ما من ريب في ان كل عربي ومسلم يغمره الاسى، وهو يرى مصر أكبر الكيانات
العربية وصاحبة العراقة في التاريخ والكفاح، وهي تغدو اليوم محاصرة من اكثر من عين وقلم
ولسان بشبهات التواطؤ والضلوع بحصار غزة هاشم، المكلومة الثكلى، او بمعنى آخر محاصرة
بشبهة التقاعس عن نجدة هذا البلد غزة الذي كانت تربطه بأرض الكنانة جسور علاقة وثقى
ضاربة في عمق التاريخ.
ما هذه هي مصر التي يعرفها كل عربي وكل مسلم وكل شريف، ما هذه مصر التي في خاطرنا
جميعا، مصر الازهر الشريف موئل العلم وملاذ الفقه وحضن الاسلام المنيع الذي قهر شيخه
الجليل، نابليون وأحبط مخططه للاستحواذ على الشرق.
ما هذه مصر التي فجر في ارضها العلم الكبير حسن البنا، الشعلة الفكرية والفقهية التي ما
برحت مضيئة تنشر شعاعها على اربع رياح الارض، شعلة الاخوان المسلمين، التي جاءت كرد
فعل على شعور الاحباط الذي انتاب العالم الاسلامي وهو يرى بأم العين سقوط الخلافة العثمانية
التي كانت برغم آلاف الملاحظات عليها وعلى ارائها وسلوكها ووهنها وهوانها على الناس
والامم، ملاذا ولو شكليا للاسلام يقيه تكالب الغرب، وجشعه وجموح طمعه الفائض بهذه البقعة
التي خصها الله عز وجل بعناية خاصة وجعلها مبعث الرسالات السماوية الكبرى ومكان انبعاث
الاولياء.
ما هذه مصر سعد زغلول رائد التحرر الوطني والممهد لكل الانتفاضات الوطنية الكبرى مصر
والعالم العربي، مصر الثورة التي رفعت شعار الاستقلال التام او الموت الزؤام.
ما هذه مصر الزعيم الكبير جمال عبد الناصر الذي برغم التباين حول ادائه في مجالات مصادرة
الحريات العامة، الا ان الجميع يقرون بدوره الكبير في تنوير مصر، وتعزيز انتمائها العربي
وفي الاعلاء من دورها الاسلامي والافريقي في العالم.
عبد الناصر الذي عمل على ادخال مصر والعرب في الحساب العالمي ومحذرا اياهم من المروق
من كل حساب.
عبد الناصر ابو الفقراء والمتعبين والاحرار، عبد الناصر والانجازات الثقافية والبصمة الصناعية
والانمائية في بلاده التي ما زالت تؤتي ثمارها برغم بُعد الزمن وتكرار الارباح تستقي من
ريعها وتتكئ اليها.
ما هذه مصر بلاد النهضة الفكرية والصحافية والادبية في العقود الثلاثة الاولى من القرن الراحل،
التي احيت لغة العرب وصانتها، مصر التي تفاعلت مع احرار العرب الذين لجأوا اليها فوضعوا
مع ابنائها النابهين مداميك القيامة الثقافية الممتدة بثبات في طوايا الزمن وعمق المكان.
ما هذه مصر منابر العرب وشعرائهم احمد شوقي الذي بكى دمشق وغنى شعرا جراحها النازفة
يوم جرؤ "الجهالة" المستعمر الفرنسيس وضربها في عشرينات القرن الماضي فكان شعره
فيها علامة الزمن الفارقة والقصيد الذي ما زالت تتلفظ به الشفاه العربية عندما تحل بها رزية او
تنزل بها قاصمة.
ما هذه مصر منبتة عميد الفكر العربي طه حسين الذي اثار دنيا الفكر العربي برغم ظلمته هو،
بمؤلفات خالدة خلود الدهر من قبل على هامش السيرة.
ما هذه مصر التي انجبت للعالم العربي صاحب العبقريات عباس محمود العقاد..
ما هذه مصر الشيخ محمود شلتوت والشيخ محمد ابو زهرا والشيخ محمد الغزالي وقبلهم موكب
العلماء الكبار من امثال الشيخ محمد عبدو ورفيق رحلة جهاده الشاقة والشيقة الشيخ جمال الدين
الافغاني الذي جاب الشرق والغرب باحثا عن ارض يزرع فيها بذور فكره النير المتحرر، فلم
يجد اخصب من تربة ارض الكنانة فاستقر فيها ردحا من الزمن يلهم تلك الثلة من الرجال
الاحرار حوله ينهلون من نبع معرفته، وهو الآتي اليهم بعلم الاولين من النجف الاشرف.
نحن من الذين ايقنوا كما قال المفكر جمال حمدان صاحب شعر "عبقرية المكان" عن المكانة
الرفيعة لمصر وعن دورها في التجهد للجمع بين ثقافات الاسلام الوافد اليها من جزيرة العرب
وثقافات القارة السمراء، وتلك الحضارة الثابتة على يد سكانها الاصليين.
ما هذه مصر التي في خاطرنا، وما هكذا يكتب تاريخها. ولا شك ان كل من تلفظ بالشهادتين ومن
نطق بالضاد، يرفض مصر النظام الحالي، وينتظر مصر الراسخة في خاطره..
بكاء الجوارح