الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى والصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه .. وبعد : لقد جعل الله للإنسان هذه الحياة الدنيا دارا أولى يحيا فيها ويعمرها ليستعين بذلك على عبادة ربه طاعة ومحبة وإخلاصاً ثم ابتلاه بالتكاليف ( بالأوامر والنواهي ) ليمحصه رحمة منه وفضلا ، يقول ابن القيم : ابتلاء الخلق بالأوامر والنواهي رحمة لهم وحمية لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به ، ومن رحمته أن نغص عليهم الدنيا وكدرها لئلا يسكنوا إليها ولا يطمئنوا بها ويرغبوا عن النعيم المقيم في دار ه وجواره ، فساقهم إليها بسياط الابتلاء والامتحان ، فمنعهم ليعطيهم ، وابتلاهم ليعافيهم ، وأماتهم ليحييهم .
الابتلاء : التكليف في الأمر الشاق، ويكون في الخير والشر معا ومن ذلك قوله تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } (الأنبياء : 35 )
انواع الابتلاء
1- الابتلاء التكليفي: وهو ابتلاء حمل الأمانة { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } (الأحزاب : 72 )
2- الابتلاء الشخصي: وهو مايصيب الإنسان في نفسه أو فيمن حوله من أفراد أسرته في السراء والضراء { إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } (الإنسان : 2-3 )
3- الابتلاء الاجتماعي: وهو أن يبتلي الله الناس بعضهم ببعض وذلك إما برفع بعضهم فوق بعض درجات { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ } (الأنعام : 165 )
وإما بالتفاوت فيما بينهم في حظوظ الحياة الدنيا من الرفعة أو الغني والفقر {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ }(الشورى : 27 )
4- الابتلاء الجماعي أو الأممي : ويتمثل ذلك فيما يصيب الأمة أو الجماعة بأسرها من رغد العيش أو ضيقه من اعتدال المناخ أو قسوته، { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } (هود : 117 )
تعامل المسلم المبتلى بالطاعات
1- أن يعلم يقينا أن الطاعة هي من توفيق الله عز وجل وبمشيئته ولو شاء سلبها منه، وعليه أن يردد دائما قول الله { وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ } (الأعراف : 43 )
2- أن يتحلى بالخوف من الله عز وجل وأن يرجوه قبل طاعاته، فقد كان السلف رضوا الله عليهم كما أخبر الحسن البصري قد عملوا بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم ، إن المؤمن جمع إيمانا وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنا.
3- ألا يأمن الطائع مكر الله تعالى فينقلب بهذا الأمن فيصير من العصاة وهو لا يدري وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء: «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» رواه الترمذي.
4- ألا يَمُنّ بطاعته على الله تعالى { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } (الحجرات : 17 )
5- أن يحذر الوقوع في البدعة فيعبد الله بغير ما أُمِر أن يُعبد به .
6- أن ينأى عن التطرف والتشدد في أمر الدين فإنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه .
7- أن يعلم أن هناك عدوا هو الشيطان يتربص به الدوائر ويريد الإيقاع به ، وأنه قد يدخل عليه من باب الطاعة فيجعله مغترا بها متكبرا على غيره من العصاة جاعلا نفسه في مكانه فوقهم.
تعامل المسلم المبتلى بالسراء
1- اليقين الجازم بأن هذه الدنيا وما فيها غرض زائل، وأن الرجعى إلى الله- عز وجل- ومن ثم فلا ينبغي أن ينسيه هذا المال أو الجاه ذكر الله وافتقاره إليه { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } (فاطر : 15 )
2- شكر النعم: أن يحمد الله سبحانه ويشكره على ما أنعم به عليه {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } (إبراهيم : 7 )
3- الزكاة: أداء حق الله تعالى في هذا المال {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } (القصص : 77 )
4- الإخلاص: أن يلتزم بالطاعة والعبادة والإخلاص لله تعالى في سائر الأعمال الصالحة { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } (البينة : 7 ) ، وأن لا يأمن مكر الله { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } (الأعراف : 99 ) ، إن الأمن من مكر الله يدل على ضعف الإيمان فلا يبالي صاحبه بما ترك من الواجبات وفعل من المحرمات لعدم خوفه من الله بما فعل أو ترك وهذا من أعظم الذنوب .5- الابتعاد عن الذنوب الملكية: مثل الجبروت والتكبر والعظمة والقهر والاستعلاء في الأرض وذلك كما حدث من فرعون وغيره، ويتبع ذلك البعد عن الغرور وحب الثناء واستعباد الخلق وظلمهم