ثقافة المقاومة
المقاومة هي فعل وطني نبيل ينطلق من مفهوم واقعي يحاول استعادة التوازن ومن ثم الهجوم ضد مرتكزات العدوان الخارجي أو الداخلي أو بشكل أكثر دقة تدمير فضاء الاحتلال، الجماهير التي تنخرط في فعل المقاومة الوطنية هي الطليعة القائدة التي تعرف أهدافها وتدرك أين تكمن مصالحها وتوظف قدراتها لتطوير المقاومة في كل الأشكال المطلوب التعبير عنها ويعد ذلك الفعل مشروع تماماً. لقد جربت الكثير من دول العالم وشعوبها ذلك الفعل المقاوم النهضوي ومن ضمنها شعبنا العربي المكافح في فلسطين السليبة, وكذلك بقية أقطار أمتنا المبتلاة بالهجمة العدوانية الشرسة التي تستهدف وجودها ومرتكزاتها الحضارية، وفي سجل المنازلة الكبيرة ندرك تفاصيل الفعل الوطني القومي وتأثيره الذي استهدف الوجود الاستعماري في الحقبة السابقة, وكذلك الجهد الوطني الرديف الذي كشف كل أشكال السيطرة المنظورة وغير المنظورة من خلال أساليب التعبير التي تشكل الساتر الأول في المواجهة.
في الإطلاع على تجارب عالمية تأسست في دول أخرى مثل الاتحاد السوفييتي السابق وفرنسا وألمانيا وفيتنام وكمبوديا وغيرها من مجتمعات حاولت قوى القهر سحقها ووضعها تحت سيطرتها المهينة، لم يكن أمام شعوب تلك الدول غير اللجوء إلى المقاومة وتطوير أساليبها وصولاً إلى التحرير والحرية. من تلك الصورة العالمية الكبيرة التي تشكلت ونجحت في إنجاز مهماتها أنطلق محلقا في هذا الكتاب الجديد الذي أنشر فصوله وأحاول تقديم تلك الصورة الخاصة بالمشهد الثقافي المقاوم واستعراض تجارب المقاومة العالمية ومنجزاتها الثقافية التي رفدت شعلة الرد والتحدي بمنجزات تتداولها الآن شعوب الأرض قاطبة وتستلهم منها الكثير من الدروس والعبر. يأتي هذا الجهد وشعبينا الصابرين في العراق وفلسطين العزيزة، أبناؤهما يخوضون مستبسلين في نضال عنيد ومجيد هو الشعاع القادم والذي سيصنع فجر الأمة ويفتح السبل التي ستساهم في تخليص العالم من الهيمنة الإمبريالية العدوانية. في العراق يقدم الشعب الصابر المظلوم المعتدى عليه صورة جديدة ومغايرة لكل أشكال المقاومة التي حصلت في بقاع العالم ويقف نداً كفوءاً لمنازلة غول العصر. أنني أحيي ذلك الشعب الذي أنتسب إليه وأقدم بين يديه الكريمة هذا الجهد المتواضع.
التجربة الفرنسية
كانت فرنسا قد وقعت في قبضة الاحتلال النازي البغيض. في تلك الأيام دب اليأس والخوف وغلف الضباب مصير أبنائها وصار هدير المجنزرات والدبابات والطائرات الألمانية يقض مضاجع أبناء الشعب, كل المظاهر التي كانت ترافق حالة الاحتلال، كل المؤشرات تعلن عن مستقبل أسود ومشوّه تنتظره الأجيال القادمة. مرت أربعة أعوام خلالهما كانت أرض وسماء فرنسا محتلتين, وشعبهما ظل يرسف في الأسر الألماني. حصل كل ذلك بعد شهر حزيران من العام 1940, كل شيء قد تغير بعد الاحتلال. صمت وحزن يطبقان على الأبواب والدروب. لم تعد باريس مدينة النور واللهو والصخب والحب والجمال والفكر الرفيع، بل تحولت إلى مدينة محتلة تتحرك على مساحات ترابها أشباح الاحتلال التي كانت تصادر المستقبل وتفرض قسوتها على الأرض والإنسان. تصاعد الأنين الحزين وصار الشجن كشعاع الشمس يخترق العيون ويستقر في الأعماق، لكن فرنسا ظلت تبحث عن طريق وعن بصيص أمل للخلاص من حالة الاحتلال والأسر. ومن بين ذاك الأنين والشجن والقضبان ارتفع صوت منفرد يغرد للحرية والخلاص سرعان ما صار يدوي في كل أرجاء فرنسا. كان ذلك الصوت يدعو للنهوض ومجابهة رموز الاحتلال وتقوية الفعل النافذ إلى تحرير الأرض والإنسان، إنه صوت الأدب المعارض المقاوم, أيقظ ذلك الصوت فرنسا كلها، جعلها تستفيق وتستوعب صدمة الاحتلال النازي وتجمع شتات قوتها وتتحول نحو الفعل الذي زرع في قلوب أبنائها الشجاعة. أوقدت تلك الأقلام وورش الفنانين مصابيح صارت تتوهج في ليل فرنسا الحالك وتنشر أردية الأمل والحرية وتعلن بوضوح تام عن تقريب يوم الخلاص من الاحتلال الغاشم.
السلاح الأقوى
انتبه قادة الفكر في فرنسا إلى أهمية سلاح الكلمة المعارضة والمقاومة، ذلك السلاح القوي الذي يفعل فعله المدمر في صفوف الأعداء, ولذلك اتجهوا دون تردد إلى المسرح والأدب لنشر أفكارهم خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، وهكذا تنادى بعض الكتاب والمفكرين تحت جنح الظلام والتقوا في اجتماع سرّي تم على أثره تأسيس دار للطباعة والنشر تهتم بنشر النتاج الأدبي المعارض لقوى الاحتلال وتوزيعه في مدن وقصبات فرنسا, وكذلك تمويل إنتاج العروض المسرحية ذات التأثير المشابه لتقدم على مسارح فرنسا وتوجيه نداء إلى كتاب المسرح الفرنسي آنذاك للمساهمة في إنجاح الجهد التعبوي غير المباشر ضد الاحتلال النازي. كانت تلك الفكرة جديرة بالاحترام, وقد حصلت على تأييد كبير من لدن الكتاب والفنانين, وأيضا استطاعت أن تجد دعما غير محدود لدى الطبقة البرجوازية التي وظفت الكثير من الأموال في مجال الإنتاج المسرحي دون إثارة حفيظة قوى الاحتلال, وهكذا بدأت صرخة الحرية والتحرير تجد صدى أكبر لها لقد صارت المساحة تتوسع في عمق بحار وشواطئ فرنسا وعلى كل الأرض.
منشورات نصف الليل
حول طاولة مستطيلة من خشب قديم اجتمع كتّاب وأدباء وفنانون ومفكرون فرنسيون يمثلون مختلف الاتجاهات السياسية والدينية, وقد أبعدوا عن ذلك الاجتماع رياح الاختلاف السياسي ووضعوا نصب أعينهم مصلحة فرنسا قبل كل شيء. في ذلك الاجتماع جلس الكاتب الروائي الكاثوليكي "فرانسوامورياك" إلى جانب الشاعر "أراجون" رغم الخلاف السائد بينهما. عندما حصل ذلك أدرك قادة المقاومة أن ليل الاحتلال بات يقترب من الزوال. وبعد الاتفاق على جميع مظاهر العمل المطلوب، توقف الجميع عند اختيار اسما لدار النشر. في ذلك الاجتماع عرضت أسماء عديدة, لكن الآراء اتفقت على اسم غريب هو "دار منتصف الليل للنشر والترجمة". كانت حيلة ذكية للعمل بعيدا عن عيون رجال رقابة الاحتلال، وكذلك رمزا للتذكير بليل فرنسا تحت الاحتلال.
يتبع
المقاومة هي فعل وطني نبيل ينطلق من مفهوم واقعي يحاول استعادة التوازن ومن ثم الهجوم ضد مرتكزات العدوان الخارجي أو الداخلي أو بشكل أكثر دقة تدمير فضاء الاحتلال، الجماهير التي تنخرط في فعل المقاومة الوطنية هي الطليعة القائدة التي تعرف أهدافها وتدرك أين تكمن مصالحها وتوظف قدراتها لتطوير المقاومة في كل الأشكال المطلوب التعبير عنها ويعد ذلك الفعل مشروع تماماً. لقد جربت الكثير من دول العالم وشعوبها ذلك الفعل المقاوم النهضوي ومن ضمنها شعبنا العربي المكافح في فلسطين السليبة, وكذلك بقية أقطار أمتنا المبتلاة بالهجمة العدوانية الشرسة التي تستهدف وجودها ومرتكزاتها الحضارية، وفي سجل المنازلة الكبيرة ندرك تفاصيل الفعل الوطني القومي وتأثيره الذي استهدف الوجود الاستعماري في الحقبة السابقة, وكذلك الجهد الوطني الرديف الذي كشف كل أشكال السيطرة المنظورة وغير المنظورة من خلال أساليب التعبير التي تشكل الساتر الأول في المواجهة.
في الإطلاع على تجارب عالمية تأسست في دول أخرى مثل الاتحاد السوفييتي السابق وفرنسا وألمانيا وفيتنام وكمبوديا وغيرها من مجتمعات حاولت قوى القهر سحقها ووضعها تحت سيطرتها المهينة، لم يكن أمام شعوب تلك الدول غير اللجوء إلى المقاومة وتطوير أساليبها وصولاً إلى التحرير والحرية. من تلك الصورة العالمية الكبيرة التي تشكلت ونجحت في إنجاز مهماتها أنطلق محلقا في هذا الكتاب الجديد الذي أنشر فصوله وأحاول تقديم تلك الصورة الخاصة بالمشهد الثقافي المقاوم واستعراض تجارب المقاومة العالمية ومنجزاتها الثقافية التي رفدت شعلة الرد والتحدي بمنجزات تتداولها الآن شعوب الأرض قاطبة وتستلهم منها الكثير من الدروس والعبر. يأتي هذا الجهد وشعبينا الصابرين في العراق وفلسطين العزيزة، أبناؤهما يخوضون مستبسلين في نضال عنيد ومجيد هو الشعاع القادم والذي سيصنع فجر الأمة ويفتح السبل التي ستساهم في تخليص العالم من الهيمنة الإمبريالية العدوانية. في العراق يقدم الشعب الصابر المظلوم المعتدى عليه صورة جديدة ومغايرة لكل أشكال المقاومة التي حصلت في بقاع العالم ويقف نداً كفوءاً لمنازلة غول العصر. أنني أحيي ذلك الشعب الذي أنتسب إليه وأقدم بين يديه الكريمة هذا الجهد المتواضع.
التجربة الفرنسية
كانت فرنسا قد وقعت في قبضة الاحتلال النازي البغيض. في تلك الأيام دب اليأس والخوف وغلف الضباب مصير أبنائها وصار هدير المجنزرات والدبابات والطائرات الألمانية يقض مضاجع أبناء الشعب, كل المظاهر التي كانت ترافق حالة الاحتلال، كل المؤشرات تعلن عن مستقبل أسود ومشوّه تنتظره الأجيال القادمة. مرت أربعة أعوام خلالهما كانت أرض وسماء فرنسا محتلتين, وشعبهما ظل يرسف في الأسر الألماني. حصل كل ذلك بعد شهر حزيران من العام 1940, كل شيء قد تغير بعد الاحتلال. صمت وحزن يطبقان على الأبواب والدروب. لم تعد باريس مدينة النور واللهو والصخب والحب والجمال والفكر الرفيع، بل تحولت إلى مدينة محتلة تتحرك على مساحات ترابها أشباح الاحتلال التي كانت تصادر المستقبل وتفرض قسوتها على الأرض والإنسان. تصاعد الأنين الحزين وصار الشجن كشعاع الشمس يخترق العيون ويستقر في الأعماق، لكن فرنسا ظلت تبحث عن طريق وعن بصيص أمل للخلاص من حالة الاحتلال والأسر. ومن بين ذاك الأنين والشجن والقضبان ارتفع صوت منفرد يغرد للحرية والخلاص سرعان ما صار يدوي في كل أرجاء فرنسا. كان ذلك الصوت يدعو للنهوض ومجابهة رموز الاحتلال وتقوية الفعل النافذ إلى تحرير الأرض والإنسان، إنه صوت الأدب المعارض المقاوم, أيقظ ذلك الصوت فرنسا كلها، جعلها تستفيق وتستوعب صدمة الاحتلال النازي وتجمع شتات قوتها وتتحول نحو الفعل الذي زرع في قلوب أبنائها الشجاعة. أوقدت تلك الأقلام وورش الفنانين مصابيح صارت تتوهج في ليل فرنسا الحالك وتنشر أردية الأمل والحرية وتعلن بوضوح تام عن تقريب يوم الخلاص من الاحتلال الغاشم.
السلاح الأقوى
انتبه قادة الفكر في فرنسا إلى أهمية سلاح الكلمة المعارضة والمقاومة، ذلك السلاح القوي الذي يفعل فعله المدمر في صفوف الأعداء, ولذلك اتجهوا دون تردد إلى المسرح والأدب لنشر أفكارهم خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، وهكذا تنادى بعض الكتاب والمفكرين تحت جنح الظلام والتقوا في اجتماع سرّي تم على أثره تأسيس دار للطباعة والنشر تهتم بنشر النتاج الأدبي المعارض لقوى الاحتلال وتوزيعه في مدن وقصبات فرنسا, وكذلك تمويل إنتاج العروض المسرحية ذات التأثير المشابه لتقدم على مسارح فرنسا وتوجيه نداء إلى كتاب المسرح الفرنسي آنذاك للمساهمة في إنجاح الجهد التعبوي غير المباشر ضد الاحتلال النازي. كانت تلك الفكرة جديرة بالاحترام, وقد حصلت على تأييد كبير من لدن الكتاب والفنانين, وأيضا استطاعت أن تجد دعما غير محدود لدى الطبقة البرجوازية التي وظفت الكثير من الأموال في مجال الإنتاج المسرحي دون إثارة حفيظة قوى الاحتلال, وهكذا بدأت صرخة الحرية والتحرير تجد صدى أكبر لها لقد صارت المساحة تتوسع في عمق بحار وشواطئ فرنسا وعلى كل الأرض.
منشورات نصف الليل
حول طاولة مستطيلة من خشب قديم اجتمع كتّاب وأدباء وفنانون ومفكرون فرنسيون يمثلون مختلف الاتجاهات السياسية والدينية, وقد أبعدوا عن ذلك الاجتماع رياح الاختلاف السياسي ووضعوا نصب أعينهم مصلحة فرنسا قبل كل شيء. في ذلك الاجتماع جلس الكاتب الروائي الكاثوليكي "فرانسوامورياك" إلى جانب الشاعر "أراجون" رغم الخلاف السائد بينهما. عندما حصل ذلك أدرك قادة المقاومة أن ليل الاحتلال بات يقترب من الزوال. وبعد الاتفاق على جميع مظاهر العمل المطلوب، توقف الجميع عند اختيار اسما لدار النشر. في ذلك الاجتماع عرضت أسماء عديدة, لكن الآراء اتفقت على اسم غريب هو "دار منتصف الليل للنشر والترجمة". كانت حيلة ذكية للعمل بعيدا عن عيون رجال رقابة الاحتلال، وكذلك رمزا للتذكير بليل فرنسا تحت الاحتلال.
يتبع