهل والأصدقاء.
ام عصام حجازي والدة الشهيد علي عليان حجازي قالت قبل المجزرة بيوم واحد "سأصمد حتى لو قتلوا أبنائي جميعا فأنا أقدمهم فداء للأقصى وفلسطين، فداء للكرامة والحرية والدين، فداء لروح الشهداء الذين سبقوا ولمن هم ينتظرون"، قالتها وهي تلاقي المهنئين باستشهاد ابنها علي عليان حجازي (25 عاما) قبل يومين من زفافه وقبل ان تدخل اسرائيل غزة في دائرة الموت تحت حمم آلتها الحربية العمياء، ومنذ ذاك اليوم تلاحقت قوافل الشهداء والجرحى.
حرب لم تحصد اهدافها بعد، فلا معنويات المواطنين العزل انهارت ولا المقاومة اعلنت استسلامها، وبرغم امتلاء مشافي القطاع عن بكرة ابيها بالشهداء والجرحى إلا أن غزة بقت صامدة وما زالت قذائف غضبها تنهار على صهاينة خائفين وجدوا من أنفاق الأرض ملاجئ لم تقهم الغضب الفلسطيني بعد.
بكاء الجوارح