إسـرائيل والمواثيـق الدوليـة
تنفرد اسرائيل بأضخم كمية وأبشع نوعية من الانتهاكات القانونية. فقرار التقسيم الذي مهّد الطريق لظهور اسرائيل كان مشوبا بالبطلان. وقبولها في عضوية الأمم المتحدة لم يتم الا بخديعة وضغط وشرط. وتنصلها من التزاماتها في الاراضي المحتلة أصبح مضرب المثل. وممارساتها المناهضة لحقوق الانسان والشعوب يصعب وصفها وتبريرها وتعدادها. واذا كانت تدّعي ان وجودها ككيان دولي يستمد شرعيته من قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29/11/1947، فهذا القرار مشوب بالبطلان المطلق لأنه يشكل تجاوزا لصلاحيات هذه المنظمة.
لقد وضعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني بموجب صك الانتداب الذي أقرته عصبة الأمم في 24/7/1922. وفي نهاية الحرب العالمية الثانية حلّت الأمم المتحدة محل العصبة، كمنظمة عالمية، وأوجدت نظاما جديدا مغايرا لنظام الانتداب، هو نظام الوصاية الدولية. وكرّس ميثاق الأمم المتحدة فصلين (12 و13) للحديث عن هذا النظام وعن أحكام مجلس الوصاية.
وبالاستناد الى نصوص الميثاق واجتهاد محكمة العدل الدولية (في قضية ناميبيا) أكد معظم الفقهاء الدوليين، ومنهم العلامة كلسن Kelsen:
ز ان الامم المتحدة لم تخلف العصبة في الحقوق المتعلقة بالأقاليم الخاضعة للانتداب.
ب وان نظام الوصاية لم يحل محل نظام الانتداب بصورة آلية.
ج وان صلاحيات الجمعية العامة في شؤون تلك الأقاليم مقيدة بأمرين: أحكام صك الانتداب، وأحكام ميثاق الامم المتحدة.
1 فالصك كان يتضمن عددا من الحلول وينص على انتهاء الانتداب بإقامة حكومة مستقلة في فلسطين. وكان بإمكان الأمم المتحدة، بعد تخلي بريطانيا عن الانتداب، ان تعلن بلوغ الشعب الفلسطيني مرحلة كافية من النضج السياسي تؤهله لنيل الاستقلال، أسوة ببقية الأقطار المشمولة بالانتداب التي استقلت منذ سنوات (العراق والاردن وسوريا ولبنان).
وكان بإمكانها كذلك، في حال اقتناعها بعدم أهلية هذا الشعب للاستقلال، ان تستوحي حلا من الحلول التي ينطوي عليها الميثاق الأممي: إما إقناع بريطانيا بالاستمرار في الانتداب، ولو لسنوات قليلة إضافية، وإما إخضاع فلسطين لنظام الوصاية الدولية تحت إدارة الأمم المتحدة، وإما عقد اتفاقية وصاية مع دولة اخرى للقيام بمهام الادارة والاشراف في فلسطين.
ولكن الأمم المتحدة فضّلت التقسيم فجاء قرارها مخالفا للمادة الخامسة من صك الانتداب التي تحظّر التنازل عن أراضي فلسطين او تأجيرها او وضعها تحت رقابة أية سلطة أجنبية.
2 والمخالفة التي ارتكبتها الأمم المتحدة لم تقف عند الاخلال بأحكام صك الانتداب، بل تعدتها الى الاخلال بنصوص الميثاق الأممي ذاته. فقرار التقسيم يتناقض مع المادتين 10 و14 من الميثاق اللتين تخوّلان الجمعية العامة حق إصدار التوصيات من دون اتخاذ القرارات. وقرار التقسيم هو، كما أرادته الجمعية العامة، قرار إلزامي لا توصية بسيطة، فأحد بنوده يطلب من مجلس الامن ان يعتبر <<كل محاولة لتغيير التسوية التي نص عليها القرار تهديدا للسلام، او إخلالا به، او عملا من أعمال العدوان>>.
والجمعية العامة التي أصدرت قرار التقسيم لا تستطيع اتخاذ قرارات قابلة للتطبيق بالقوة الا في إطار قرار <<الاتحاد من أجل السلام>> الذي خوّلها الحلول محل مجلس الامن في حال عجزه عن اتخاذ القرارات المهمة والعاجلة بسبب كثرة استعمال حق النقض. ولكن قرار <<الاتحاد>> صدر في العام 1950، اي بعد صدور قرار التقسيم.
والجمعية ملزمة، لدى إصدارها توصيات تتعلق بمصير شعب، باحترام مبدأ تقرير المصير الذي يعتبر من مبادئ الأمم المتحدة. وكان من واجبها، لدى عرض القضية الفلسطينية عليها، ان تلجأ الى إجراء استفتاء لمعرفة رغبات الاكثرية من الفلسطينيين. ولكنها لم تفعل. وكان بإمكانها كذلك التجاوب مع الاقتراح المطالب باستشارة محكمة العدل الدولية حول صلاحيات الامم المتحدة في هذه المسألة. ولكنها تهرّبت وتنصلت.
ولو أردنا الايجاز لقلنا ان إنشاء الكيان الصهيوني في فلسطين بقرار من الجمعية العامة يعتبر تصرفا لا يقوم على اي أساس قانوني، لأن الجمعية تجاوزت صلاحياتها باتخاذ قرار التقسيم، ولان القرار يتناقض مع مبدأ من مبادئ الأمم المتحدة، هو حق تقرير المصير، ولان عملية التصويت في الجمعية جرت، كما ذكر الرئيس الاميركي آنذاك، هاري ترومان، في ظل مناورات ومساومات وضغوط لم يسبق للأمم المتحدة ان عرفتها من قبل.
انضمام إسرائيل الى الأمم المتحدة
بشرط لم ينفذ
في 29/11/1948، تقدمت اسرائيل بطلب الى الأمم المتحدة لقبولها في عضويتها. فناقش مجلس الامن الطلب ورفض إصدار توصيته للجمعية العامة بقبولها.
وبعد هذا الاخفاق تجنّدت واشنطن واستعملت، كعادتها، مختلف أساليب الترغيب والترهيب، وطلبت من اسرائيل تقديم طلب جديد في 4/3/1949. وفي جلسة واحدة تغيّر الوضع وأوصى مجلس الامن بقبول اسرائيل في العضوية الأممية، باعتبارها دولة مستقلة ومحبة للسلام.
وفي 11/5/1949، وافقت الجمعية (وكانت تعقد دورة استثنائية) على التوصية بأغلبية 37، مقابل 12، وامتناع 9، واشترطت على اسرائيل تنفيذ قرار التقسيم وقرار اعادة اللاجئين، فكانت اسرائيل بذلك الدولة الوحيدة التي قبلت في العضوية بشرط، وارتبط قبولها بتنفيذ قرارين صادرين عن الجمعية العامة.
غير ان هذا القبول تم بمناورة خادعة تتلخص في إيهام الدول الاعضاء بأن الوفد الاسرائيلي الذي كان يتفاوض مع الوفد العربي في لوزان قد وقّع على بروتوكول يتضمن موافقة اسرائيل على التخلي عن الاراضي التي احتلتها خلافا لقرار التقسيم، وموافقتها على إعادة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم.
واكتشفت الخدعة بسرعة عندما أعن رئيس وزراء العدو (بن غوريون) بعد التصويت على قبول اسرائيل <<ان اسرائيل تعتبر قرار التقسيم قرارا غير مشروع وغير موجود>>، وعندما أعلنت وزارة خارجية العدو <<ان عودة أي لاجئ الى مكان إقامته الأصلية شيء مستحيل>>، وعندما برهنت تصرفات اسرائيل بعد ذلك على استخفاف الدولة الجديدة، والمدينة بوجودها للمنظمة العالمية، بأحكام الميثاق الأممي وعدم امتثالها لسلطة تلك المنظمة، وعدم الوفاء بالتعهدات التي التزمتها.
ومع ان إصرار اسرائيل على عدم تنفيذ قرارات الأمم المتحدة يشكّل إخلالا بالالتزامات التي تعهدت بها، ويجعل المنظمة في حل من التزاماتها تجاهها، ويخولها حق طردها من العضوية بعد تحقق الشرط الفاسخ او الملغي، فإن الجمعية العامة لم تجرؤ مرة على إدراج هذه المسألة في جدول أعمالها، ولم تفكر الدول العربية الأعضاء (وعددها 21) في إثارة هذا الموضوع للمطالبة بتنفيذ الشرط الفاسخ، او على الاقل لإرباك العدو في أرفع محفل دولي.
إسرائيل دولة احتلال تتنصّل من التزاماتها
تضمنت جميع المواثيق الدولية وقوانين الحرب، منذ القرن التاسع عشر، رفضا قاطعا لاحتلال الاراضي بالقوة، ومنحت الشعب الخاضع للاحتلال حق المقاومة والثورة على قوات الاحتلال.
(...) ويعد الاحتلال الحربي مرحلة تعقب لجوء إحدى الدول الى استخدام القوة المسلحة. ومن دلائل الاحتلال وقوع كل اقليم الدولة المغلوبة، او جزء منه، تحت سلطة الدولة الغازية.
ومن المسائل المهمة التي يثيرها الاحتلال الحربي: مسألة السيادة ومسألة إدارة الاقليم المحتل.
ففي العام 1949، صدرت اتفاقيات جنيف الأربع ووافقت عليها دول العالم، بما فيها اسرائيل. وحددت الاتفاقية الرابعة منها المبادئ والقواعد الاساسية التي يخضع لها الاحتلال الحربي. ومن هذه النقاط: ان الاحتلال وضع موقت ليس له صفة الدوام، ولا يؤدي، من الناحية القانونية، الى نقل السيادة من دولة الى اخرى، فهو ليس سوى حالة من الضرورة، او نوع من القوة القاهرة التي لا تسفر أبدا عن نقل السيادة.
والى جانب مسألة السيادة يعالج قانون الاحتلال الحربي مسألة ادارة الاقليم المحتل تجنبا لنشوء فراغ سياسي وإداري وقيام حالة من الفوضى بسبب توقف المؤسسات الدستورية عن العمل. ويرسم هذا القانون لسلطة الاحتلال حدود الصلاحيات التي يحق لها ان تمارسها لإدارة الاقليم المحتل، ويلزمها الامتناع عن إحداث تغييرات في المؤسسات الاساسية، الا في حالة الضرورة القصوى، او في حدود الضرورات التي يفرضها حفظ النظام والامن.
فموقف القانون الدولي المعاصر، المتمثل بالمواثيق والاتفاقيات والاجتهادات الدولية، من صلاحيات دولة الاحتلال، واضح لا غموض فيه. وفي العام 1968، أنشأت الجمعية العامة <<لجنة خاصة للتحقيق في الممارسات الاسرائيلية التي تمس حقوق الانسان في الاراضي المحتلة>>. غير ان اسرائيل رفضت السماح لها بزيارة تلك الاراضي.
الممارسات الإسرائيلية انتهاك لحقوق الإنسان
اهتمت الامم المتحدة، منذ قيامها، بحقوق الانسان التي لم تعد مسألة فردية تعالج في نطاق القوانين الداخلية، بل أصبحت قضية عالمية وإنسانية يؤدي انتهاكها الى اندلاع الانتفاضات والثورات وتعكير العلاقات بين الدول.. وكل مطلع على ممارسات اسرائيل يلحظ الاخلال الفاضح بكل التزاماتها النابعة من اتفاقيات حقوق الانسان. وقد صدرت عن أجهزة الامم المتحدة مئات القرارات التي تذكّر اسرائيل بالمبادئ الواردة في الاعلان العالمي وبقية الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحق كل إنسان في العودة الى بلده لاسترداد أمواله والانضمام الى أسرته، وتطالبها بإلغاء التدابير التي اتخذتها، كضمّ الاراضي، وإقامة المستعمرات، وتهجير السكان، وهدم القرى والأحياء، وإساءة معاملة المساجين والمعتقلين وتعذيبهم، واللجوء الى العقوبات الجماعية.
واعترفت الامم المتحدة بأن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ناشئة من إنكار حقوقهم غير القابلة للتصرف، وبأن للفلسطينيين الحق في تقرير مصيرهم بحرية. وحق الشعب في تقرير مصيره يشمل، بلا شك، حقه في العودة الى وطنه. وكان مجلس الأمن، في العام 1988، قد منح الفلسطينيين الذين طردتهم اسرائيل خلال الانتفاضة المباركة الاولى حق العودة الى بلدهم.
غير ان اسرائيل التي تعلن انضمامها الى معظم المواثيق الدولية الخاصة بحماية حقوق الانسان، تمارس أبشع أنواع القهر والظلم والاضطهاد ضد الفلسطينيين وبقية العرب. ويتجلى ذلك في الامور التالية:
ضم الاراضي المحتلة، وإنشاء المستعمرات بغزارة، وطرد السكان، وتدمير المؤسسات، ومصادرة الاملاك.
الاعتقالات والعقوبات الجماعية
عدم السماح للمؤسسات الانسانية بزيارة المعتقلين.
محاصرة المدن والقرى والمخيمات، ومنع إدخال المواد الغذائية والطبية اليها، وقطع المياه والكهرباء عنها، وإكراه أهلها على التزام منازلهم.
ارتكاب المجازر الجماعية التي تفوق بهولها <<المحرقة>> التي يتبجحّون بها.
إبعاد المسؤولين والقياديين، او اختطافهم، او اغتيالهم.
رفض اعادة اللاجئين والمهجرين الى ديارهم تنفيذا للقرارات الدولية.
التعسف في معاملة السكان العرب واعتقال رجال الدين.
تدنيس المعابد وانتهاك حرية العبادة.
التسبب في وفاة معتقلين في السجون الاسرائيلية بسبب الاهمال او التعذيب.
اقامة الاسلاك الشائكة والسواتر الترابية والاسوار الواقية لمنع السكان من الاتصال بالخارج.
ممارسة سياسة من التمييز العرقي والعنصري والديني لم تخطر ببال الحركات الفاشية.
مداهمة المنازل والمحلات التجارية، والعبث بمحتوياتها، وسرقة كل ثمين ونفيس فيها، وختمها بالشمع الاحمر حينا، ونسفها أحيانا لطمس معالم الجرائم المرتكبة.
اعتقال الآلاف من الشباب بشكل اعتباطي عشوائي، وإذلالهم واقتيادهم الى جهات مجهولة، وزجهم في معتقلات لا تتوافر فيها ادنى الشروط الأمنية والصحية.
احتجاز الاقارب مقابل تسليم المطولبين.
إتلاف الاشجار المثمرة، والقضاء على المحاصيل الزراعية، وتحويل الاراضي والمناطق المحتلة الى أرض محروقة.
ان جميع هذه النماذج من الاعمال التعسفية والاستبدادية التي ترتكبها اسرائيل في الاراضي العربية المحتلة تشكل خرقا لأبسط قواعد السلوك المطلوبة من قوات الاحتلال تجاه المدنيين، وتشكل خرقا فاضحا لكل الاتفاقيات حول حقوق الانسان.
الخلاصة ان اسرائيل لا تقيم أي وزن للمواثيق والقرارات الدولية والانسانية. انها لا ترى في القوانين والمبادئ الا وسائل لتحقيق أهدافها التوسعية. بل انها تعتقد ان القوانين والمواثيق توضع لخدمة مصالحها، فإذا ما تعارض القانون او القرار مع مصالحها نعتته بمعاداة السامية والتحريض على الارهاب ورفضت الأخذ به.
وزعماء اسرائيل لا يتورعون عن إعلان استخفافهم بالقواعد والقرارات الدولية. فعندما ناقشت الجمعية العامة للأمم المتحدة نتائج حرب العام 1967، صرّح وزير خارجية اسرائيل (ابا إيبان) بأن الجمعية اذا صوّتت بالاجماع مطالبة اسرائيل بالعودة الى خطوط الهدنة، فإن اسرائيل سترفض الامتثال لهذا القرار. وعندما أصدر مجلس الامن في العام 1969 قرارا بإدانة الاعتداء الاسرائيلي على جنوب لبنان، وصف المندوب الاسرائيلي القرار بأنه <<كالاجراءات التي سبقته، حادث دبلوماسي مصيره سلة القاذورات>>. وعندما أصدر مجلس الامن، في العام 1978، القرار 425 داعيا اسرائيل الى الانسحاب الفوري من الاراضي اللبنانية المحتلة، أصرت اسرائيل على الاحتلال ولم تطرد الا بنضال المقاومين اللبنانيين الاشاوس. وعندما اتخذ مجلس الامن، في الشهر الماضي، قرارا بإرسال لجنة لتقصي الحقائق في مجازر جنين، رفضت اسرائيل القرار وتراجع المجلس وأصبحت سمعة الامم المتحدة وهيبتها في أسفل سافلين.
ان اسرائيل سرطان زرع في بقعة عربية تمهيدا لامتداده الى كل الجسم العربي. والهدف من ذلك معروف: تدمير الوجود العربي، وشل الطاقات العربية، ومنع أي بلد عربي من إنجاز خطوة واحدة على طريق التطور والتقدم والانفتاح.
تنفرد اسرائيل بأضخم كمية وأبشع نوعية من الانتهاكات القانونية. فقرار التقسيم الذي مهّد الطريق لظهور اسرائيل كان مشوبا بالبطلان. وقبولها في عضوية الأمم المتحدة لم يتم الا بخديعة وضغط وشرط. وتنصلها من التزاماتها في الاراضي المحتلة أصبح مضرب المثل. وممارساتها المناهضة لحقوق الانسان والشعوب يصعب وصفها وتبريرها وتعدادها. واذا كانت تدّعي ان وجودها ككيان دولي يستمد شرعيته من قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29/11/1947، فهذا القرار مشوب بالبطلان المطلق لأنه يشكل تجاوزا لصلاحيات هذه المنظمة.
لقد وضعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني بموجب صك الانتداب الذي أقرته عصبة الأمم في 24/7/1922. وفي نهاية الحرب العالمية الثانية حلّت الأمم المتحدة محل العصبة، كمنظمة عالمية، وأوجدت نظاما جديدا مغايرا لنظام الانتداب، هو نظام الوصاية الدولية. وكرّس ميثاق الأمم المتحدة فصلين (12 و13) للحديث عن هذا النظام وعن أحكام مجلس الوصاية.
وبالاستناد الى نصوص الميثاق واجتهاد محكمة العدل الدولية (في قضية ناميبيا) أكد معظم الفقهاء الدوليين، ومنهم العلامة كلسن Kelsen:
ز ان الامم المتحدة لم تخلف العصبة في الحقوق المتعلقة بالأقاليم الخاضعة للانتداب.
ب وان نظام الوصاية لم يحل محل نظام الانتداب بصورة آلية.
ج وان صلاحيات الجمعية العامة في شؤون تلك الأقاليم مقيدة بأمرين: أحكام صك الانتداب، وأحكام ميثاق الامم المتحدة.
1 فالصك كان يتضمن عددا من الحلول وينص على انتهاء الانتداب بإقامة حكومة مستقلة في فلسطين. وكان بإمكان الأمم المتحدة، بعد تخلي بريطانيا عن الانتداب، ان تعلن بلوغ الشعب الفلسطيني مرحلة كافية من النضج السياسي تؤهله لنيل الاستقلال، أسوة ببقية الأقطار المشمولة بالانتداب التي استقلت منذ سنوات (العراق والاردن وسوريا ولبنان).
وكان بإمكانها كذلك، في حال اقتناعها بعدم أهلية هذا الشعب للاستقلال، ان تستوحي حلا من الحلول التي ينطوي عليها الميثاق الأممي: إما إقناع بريطانيا بالاستمرار في الانتداب، ولو لسنوات قليلة إضافية، وإما إخضاع فلسطين لنظام الوصاية الدولية تحت إدارة الأمم المتحدة، وإما عقد اتفاقية وصاية مع دولة اخرى للقيام بمهام الادارة والاشراف في فلسطين.
ولكن الأمم المتحدة فضّلت التقسيم فجاء قرارها مخالفا للمادة الخامسة من صك الانتداب التي تحظّر التنازل عن أراضي فلسطين او تأجيرها او وضعها تحت رقابة أية سلطة أجنبية.
2 والمخالفة التي ارتكبتها الأمم المتحدة لم تقف عند الاخلال بأحكام صك الانتداب، بل تعدتها الى الاخلال بنصوص الميثاق الأممي ذاته. فقرار التقسيم يتناقض مع المادتين 10 و14 من الميثاق اللتين تخوّلان الجمعية العامة حق إصدار التوصيات من دون اتخاذ القرارات. وقرار التقسيم هو، كما أرادته الجمعية العامة، قرار إلزامي لا توصية بسيطة، فأحد بنوده يطلب من مجلس الامن ان يعتبر <<كل محاولة لتغيير التسوية التي نص عليها القرار تهديدا للسلام، او إخلالا به، او عملا من أعمال العدوان>>.
والجمعية العامة التي أصدرت قرار التقسيم لا تستطيع اتخاذ قرارات قابلة للتطبيق بالقوة الا في إطار قرار <<الاتحاد من أجل السلام>> الذي خوّلها الحلول محل مجلس الامن في حال عجزه عن اتخاذ القرارات المهمة والعاجلة بسبب كثرة استعمال حق النقض. ولكن قرار <<الاتحاد>> صدر في العام 1950، اي بعد صدور قرار التقسيم.
والجمعية ملزمة، لدى إصدارها توصيات تتعلق بمصير شعب، باحترام مبدأ تقرير المصير الذي يعتبر من مبادئ الأمم المتحدة. وكان من واجبها، لدى عرض القضية الفلسطينية عليها، ان تلجأ الى إجراء استفتاء لمعرفة رغبات الاكثرية من الفلسطينيين. ولكنها لم تفعل. وكان بإمكانها كذلك التجاوب مع الاقتراح المطالب باستشارة محكمة العدل الدولية حول صلاحيات الامم المتحدة في هذه المسألة. ولكنها تهرّبت وتنصلت.
ولو أردنا الايجاز لقلنا ان إنشاء الكيان الصهيوني في فلسطين بقرار من الجمعية العامة يعتبر تصرفا لا يقوم على اي أساس قانوني، لأن الجمعية تجاوزت صلاحياتها باتخاذ قرار التقسيم، ولان القرار يتناقض مع مبدأ من مبادئ الأمم المتحدة، هو حق تقرير المصير، ولان عملية التصويت في الجمعية جرت، كما ذكر الرئيس الاميركي آنذاك، هاري ترومان، في ظل مناورات ومساومات وضغوط لم يسبق للأمم المتحدة ان عرفتها من قبل.
انضمام إسرائيل الى الأمم المتحدة
بشرط لم ينفذ
في 29/11/1948، تقدمت اسرائيل بطلب الى الأمم المتحدة لقبولها في عضويتها. فناقش مجلس الامن الطلب ورفض إصدار توصيته للجمعية العامة بقبولها.
وبعد هذا الاخفاق تجنّدت واشنطن واستعملت، كعادتها، مختلف أساليب الترغيب والترهيب، وطلبت من اسرائيل تقديم طلب جديد في 4/3/1949. وفي جلسة واحدة تغيّر الوضع وأوصى مجلس الامن بقبول اسرائيل في العضوية الأممية، باعتبارها دولة مستقلة ومحبة للسلام.
وفي 11/5/1949، وافقت الجمعية (وكانت تعقد دورة استثنائية) على التوصية بأغلبية 37، مقابل 12، وامتناع 9، واشترطت على اسرائيل تنفيذ قرار التقسيم وقرار اعادة اللاجئين، فكانت اسرائيل بذلك الدولة الوحيدة التي قبلت في العضوية بشرط، وارتبط قبولها بتنفيذ قرارين صادرين عن الجمعية العامة.
غير ان هذا القبول تم بمناورة خادعة تتلخص في إيهام الدول الاعضاء بأن الوفد الاسرائيلي الذي كان يتفاوض مع الوفد العربي في لوزان قد وقّع على بروتوكول يتضمن موافقة اسرائيل على التخلي عن الاراضي التي احتلتها خلافا لقرار التقسيم، وموافقتها على إعادة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم.
واكتشفت الخدعة بسرعة عندما أعن رئيس وزراء العدو (بن غوريون) بعد التصويت على قبول اسرائيل <<ان اسرائيل تعتبر قرار التقسيم قرارا غير مشروع وغير موجود>>، وعندما أعلنت وزارة خارجية العدو <<ان عودة أي لاجئ الى مكان إقامته الأصلية شيء مستحيل>>، وعندما برهنت تصرفات اسرائيل بعد ذلك على استخفاف الدولة الجديدة، والمدينة بوجودها للمنظمة العالمية، بأحكام الميثاق الأممي وعدم امتثالها لسلطة تلك المنظمة، وعدم الوفاء بالتعهدات التي التزمتها.
ومع ان إصرار اسرائيل على عدم تنفيذ قرارات الأمم المتحدة يشكّل إخلالا بالالتزامات التي تعهدت بها، ويجعل المنظمة في حل من التزاماتها تجاهها، ويخولها حق طردها من العضوية بعد تحقق الشرط الفاسخ او الملغي، فإن الجمعية العامة لم تجرؤ مرة على إدراج هذه المسألة في جدول أعمالها، ولم تفكر الدول العربية الأعضاء (وعددها 21) في إثارة هذا الموضوع للمطالبة بتنفيذ الشرط الفاسخ، او على الاقل لإرباك العدو في أرفع محفل دولي.
إسرائيل دولة احتلال تتنصّل من التزاماتها
تضمنت جميع المواثيق الدولية وقوانين الحرب، منذ القرن التاسع عشر، رفضا قاطعا لاحتلال الاراضي بالقوة، ومنحت الشعب الخاضع للاحتلال حق المقاومة والثورة على قوات الاحتلال.
(...) ويعد الاحتلال الحربي مرحلة تعقب لجوء إحدى الدول الى استخدام القوة المسلحة. ومن دلائل الاحتلال وقوع كل اقليم الدولة المغلوبة، او جزء منه، تحت سلطة الدولة الغازية.
ومن المسائل المهمة التي يثيرها الاحتلال الحربي: مسألة السيادة ومسألة إدارة الاقليم المحتل.
ففي العام 1949، صدرت اتفاقيات جنيف الأربع ووافقت عليها دول العالم، بما فيها اسرائيل. وحددت الاتفاقية الرابعة منها المبادئ والقواعد الاساسية التي يخضع لها الاحتلال الحربي. ومن هذه النقاط: ان الاحتلال وضع موقت ليس له صفة الدوام، ولا يؤدي، من الناحية القانونية، الى نقل السيادة من دولة الى اخرى، فهو ليس سوى حالة من الضرورة، او نوع من القوة القاهرة التي لا تسفر أبدا عن نقل السيادة.
والى جانب مسألة السيادة يعالج قانون الاحتلال الحربي مسألة ادارة الاقليم المحتل تجنبا لنشوء فراغ سياسي وإداري وقيام حالة من الفوضى بسبب توقف المؤسسات الدستورية عن العمل. ويرسم هذا القانون لسلطة الاحتلال حدود الصلاحيات التي يحق لها ان تمارسها لإدارة الاقليم المحتل، ويلزمها الامتناع عن إحداث تغييرات في المؤسسات الاساسية، الا في حالة الضرورة القصوى، او في حدود الضرورات التي يفرضها حفظ النظام والامن.
فموقف القانون الدولي المعاصر، المتمثل بالمواثيق والاتفاقيات والاجتهادات الدولية، من صلاحيات دولة الاحتلال، واضح لا غموض فيه. وفي العام 1968، أنشأت الجمعية العامة <<لجنة خاصة للتحقيق في الممارسات الاسرائيلية التي تمس حقوق الانسان في الاراضي المحتلة>>. غير ان اسرائيل رفضت السماح لها بزيارة تلك الاراضي.
الممارسات الإسرائيلية انتهاك لحقوق الإنسان
اهتمت الامم المتحدة، منذ قيامها، بحقوق الانسان التي لم تعد مسألة فردية تعالج في نطاق القوانين الداخلية، بل أصبحت قضية عالمية وإنسانية يؤدي انتهاكها الى اندلاع الانتفاضات والثورات وتعكير العلاقات بين الدول.. وكل مطلع على ممارسات اسرائيل يلحظ الاخلال الفاضح بكل التزاماتها النابعة من اتفاقيات حقوق الانسان. وقد صدرت عن أجهزة الامم المتحدة مئات القرارات التي تذكّر اسرائيل بالمبادئ الواردة في الاعلان العالمي وبقية الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحق كل إنسان في العودة الى بلده لاسترداد أمواله والانضمام الى أسرته، وتطالبها بإلغاء التدابير التي اتخذتها، كضمّ الاراضي، وإقامة المستعمرات، وتهجير السكان، وهدم القرى والأحياء، وإساءة معاملة المساجين والمعتقلين وتعذيبهم، واللجوء الى العقوبات الجماعية.
واعترفت الامم المتحدة بأن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ناشئة من إنكار حقوقهم غير القابلة للتصرف، وبأن للفلسطينيين الحق في تقرير مصيرهم بحرية. وحق الشعب في تقرير مصيره يشمل، بلا شك، حقه في العودة الى وطنه. وكان مجلس الأمن، في العام 1988، قد منح الفلسطينيين الذين طردتهم اسرائيل خلال الانتفاضة المباركة الاولى حق العودة الى بلدهم.
غير ان اسرائيل التي تعلن انضمامها الى معظم المواثيق الدولية الخاصة بحماية حقوق الانسان، تمارس أبشع أنواع القهر والظلم والاضطهاد ضد الفلسطينيين وبقية العرب. ويتجلى ذلك في الامور التالية:
ضم الاراضي المحتلة، وإنشاء المستعمرات بغزارة، وطرد السكان، وتدمير المؤسسات، ومصادرة الاملاك.
الاعتقالات والعقوبات الجماعية
عدم السماح للمؤسسات الانسانية بزيارة المعتقلين.
محاصرة المدن والقرى والمخيمات، ومنع إدخال المواد الغذائية والطبية اليها، وقطع المياه والكهرباء عنها، وإكراه أهلها على التزام منازلهم.
ارتكاب المجازر الجماعية التي تفوق بهولها <<المحرقة>> التي يتبجحّون بها.
إبعاد المسؤولين والقياديين، او اختطافهم، او اغتيالهم.
رفض اعادة اللاجئين والمهجرين الى ديارهم تنفيذا للقرارات الدولية.
التعسف في معاملة السكان العرب واعتقال رجال الدين.
تدنيس المعابد وانتهاك حرية العبادة.
التسبب في وفاة معتقلين في السجون الاسرائيلية بسبب الاهمال او التعذيب.
اقامة الاسلاك الشائكة والسواتر الترابية والاسوار الواقية لمنع السكان من الاتصال بالخارج.
ممارسة سياسة من التمييز العرقي والعنصري والديني لم تخطر ببال الحركات الفاشية.
مداهمة المنازل والمحلات التجارية، والعبث بمحتوياتها، وسرقة كل ثمين ونفيس فيها، وختمها بالشمع الاحمر حينا، ونسفها أحيانا لطمس معالم الجرائم المرتكبة.
اعتقال الآلاف من الشباب بشكل اعتباطي عشوائي، وإذلالهم واقتيادهم الى جهات مجهولة، وزجهم في معتقلات لا تتوافر فيها ادنى الشروط الأمنية والصحية.
احتجاز الاقارب مقابل تسليم المطولبين.
إتلاف الاشجار المثمرة، والقضاء على المحاصيل الزراعية، وتحويل الاراضي والمناطق المحتلة الى أرض محروقة.
ان جميع هذه النماذج من الاعمال التعسفية والاستبدادية التي ترتكبها اسرائيل في الاراضي العربية المحتلة تشكل خرقا لأبسط قواعد السلوك المطلوبة من قوات الاحتلال تجاه المدنيين، وتشكل خرقا فاضحا لكل الاتفاقيات حول حقوق الانسان.
الخلاصة ان اسرائيل لا تقيم أي وزن للمواثيق والقرارات الدولية والانسانية. انها لا ترى في القوانين والمبادئ الا وسائل لتحقيق أهدافها التوسعية. بل انها تعتقد ان القوانين والمواثيق توضع لخدمة مصالحها، فإذا ما تعارض القانون او القرار مع مصالحها نعتته بمعاداة السامية والتحريض على الارهاب ورفضت الأخذ به.
وزعماء اسرائيل لا يتورعون عن إعلان استخفافهم بالقواعد والقرارات الدولية. فعندما ناقشت الجمعية العامة للأمم المتحدة نتائج حرب العام 1967، صرّح وزير خارجية اسرائيل (ابا إيبان) بأن الجمعية اذا صوّتت بالاجماع مطالبة اسرائيل بالعودة الى خطوط الهدنة، فإن اسرائيل سترفض الامتثال لهذا القرار. وعندما أصدر مجلس الامن في العام 1969 قرارا بإدانة الاعتداء الاسرائيلي على جنوب لبنان، وصف المندوب الاسرائيلي القرار بأنه <<كالاجراءات التي سبقته، حادث دبلوماسي مصيره سلة القاذورات>>. وعندما أصدر مجلس الامن، في العام 1978، القرار 425 داعيا اسرائيل الى الانسحاب الفوري من الاراضي اللبنانية المحتلة، أصرت اسرائيل على الاحتلال ولم تطرد الا بنضال المقاومين اللبنانيين الاشاوس. وعندما اتخذ مجلس الامن، في الشهر الماضي، قرارا بإرسال لجنة لتقصي الحقائق في مجازر جنين، رفضت اسرائيل القرار وتراجع المجلس وأصبحت سمعة الامم المتحدة وهيبتها في أسفل سافلين.
ان اسرائيل سرطان زرع في بقعة عربية تمهيدا لامتداده الى كل الجسم العربي. والهدف من ذلك معروف: تدمير الوجود العربي، وشل الطاقات العربية، ومنع أي بلد عربي من إنجاز خطوة واحدة على طريق التطور والتقدم والانفتاح.