بكاء الحب عجيب، ودمع المحبة غريب، وسهم الشوق مصيب، وليس للفراق غير الاجتماع طبيب.
وكان المحبون أسرع الناس بكاء إذا ذكر محبوبهم جل في علاه.
قرئ كلام الواحد الأحد على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فلما سمع: ((فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ...))، الآية، ذرفت عيناه!:
باد هواك صبرت أم لم تصبرا وبكاك إن لم يجر دمعك أو جرى
كم غر صبرك واحتمالك صاحباً لما رآك وفي الحشى ما لا يرى
وسهر صلى الله عليه وسلم ليلة كاملة يبكي ويردد قوله تعالى: ((إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)).
يقول المتنبي :
عجنا فأذهب ما أبقى الفراق لنا من العقول وما رد الذي ذهبا
و أبو بكر الصديق يبكي خشية الفراق لما نزلت: ((إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله وَالْفَتْحُ))، على الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: ما بعد النصر والفتح إلا رحيل رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
وعمر الفاروق بشره الرسول صلى الله عليه وسلم بقصر في الجنة، ويقول: أردت أن أدخله فذكرت غيرتك يا عمر فلم أفعل، فبكى عمر وقال: أمنك أغار يا رسول الله؟
:
ليت من لام عيوني في الجوى ذاق ما ذقناه في يوم الفراق
قد شوينا أكبداً قد طويت قبل هذا اليوم والدم يراق
وطالب عمر بقتل حاطب بن أبي بلتعة ؛ لأنه أفشى سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الرسولوما أدراك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، فبكى عمر .
كنا نغسل بالدموع خدودنا ونوضئ الأجفان من رياها
ما قاوموا -والله- شدة الشوق، وغلبة الخوف، وحرارة الجوى، بل نكسوا الرؤوس آسفين، ووضعوا الجباه باكين، وخروا على وجوههم ساجدين:
ليتني صنت للقاء دموعاً ذهبت يوم حان منا الرحيل
كنت خفت من لهيب ضلوعي يوم زار الفؤاد هم ثقيل
وبعض المحبين أتوا إلى المعصوم صلى الله عليه وسلم يريدون الجهاد في سبيل الله، فقال: لا أجد ما أحملكم عليه من إبل ولا خيل، فبكوا!! فقال عز اسمه:
((وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ)):
ما عندنا أن منعنا من زيارتكم إلا قلوباً شويناها بذكركم
يسابق الدمع ألفاظ المحب فلو كانت مدامعه كنزاً لأغناكم
المحبون لو سمعوا من الحبيب كلمة لطارت أرواحهم شوقاً:
((وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ))، وصلهم من ربهم الخطاب، وقرع سمعهم والله العتاب، فوقفوا على الأبواب، وقد بلو بدموعهم التراب:
نسيم على وادي المحبين قد هبا فصب دموع الجفن من شوقنا صبا
قبضنا على أكبادنا بكفوفنا فيا حزن ما أدهى ويا بين ما أسبى!
(عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)، فالقضية عادلة، والعينان شاهدا عدل لا يقبلان الزور ولا يعرفان الكذب:
وعينان قال الله كونا فكانتا فعولان بالألباب ما يفعل السحر
لقد زادني مر الرياح صبابة إلى أرضهم حتى تناهى بي الصبر